عربي
Friday 22nd of November 2024
0
نفر 0

حياة الامام زین العابدین(علیه السلام)

حياة الامام زین العابدین(علیه السلام)

ليس في تاريخ هذا الشرق، الذي هو مهد النبوات من يضارع الإمام زين العابدين (عليه السلام) في ورعه وتقواه، وشدة إنابته إلى الله، اللهم إلا آباؤه الذين أضاءوا الحياة الفكرية بنور التوحيد، وواقع الإيمان.

لقد حكت سيرة هذا الإمام العظيم سيرة الأنبياء والمرسلين، وشابههم بجميع ذاتياتهم، واتجاهاتهم، فهو كالمسيح في زهده وإنابته إلى الله، وكالنبي أيوب في بلواه وصبره، وكالرسول محمد (صلى الله عليه وآله) في صدق عزيمته وسمو أخلاقه، فهو زين العابدين ولم يُمنح لأحد هذا اللقب سواه.

وبرز الإمام زين العابدين (عليه السلام) على مسرح الحياة الإسلامية كألمع سياسي إسلامي عرفه التاريخ، فقد استطاع بمهارة فائقة أن ينهض بمهام الإمامة وإدامة نهضة أبوه الإمام الحسين (عليه السلام)، برغم ما به من قيد المرض وأسر الأمويين. لقد حقق الإمام (عليه السلام) هذه الانتصارات الباهرة من خلال خطبتين ألقاها على الجماهير الحاشدة في الكوفة وفي الشام والتي كان لها الأثر البالغ في إيقاظ الأمة وتحريرها من عوامل الخوف والإرهاب.

لقد كان الإمام زين العابدين (عليه السلام) من أقوى العوامل في تخليد الثورة الحسينية، وتفاعلها مع عواطف المجتمع وأحاسيسه، وذلك بمواقفه الرائعة التي لم يعرف لها التاريخ مثيلاً في دنيا الشجاعة والبطولات، وظل يلقي الأضواء على معالم الثورة الحسينية، ويبث موجاتها على امتداد الزمن والتاريخ. وكان من مظاهر تخليده للثورة الحسينية كثرة بكائه على ما حل بأبيه وأهل بيته وأصحابه من أهوال يوم الطف، وكان لهذا الأسلوب الأثر الكبير في نفوس المسلمين وفي تحرير الإنسان من الظلم والعبودية والطغيان ورفضهما.

 

نشأة الامام زین العابدین

لقد توفّرت للإمام زين العابدين (عليه السلام) جميع المكوّنات التربوية الرفيعة التي لم يظفر بها أحدٌ سواه، وقد عملت علي تكوينه وبناء شخصيّته بصورة متميّزة، جعلته في الرعيل الأوّل من أئمّة المسلمين الذين منحهم الرسول (صلي اللّه عليه وآله وسلم) ثقته، وجعلهم قادة لاُمّته واُمناء علي أداء رسالته. نشأ الإمام في أرفع بيت وأسماه ألا وهو بيت النبوّة والإمامة، الذي أذن اللّه أن يرفع ويذكر فيه اسمه، ومنذ الأيام الاُولي من حياته كان جده الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) يتعاهده بالرعاية، ويشعّ عليه من أنوار روحه التي طبّق شذاها العالم بأسره، فكان الحفيد ـ بحقٍّ ـ صورة صادقة عن جدّه، يحاكيه ويضاهيه في شخصيّته ومكوّناته النفسية. كما عاش الإمام (عليه السلام) في كنف عمّه الزكي الإمام الحسن المجتبي (عليه السلام) سيّد شباب أهل الجنّة وريحانة رسول اللّه (صلي اللّه عليه وآله وسلم) وسبطه الأوّل، إذ كان يغدق عليه من عطفه وحنانه، ويغرس في نفسه مُثُلَه العظيمة وخصاله السامية، وكان الإمام (عليه السلام) طوال هذه السنين تحت ظلّ والده العظيم أبي الأحرار وسيّد الشهداء الإمام الحسين بن عليّ (عليهما السلام) الذي رأي في ولده عليّ زين العابدين (عليه السلام) امتداداً ذاتيّاً ومشرقاً لروحانيّة النبوّة ومُثُل الإمامة، فأولاه المزيد من رعايته وعنايته، وقدّمه علي بقية أبنائه، وصاحَبَه في أكثر أوقاته. لقد ولد الإمام زين العابدين (عليه السلام) في المدينة في اليوم الخامس من شعبان سنة (36 ه ) يوم فتح البصرة، حيث إنّ الإمام عليّ (عليه السلام) لم ينتقل بعد بعاصمته من المدينة الي الكوفة. وتوفّي بالمدينة سنة (94 أو 95 ه ). وقد ذكر بعض المؤرخين أنّه ولد في سنة (38 ه ) وفي مدينة الكوفة، حيث كان جدّه الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) قد اتّخذها عاصمة لدولته بعد حرب الجمل، فمن الطبيعي أن يكون الحسين السبط (عليه السلام) مع أهله وأبيه (عليه السلام) في هذه الفترة بشكل خاص .

 

مظاهر شخصیة الامام زین العابدین

الحلم

كان الإمام من أعظم الناس حلماً، وأكظمهم للغيظ، فمن صور حلمه التي رواها المؤرّخون : 1 ـ كانت له جارية تسكب علي يديه الماء إذا أراد الوضوء للصلاة، فسقط الإبريق من يدها علي وجهه الشريف فشجّه، فبادرت الجارية قائلة: إنّ اللّه عزّوجلّ يقول: (والكاظمين الغيظ) وأسرع الإمام قائلاً : «كظمت غيظي»، وطمعت الجارية في حلم الإمام ونبله، فراحت تطلب منه المزيد قائلة: (والعافين عن الناس) فقال الإمام (عليه السلام): «عفا اللّه عنك»، ثمّ قالت: (واللّه يحبّ المحسنين). فقال (عليه السلام) لها: «اذهبي فأنت حرّة». 2 ـ سبّه لئيمٌ فأشاح (عليه السلام) بوجهه عنه، فقال له اللئيم: إيّاك أعني... وأسرع الإمام قائلاً: «وعنك اُغضي...» وتركه الإمام ولم يقابله بالمثل. 3 ـ ومن عظيم حلمه (عليه السلام): أنّ رجلاً افتري عليه وبالغ في سبّه، فقال (عليه السلام) له: «إن كُنّا كما قلت فنستغفر اللّه ، وإن لم نكن كما قلت فغفر اللّه لك...»3.

 

السخاء

أجمع المؤرِّخون علي أنّه كان من أسخي الناس وأنداهم كفّاً، وأبرَّهم بالفقراء والضعفاء، وقد نقلوا نوادر كثيرة من فيض جوده، منها: 1 ـ مرض محمّد بن اُسامة فعاده الإمام (عليه السلام) ، ولمّا استقرّ به المجلس أجهش محمّد بالبكاء، فقال له الإمام (عليه السلام): ما يبكيك؟ فقال: عليّ دين، فقال له الإمام: كم هو؟ فأجاب: خمسة عشر ألف دينار، فقال له الإمام (عليه السلام): هي عليّ، ولم يقم الإمام من مجلسه حتي دفعها له. 2 ـ ومن كرمه وسخائه أنّه كان يطعم الناس إطعاماً عامّاً في كلّ يوم، وذلك في وقت الظهر في داره. 3 ـ وكان يعول مائة بيتٍ في السرّ، وكان في كلّ بيتٍ جماعة من الناس.

 

التعامل مع الفقراء

أ ـ تكريمه للفقراء : كان (عليه السلام) يحتفي بالفقراء ويرعي عواطفهم ومشاعرهم، فكان إذا أعطي سائلاً قبّله، حتي لا يُري عليه أثر الذلّ والحاجة، وكان إذا قصده سائل رحّب به وقال له: «مرحباً بمن يحمل لي زادي إلي الآخرة». ب ـ عطفه علي الفقراء: كان (عليه السلام) كثير العطف والحنان علي الفقراء والمساكين، وكان يعجبه أن يحضر علي مائدة طعامه اليتامي والأضراء والزمني والمساكين الذين لا حيلة لهم، وكان يناولهم بيده، كما كان يحمل لهم الطعام أو الحطب علي ظهره حتي يأتي باباً من أبوابهم فيناولهم إيّاه. وبلغ من مراعاته لجانب الفقراء والعطف عليهم أنّه كره اجتذاذ النخل في الليل؛ وذلك لعدم حضور الفقراء في هذا الوقت فيحرمون من العطاء، فقد قال (عليه السلام) لقهرمانه ووجده قد جذّ نخلاً له من آخر الليل: «لا تفعل، ألا تعلم أنّ رسول اللّه (صلي اللّه عليه وآله وسلم) نهي عن الحصاد والجذاذ بالليل؟!». وكان يقول: «الضغث تعطيه من يسأل فذلك حقه يوم حصاده». ج ـ نهيه عن ردّ السائل: وكان الإمام (عليه السلام) ينهي عن ردّ السائل؛ وذلك لما له من المضاعفات السيّئة التي منها زوال النعمة وفجأة النقمة. وقد أكد الإمام (عليه السلام) ضرورة ذلك في كثيرٍ من أحاديثه، فقد روي أبو حمزة الثمالي، قال: «صلّيت مع عليّ بن الحسين الفجر بالمدينة يوم جمعة، فلمّا فرغ من صلاته وسبحته نهض إلي منزله وأنا معه، فدعا مولاةً له تسمّي سكينة، فقال لها: لا يعبر علي بابي سائل إلاّ أطعمتموه فإنّ اليوم يوم جمعة، فقلت له: ليس كل من يسأل مستحقاً، فقال (عليه السلام): يا ثابت، أخاف أن يكون بعض من يسألنا مستحقاً فلا نطعمه، ونردّه فينزل بنا أهل البيت ما نزل بيعقوب وآله، أطعموهم، أطعموهم، إنّ يعقوب كان يذبح كلّ يوم كبشاً فيتصدّق منه، ويأكل هو وعياله منه، وإنّ سائلاً مؤمناً صوّاماً محقّاً، له عند اللّه منزلة وكان مجتازاً غريباً اعتر علي باب يعقوب عشية جمعةٍ عند أوان إفطاره، يهتف علي بابه: أطعموا السائل الغريب الجائع من فضل طعامكم، يهتف بذلك علي بابه مراراً وهم يسمعونه، وقد جهلوا حقّه، ولم يصدّقوا قوله، فلمّا يئس أن يطعموه وغشيه الليل استرجع واستعبر وشكا جوعه إلي اللّه عزّ وجل، وبات طاوياً وأصبح صائماً جائعاً صابراً حامداً للّه ، وبات يعقوب وآل يعقوب شباعاً بطاناً وأصبحوا وعندهم فضلة من طعامهم، قال فأوحي اللّه إلي يعقوب في صبيحة تلك الليلة: لقد أذللت يا يعقوب عبدي ذلة استجررت بها غضبي، واستوجبت بها أدبي ونزول عقوبتي، وبلواي عليك وعلي ولدك. يا يعقوب، إنّ أحبّ أنبيائي إليّ وأكرمهم عليّ من رحم مساكين عبادي وقرّبهم إليه وأطعمهم، وكان لهم مأوي وملجأ، يا يعقوب، أما رحمت ذميال5 عبدي المجتهد في عبادته، القانع باليسير من ظاهر الدنيا؟!... أما وعزّتي لأنزلنّ بك بلواي، ولأجعلنّك وولدك غرضاً لمصائبي. فقال أبو حمزة: جعلت فداك متي رأي يوسف الرؤيا؟ قال (عليه السلام): في تلك الليلة التي بات فيها يعقوب وآل يعقوب شباعاً، وبات فيها ذميال طاوياً جائعاً».

 

العزة و الاباء

وكان من أعظم ما يصبو إليه الامام زين العابدين (عليه السلام) في حياته الصدقة علي الفقراء لإنعاشهم ورفع البؤس عنهم، وكان (عليه السلام) يحثّ علي الصدقة؛ وذلك لما يترتّب عليها من الأجر الجزيل، فقد قال: «ما من رجل تصدّق علي مسكين مستضعف فدعا له المسكين بشيء في تلك الساعة إلاّ استجيب له». ونشير إلي بعض ألوان صدقاته وجميل خصاله : أ ـ التصدّق بثيابه: كان (عليه السلام) يلبس في الشتاء الخزّ، فإذا جاء الصيف تصدّق به أو باعه وتصدّق بثمنه، وكان يلبس في الصيف ثوبين من متاع مصر ويتصدّق بهما إذا جاء الشتاء، وكان يقول: «إني لأستحي من ربّي أن آكل ثمن ثوب قد عبدت اللّه فيه». ب ـ التصدّق بما يحبّ: كان يتصدّق باللوز والسكَّر، فسئل عن ذلك فقرأ قوله تعالي: (لَن تَنَالُوا البِّرَّ حَتَّي تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ )4. وروي أنّه كان عليّ بن الحسين (عليه السلام) يعجبه العنب، فكان يوماً صائماً فلمّا أفطر كان أوّل ما جاء العنب، أتته أُمّ ولد له بعنقود عنب، فوضعته بين يديه، فجاء سائل فدفعه إليه، فدسّت أُمّ ولده الي السائل فاشترته منه، ثم أتته به فوضعته بين يديه، فجاء سائل آخر فأعطاه إياه ففعلت أُم الولد كذلك، ثم أتته به فوضعته بين يديه، فجاء سائل آخر فأعطاه...5. ج ـ مقاسمة أمواله : وقاسم الإمام أمواله مرّتين فأخذ قسماً له، وتصدّق بالقسم الآخر علي الفقراء والمساكين6. د ـ صدقاته في السرّ : وكان أحبّ شيء عند الإمام (عليه السلام) الصدقة في السر، لئلاّ يعرفه أحد، وقد أراد أن يربط نفسه ومن يعطيهم من الفقراء برباط الحبّ في اللّه تعالي، توثيقاً لصلته بإخوانه الفقراء بالإسلام، وكان يحثّ علي صدقة السرّ ويقول: «إنّ صدقة السرّ تطفئ غضب الربّ»

 

الزهد

لقد اشتهر في عصره (عليه السلام) أنّه من أزهد الناس حتي أنّ الزهري حينما سُئل عن أزهد الناس قال: عليّ بن الحسين. نظر عليّ بن الحسين (عليه السلام) سائلاً يسأل وهو يبكي، فقال: «لو أنّ الدنيا كانت في كفّ هذا ثمّ سقطت منه ما كان ينبغي له أن يبكي عليها». وقال سعيد بن المسيب: كان عليّ بن الحسين (عليه السلام) يعظ الناس ويزهّدهم في الدنيا ويرغبهم في أعمال الآخرة بهذا الكلام في كلّ جمعة في مسجد رسول اللّه (صلي اللّه عليه وآله وسلم) وحفظ عنه وكتب، وكان يقول: «أيّها الناس، اتّقوا اللّه واعلموا أنّكم إليه تُرجعون... يابن آدم، إنّ أجلك أسرع شيء إليك، قد أقبل نحوك حثيثاً يطلبك ويوشك أن يدركك، وكأن قد اُوفيت أجلك وقبض الملك روحك وصرت إلي قبرك وحيداً، فردّ إليك فيه روحك، واقتحم عليك فيه ملكان ناكر ونكير لمساءلتك وشديد امتحانك... فاتّقوا اللّه عباد اللّه ، واعلموا أنّ اللّه عزّوجلّ لم يحبّ زهرة الدنيا وعاجلها لأحد من أوليائه، ولم يرغّبهم فيها وفي عاجل زهرتها وظاهر بهجتها، وإنّما خلق الدنيا وأهلها ليبلوهم فيها أيّهم أحسن عملاً لآخرته، وأيم اللّه لقد ضرب لكم فيه الأمثال، وعرّف الآيات لقوم يعقلون، ولا قوة إلاّ باللّه ، فازهدوا فيما زهّدكم اللّه عزّوجلّ فيه من عاجل الحياة الدنيا... ولا تركنوا إلي زهرة الدنيا وما فيها ركونَ من اتّخذها دار قرار ومنزل استيطان، فإنّها دار بُلغة، ومنزل قلعة، ودار عمل، فتزوّدوا الأعمال الصالحة فيها قبل تفرّق أيّامها، وقبل الإذن من اللّه في خرابها... جعلنا اللّه وإيّاكم من الزاهدين في عاجل زهرة الحياة الدنيا، الراغبين لآجل ثواب الآخرة، فإنّما نحن به وله...».

 

مع أبویه

وقابل الإمام المعروف الذي أسدته إليه مربّيته بكلّ ما تمكّن عليه من أنواع الإحسان، وقد بلغ من جميل برّه بها أنّه امتنع أن يؤاكلها فلامه الناس، وأخذوا يسألونه بإلحاح قائلين: أنت أبرّ الناس وأوصلهم رحماً، فلماذا لا تؤاكل اُمّك؟ فأجابهم جواب من لم تشهد الدنيا مثل أدبه وكماله قائلاً: «أخشي أن تسبق يدي إلي ما سبقت إليه عينها فأكون عاقّاً لها». ومن برّه لأبويه دعاؤه لهما، وهو من أسمي القواعد في التربية الإسلامية الهادفة، وهذه مقاطع من هذه اللوحة الخالدة من دعائه (عليه السلام): « ... واخصص اللهمّ والديّ بالكرامة لديك، والصلاة منك يا أرحم الراحمين... وألهمني علم ما يجب لهما عليّ إلهاماً، واجمع لي علم ذلك كلّه تماماً، ثم استعملني بما تلهمني منه، ووفّقني للنفوذ فيما تبصرني من علمه... اللهم اجعلني أهابهما هيبة السلطان العسوف، وأبرّهما برّ الاُم الرؤوف، واجعل طاعتي لوالديّ وبرّي بهما أقرّ لعيني من رقدة الوسنان، وأثلج لصدري من شربة الظمآن، حتي اُوثر علي هواي هواهما، واُقدّم علي رضاي رضاهما، واستكثر برّهما بي وإن قلّ، واستقلّ برّي بهما وإن كثر. اللهمّ خفّض لهما صوتي، وأطب لهما كلامي، وألِن لهما عريكتي4، واعطف عليهما قلبي، وصيرني بهما رفيقاً وعليهما شفيقاً... اللهمّ اشكرلهما تربيتي، وأثبهما علي تكرمتي، واحفظ لهما ما حفظاه منّي في صغري... اللهمّ لا تُنسني ذكرهما في أدبار صلواتي، وفي آنٍ من آناء ليلي، وفي كل ساعة من ساعات نهاري... اللهمّ صلّ علي محمد وآله، واغفر لي بدعائي لهما، واغفر لهما ببرّهما بي...»5.

 

الإنابة الی الله

إنّ اشتهار الإمام بلقب زين العابدين وسيّد الساجدين ممّا يشير إلي وضوح عنصر الإنابة إلي اللّه ، والانقطاع إليه في حياة الإمام وسيرته وشخصيّته. علي أنّ أدعية الصحيفة السجّادية هي الدليل الآخر علي هذه الحقيقة، فإنّ إلقاء نظرة سريعة وخاطفة علي عناوين الأدعية يكشف لنا مدي التجاء الإمام إلي اللّه في شؤون حياته، فما من موقف إلاّ وللإمام فيه دعاء وابتهال وتضرّع، هذا فضلاً عن مضامين الأدعية التي يكاد ينفرد بها هو (عليه السلام) في هذه الصحيفة المعروفة وغيرها، لقد ذاب الإمام في محبّة اللّه وأخلص له أعظم الإخلاص، وقد انعكس ذلك علي جميع حركاته وسكناته. وممّا رواه المؤرخون: أنّه اجتاز علي رجل جالس علي باب رجل ثريّ فبادره الإمام قائلاً: «ما يقعدك علي باب هذا المترف الجبار؟ فقال: البلاء، فقال (عليه السلام): قم فاُرشدك إلي بابٍ خير من بابه وإلي ربٍّ خير لك منه...». ونهض معه الرجل إلي مسجد رسول اللّه (صلي اللّه عليه وآله وسلم) وعلّمه ما يعمله من الصلاة والدعاء وتلاوة القرآن، وطلب الحاجة من اللّه والالتجاء إلي حصنه الحريز.

 

الإمام السجاد (ع) في الكوفة:

يدخل موكب السبايا إلى الكوفة، تتقدمه السيدة زينب (ع) بطلة كربلاء، والإمام السجاد(ع). ويحتشد الناس لاستقبال الموكب. ويدخل أبناء علي بن ابي طالب إلى الكوفة حيث جعلها علي (ع) حاضرة البلاد الإسلامية بالأمس القريب. وتتقدّم زينب (ع) بين الناس وكأنها لم تغادرهم بالأمس القريب مع أخيها الحسين إلى المدينة. وأهل الكوفة يعلمون جيداً من هم هؤلاء السبايا والأسرى. لذلك أراد الإمام السجاد أن يصوّر لهم حجم المجزرة التي تسبّبوا بها بخذلانهم إمامهم الحسين (ع): "أنا ابن من انتهكت حرمته وسلبت نعمته وانتهب ماله وسبي عياله، أنا ابن المذبوح بشط الفرات من غير دخل ولا ترات.." ويعلو البكاء فيقطعه صوت زينب (ع): "فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً فلقد ذهبتم بعارها وشنارها قُتل سليل خاتم النبوة وسيد شباب أهل الجنة فتعساً لكم وسحقاً فلقد خاب السعي وتبّت الأيدي وبئتم بغضب من الله ورسوله.." لقد سمعوا من خلالها صوت علي بن أبي طالب خليفتهم وهو يستصرخهم ويخاطب ضمائرهم فاهتز وجدانهم لذلك واعترتهم موجة من السخط والغليان لا تلبث إلاّ قليلاً حتى تتفجر ثورات وبراكين لتضيف مسمماراً إلى نعش المشروع الأموي الطاغي..

 

الإمام السجاد (ع) في الشام:

وانتقل الموكب إلى الشام حيث يوجد الخليفة يزيد بن معاوية الذي يريد أن يستشعر بنشوة النصر فأقاموا له عيداً وفرحاً كبيراً. لقد انتصر "خليفة رسول الله!!!" ولكن على مَنْ؟! إنهم لا يعرفون حقيقة هؤلاء الأسرى والسبايا، فانبرى الإمام السجاد (ع) ليكشف لهم الحقيقة: "أيها الناس، أنا ابن مكة ومنى، أنا ابن زمزم والصفا، أنا ابن من حمل الركن بأطراف الردا، أنا ابن من صلى بملائكة السما، أنا ابن من أوحى إليه الجليل ما أوحى، أنا ابن فاطمة الزهراء، أنا ابن خديجة الكبرى، أنا ابن المرمّل بالدما، أنا ابن ذبيح كربلاء..." وانقلب العيد إلى دهشة غمرت الوجوه، وتحولت الفرحة إلى تساؤلات ترتسم في الأذهان. وانفلت زمام الأمر من يد يزيد، لقد فضحت هذه الكلمات الحكم الأموي وساهمت في تعريته أمام أهل الشام.

 

تفاعلات ثورة كربلاء:

فتحت ثورة الحسين (ع) وحركة الإمام السجاد (ع) في الكوفة والشام، الباب على مصراعيه أمام ثورات لاحقة كانت تنفجر من حين لاخر. وتختلف فيما بينها. إلاّ أنها تجتمع على أمر واحد. وهو مقارعة المشروع الأموي لقد كسر الإمام الحسين (ع) الحاجز، وساهم الإمام السجاد (ع) في إثارة الرأي العام، فكانت ثورة المدينة بقيادة عبد الله بن حنظلة الأنصاري الذي طرد ال أمية من المدينة.

ثم جاءت ثورة مكة بقيادة عبد الله بن الزبير التي لم تنتهِ إلاّ بعد محاصرة مكة ورميها بالمنجنيق، ثم انفجرت ثورة التوابين بقيادة سليمان بن صرد الخزاعي تحت شعار "وجوب التكفير عن ذنبهم لعدم نصرتهم الحسين (ع)"

وأخيراً جاءت ثورة المختار الثقفي الذي تتبَّع قتلة الحسين (ع) فقتل منهم مائتين وثمانين رجلاً منهم عبيد الله بن زياد وعمر بن سعد والشمر بن ذي الجوشن.

 

مضاهر العبادة في حیاة الامام زین العابدین

أجمع معاصرو الإمام زين العابدين (عليه السلام) علي أنّه كان من أعبد الناس وأكثرهم طاعة للّه تعالي، ولم يرَ الناس مثله في عظيم إنابته وعبادته، وقد بُهر بها المتّقون والصالحون، وحسبه أنّه وحده الذي قد لُقّب بزين العابدين وسيّد الساجدين في تاريخ الإسلام. أمّا عبادته (عليه السلام) فكانت ناشئة عن إيمانه العميق باللّه تعالي وكمال معرفته به، وقد عبده لا طمعاً في جنّته ولا خوفاً من ناره، وإنّما وجده أهلاً للعبادة فعبده، وشأنه في ذلك شأن جدّه أمير المؤمنين وسيّد العارفين وإمام المتّقين، وقد أعرب (عليه السلام) عن عظيم إخلاصه في عبادته بقوله: «إنّي أكره أن أعبد اللّه ولا غرض لي إلاّ ثوابه، فأكون كالعبد الطمع المطيع، إنّ طمع عمل وإلاّ لم يعمل، وأكره أن أعبده [لا غرض لي] إلاّ لخوف عقابه، فأكون كالعبد السوء إن لم يخف لم يعمل...». قيل له: فلِمَ تعبده؟ قال: «لما هو أهله بأياديه وإنعامه». ولقد مَلأ حبّ اللّه تعالي قلب الإمام (عليه السلام) وسخّر عواطفه، فكان مشغولاً بعبادة اللّه وطاعته في جميع أوقاته، وقد سُئلت جارية له عن عبادته فقالت: اُطنب أو أختصر؟ قيل لها: بل اختصري. فقالت: ما أتيته بطعام نهاراً قطّ، وما فرشت له فراشاً بليل، قطّ. لقد قضي الإمام (عليه السلام) معظم حياته صائماً نهاره، قائماً ليله، مشغولاً تارةً بالصلاة، واُخري بالدعاء.

 

الوضوء

الوضوء هو نور وطهارة من الذنوب، والمقدمة الأُولي للصلاة، وكان الإمام (عليه السلام) دوماً علي طهارة، وقد تحدّث الرواة عن خشوعه للّه في وضوئه، فقالوا: إنّه إذا أراد الوضوء اصفرّ لونه، فيقول له أهله: ما هذا الذي يعتريك عند الوضوء؟ فيجيبهم قائلاً: «أتدرون بين يدي مَن أقوم؟!»

 

صلاته

أمّا الصلاة فمعراج المؤمن وقربان كلّ تقيّ، كما في الحديث الشريف ، وكانت الصلاة من أهم الرغبات النفسية للإمام (عليه السلام) فقد اتّخذها معراجاً ترفعه إلي اللّه تعالي، وكانت تأخذه رعدة إذا أراد الشروع فيها، فقيل له في ذلك فقال: «أتدرون بين يدي من أقوم، ومن اُناجي؟!». ونعرض لبعض شؤونه في حال صلاته. أ ـ تطيّبه للصلاة: وكان الإمام إذا أراد الصلاة تطيّب من قارورة كان قد جعلها في مسجد صلاته. ب ـ لباسه في صلاته: وكان الإمام (عليه السلام) إذا أراد الصلاة لبس الصوف وأغلظ الثياب، مبالغة منه في إذلال نفسه أمام الخالق العظيم. ج ـ خشوعه في صلاته : كانت صلاته تمثّل الانقطاع التامّ إلي اللّه جلّ جلاله والتجرّد من عالم المادّيات، فكان لا يحسّ بشيء من حوله، بل لا يحسّ بنفسه فيما تعلّق قلبه باللّه تعالي، ووصفه الرواة في حال صلاته، فقالوا: كان إذا قام إلي الصلاة غشي لونه بلون آخر، وكانت أعضاؤه ترتعد من خشية اللّه ، وكان يقف في صلاته موقف العبد الذليل بين يدي الملك الجليل، وكان يصلّي صلاة مودِّع يري أنّه لا يصلّي بعدها أبداً. وتحدّث الإمام الباقر (عليه السلام) عن خشوع أبيه في صلاته فقال: «كان عليّ بن الحسين إذا قام في الصلاة كأنـّه ساق شجرة لا يتحرك منه شيء إلاّ ما حركت الريح منه». ونقل أبان بن تغلب إلي الإمام الصادق (عليه السلام) صلاة جدّه الإمام السجاد (عليه السلام) فقال له: إنّي رأيت عليّ بن الحسين إذا قام في الصلاة غشي لونه بلون آخر، فقال له الإمام الصادق (عليه السلام): «واللّه إنّ عليّ بن الحسين كان يعرف الذي يقوم بين يديه.... وكان من مظاهر خشوعه في صلاته أنّه إذا سجد لا يرفع رأسه حتي يرفضّ عرقاً أو كأنّه غمس في الماء من كثرة دموعه وبكائه، ونقل عن أبي حمزة الثمالي أنّه رأي الإمام قد صلّي فسقط الرداء عن أحد منكبيه فلم يسوّه، فسأله أبو حمزة عن ذلك فقال له: «ويحك، أتدري بين يدي مَنْ كنتُ؟ إنّ العبد لا يقبل من صلاته إلاّ ما أقبل عليه منها بقلبه». د ـ صلاة ألف ركعة : وأجمع المترجمون للإمام (عليه السلام) أنّه كان يصلّي في اليوم والليلة ألف ركعة، وأنّه كانت له خمسمائة نخلة، فكان يصلّي عند كلّ نخلة ركعتين ونظراً لكثرة صلاته؛ فقد كانت له ثفنات في مواضع سجوده كثفنات البعير، وكان يسقط منها في كلّ سنة، فكان يجمعها في كيس، ولمّا توفّي (عليه السلام) دفنت معه. ه ـ كثرة سجوده : إنّ أقرب ما يكون العبد من ربّه وهو في حال سجوده، كما في الحديث الشريف، وكان الإمام (عليه السلام) كثير السجود للّه تعالي خضوعاً وتذلّلاً له، وروي: أنّه خرج مرّةً إلي الصحراء فتبعه موليً له فوجده ساجداً علي حجارة خشنة، فأحصي عليه ألف مرّة يقول: «لا إله إلاّ اللّه حقّاً حقّاً، لا إله إلاّ اللّه تعبّداً ورقّاً، لا إله إلاّ اللّه إيماناً وصدقاً». وكان يسجد سجدة الشكر، ويقول فيها مائة مرّة: «الحمد للّه شكراً»، ثمّ يقول: «يا ذا المنّ الذي لا ينقطع أبداً، ولا يحصيه غيره عدداً، ويا ذا المعروف الذي لا ينفد أبدا، يا كريم، يا كريم يا كريم» ثم يدعو ويتضرّع ويذكر حاجته. و ـ كثرة تسبيحه : وكان دوماً مشغولاً بذكر اللّه تعالي وتسبيحه وحمده، وكان يسبّح اللّه بهذه الكلمات: «سبحان من أشرق نوره كلّ ظلمة، سبحان من قدّر بقدرته كلّ قدرة، سبحان من احتجب عن العباد ولا شيء يحجبه، سبحان اللّه وبحمده». ز ـ ملازمته لصلاة الليل: من النوافل التي كان لا يَدَعُها الإمام (عليه السلام) صلاة الليل، فكان مواظباً عليها في السفر والحضر إلي أن انتقل إلي الرفيق الأعلي. ح ـ دعاؤه بعد صلاة الليل : وكان (عليه السلام) إذا فرغ من صلاة الليل دعا بهذا الدعاء الشريف، وهو من غرر أدعية أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، وإليك بعض مقاطعه: «اللهمّ يا ذا الملك المتأبد بالخلود، والسلطان الممتنع بغير جنود ولا أعوان، والعزّ الباقي علي مرّ الدهور وخوالي الأعوام ومواضي الأزمان والأيام، عزّ سلطانك عزاً لا حدّ له بأوّلية ولا منتهي له بآخرية، واستعلي ملكك علوّاً سقطت الأشياء دون بلوغ أمده ولا يبلغ أدني ما استأثرت به من ذلك أقصي نَعت الناعتين، ضلّت فيك الصفات، وتفسّخت دونك النعوت، وحارت في كبريائك لطائف الأوهام، كذلك أنت اللّه الأوّل في أوّليّتك، وعلي ذلك أنت دائمٌ لا تزول، وأنا العبد الضعيف عملاً ، الجسيم أملاً، خرجت من يدي أسباب الوصلات إلاّ ما وصله رحمتك، وتقطّعت عنّي عصم الآمال إلاّ ما أنا معتصم به من عفوك، قلّ عندي ما أعتدُّ به من طاعتك، وكثر عليّ ما أبوء به من معصيتك، ولن يضيق عليك عفوٌ عن عبدك، وإن أساء فاعف عنّي... «اللهمّ إنّي أعوذ بك من نارٍ تغلّظت بها علي مَن عصاك، وتوعّدت بها علي من صدف عن رضاك، ومن نارٍ نورها ظلمة، وهيّنها أليم، وبعيدها قريب، ومن نارٍ يأكل بعضها بعضٌ، ويصول بعضُها علي بعض، ومن نارٍ تذر العظام رميماً، وتسقي أهلها حميماً، ومن نارٍ لا تبقي علي مَن تضرّع إليها، ولا ترحم من استعطفها، ولا تقدر علي التخفيف عمّن خشع لها واستسلم إليها، تلقي سكانها بأحرّ ما لديها من أليم النكال وشديد الوبال..». لقد ذبل الإمام (عليه السلام) من كثرة العبادة وأجهدته أيّ إجهاد، وقد بلغ به الضعف أنّ الريح كانت تميله يميناً وشمالاً بمنزلة السنبلة التي تميلها الريح. وقال ابنه عبد اللّه : كان أبي يصلّي بالليل فإذا فرغ يزحف إلي فراشه. وأشفق عليه أهله ومحبّوه من كثرة ما بان عليه من الضعف والجهد من كثرة عبادته، فكلّموه في ذلك لكنّه (عليه السلام) أصرّ علي شدّة تعبّده حتي يلحق بآبائه، قال له أحد أبنائه: يا أبه كم هذا الدؤوب ( يعني الصلاة )؟ فأجابه الإمام (عليه السلام): «أتَحَبّبُ إلي ربّي». وقال جابر بن عبداللّه الأنصاري للإمام (عليه السلام): يابن رسول اللّه ، أما علمت أنّ اللّه تعالي إنّما خلق الجنّة لكم ولمن أحبّكم، وخلق النار لمن أبغضكم وعاداكم، فما هذا الجهد الذي كلّفته نفسك؟ قال له عليّ بن الحسين (عليه السلام): «يا صاحب رسول اللّه ، أما علمت أنّ جدي رسول اللّه (صلي اللّه عليه وآله وسلم) قد غفر اللّه له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، فلم يَدَع الاجتهاد له، وتعبّد ـ بأبي هو واُمي ـ حتي انتفخ الساق وورم القدم، وقيل له: أتفعل هذا وقد غفر اللّه لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟ فقال (صلي اللّه عليه وآله وسلم): أفلا أكون عبداً شكوراً؟». فلما نظر إليه جابر وليس يغني فيه قول، قال: يابن رسول اللّه ، البُقْيا علي نفسك، فإنّك من اُسرة بهم يستدفع البلاء، وتستكشف اللأواء، وبهم تستمسك السماء... فقال (عليه السلام): «لا أزال علي منهاج أَبَوَيَّ متأسِّياً بهما حتي ألقاهما...».

 

صومه

وقضي الإمام معظم أيام حياته صائماً، وقد قالت جاريته حينما سئلت عن عبادته: «ما قدّمتُ له طعاماً في نهار قطّ» وقد أحبَّ الصومَ وحثَّ عليه إذ قال (عليه السلام): «إنّ اللّه تعالي وكّل ملائكة بالصائمين»، وكان (عليه السلام) لا يفطر إلاّ في يوم العيدين وغيرهما ممّا كان له عذر». وكان له شأن خاص في شهر رمضان، حيث إنّه لم يترك نوعاً من أنواع البِرّ والخير إلاّ أتي به، وكان لا يتكلم إلاّ بالتسبيح والاستغفار والتكبير، وإذا أفطر قال: «اللّهم إن شئت أن تفعل فعلت». وكان (عليه السلام) يستقبل شهر رمضان بشوق ورغبة لأنّه ربيع الأبرار، وكان يدعو لدي دخول شهر اللّه تعالي بدعاء نقتطف منه بعض الفقرات، قال (عليه السلام): «الحمد للّه الذي هدانا لحمده وجعلنا من أهله ؛ لنكون لإحسانه من الشاكرين، وليجزينا علي ذلك جزاء المحسنين. والحمد للّه الذي حبانا بدينه، واختصّنا بملّته، وسَبَّلَنا في سُبُلِ إحسانه، لنسلكها بمنّه إلي رضوانه... والحمد للّه الذي جعل من تلك السبل شهره شهر رمضان، شهر الصيام وشهر الإسلام وشهر الطهور وشهر التمحيص وشهر القيام... اللّهم صلّ علي محمدٍ وآله، وألهمنا معرفة فضله، وإجلال حرمته، والتحفّظ ممّا حظرت فيه، وأعِنّا علي صيامه بكفّ الجوارح عن معاصيك، واستعمالها فيه بما يرضيك، حتي لا نُصغي بأسماعنا إلي لغوٍ، ولا نسرع بأبصارنا إلي لهوٍ، وحتي لا نبسط أيدينا إلي محظور، ولا نخطو بأقدامنا إلي محجور، وحتي لا تعي بطوننا إلاّ ما أحلَلْت، ولا تنطق ألسنتنا إلاّ بما مثّلت، ولا نتكلّف إلاّ ما يدني من ثوابك، ولا نتعاطي إلاّ الذي يقي من عقابك، ثم خلّص ذلك كلّه من رياء المرائين وسُمعة المسمعين، لا نُشرك فيه أحداً دونك، ولا نبتغي فيه مراداً سواك... اللهمّ اشحنه4 بعبادتنا إيّاك، وزيّن أوقاته بطاعتنا لك، وأعنّا في نهاره علي صيامه، وفي ليله علي الصلاة والتضرع إليك والخشوع لك والذلّة بين يديك حتي لا يشهد نهاره علينا بغفلة ولا ليله بتفريط. اللهمّ واجعلنا في سائر الشهور والأيّام كذلك ما عمّرتنا...»5. وكان الإمام زين العابدين (عليه السلام) في كلّ يوم من أيّام شهر رمضان يأمر بذبح شاة وطبخها... فإذا نضجت يقول: «هاتوا القصاع» ويأمر بأن يُفرَّق علي الفقراء والأرامل والأيتام حتي يأتي علي آخر القدور ولا يبقي شيئاً لإفطاره، وكان يفطر علي خبز وتمر

 

دعاؤه

أ ـ دعاؤه في الأسحار : وكان الإمام (عليه السلام) يناجي ربّه ويدعوه بتضرّع وإخلاص في سحر كلّ ليلة من ليالي شهر رمضان بالدعاء الجليل الذي عرف بدعاء أبي حمزة الثمالي؛ لأنّه هو الذي رواه عنه، وهو من غرر أدعية أهل البيت (عليهم السلام) وهو يمثّل مدي إنابته وانقطاعه إلي اللّه تعالي، كما أنّ فيه من المواعظ ما يوجب صرف النفس عن غرورها وشهواتها، كما يمتاز بجمال الاُسلوب وروعة البيان وبلاغة العرض، وفيه من التذلّل والخشوع والخضوع أمام اللّه تعالي ما لا يمكن صدوره إلاّ عن إمام معصوم. وقد احتلّ هذا الدعاء مكانة مهمّة في نفوس الأخيار والصلحاء من المسلمين، إذ واظبوا علي الدعاء به، وممّا قاله الإمام (عليه السلام) في دعائه: «إلهي، لا تؤدّبني بعقوبتك، ولا تمكر بي في حيلتك، من أين لي الخير يا ربّ ولا يوجد إلاّ من عندك؟ ومن أين لي النجاة ولا تستطاع إلاّ بك؟ لا الذي أحسن استغني عن عونك ورحمتك، ولا الذي أساء واجترأ عليك ولم يرضك خرج عن قدرتك... بك عرفتك وأنت دللتني عليك ودعوتني إليك، ولو لا أنت لم أدر ما أنت. الحمد للّه الذي أدعوه فيجيبني وإن كنتُ بطيئاً حين يدعوني، والحمد للّه الذي أسأله فيعطيني وإن كنت بخيلاً حين يستقرضني... أدعوك يا سيدي بلسان قد أخرسه ذنبه، ربّ اُناجيك بقلب قد أوبقه جرمه، أدعوك يا ربّ راهباً راغباً راجياً خائفاً، إذا رأيت مولاي ذنوبي فزعتُ، وإذا رأيت كرمك طمعت... يا واسع المغفرة، يا باسط اليدين بالرحمة، فوعزّتك يا سيّدي لو انتهرتني ما برحتُ من بابك ولا كففت عن تملّقك لما انتهي إليّ من المعرفة بجودك وكرمك... اللهمّ إنّي كلّما قلت قد تهيّأت وتعبّأت وقمت للصلاة بين يديك وناجيتك ألقيت عليّ نعاساً إذا أنا صلّيت وسلبتني مناجاتك إذا أنا ناجيت، ما لي كلّما قلتُ قد صلُحت سريرتي وقرب من مجالس التوابين مجلسي عرضت لي بلية أزالت قدمي وحالت بيني وبين خدمتك. سيدي لعلّك عن بابك طردتني، وعن خدمتك نحيتني، أو لعلّك رأيتني مستخفّاً بحقّك فأقصيتني، أو لعلّك رأيتني معرضاً عنك فقليتني، أو لعلّك وجدتني في مقام الكاذبين فرفضتني، أو لعلّك رأيتني غير شاكر لنعمائك فحرمتني، أو لعلّك فقدتني من مجالس العلماء فخذلتني، أو لعلّك رأيتني في الغافلين فمن رحمتك آيستني، أو لعلّك رأيتني آلف مجالس البطّالين فبيني وبينهم خلّيتني، أو لعلّك لم تحبّ أن تسمع دعائي فباعدتني، أو لعلّك بجرمي وجريرتي كافيتني، أو لعلّك بقلّة حيائي منك جازيتني... إلهي، لو قرّنتني بالأصفاد ومنعتني سيبك من بين الأشهاد ودللت علي فضايحي عيون العباد، وأمرت بي إلي النار وحلت بيني وبين الأبرار؛ ما قطعتُ رجائي منك، ولا صرفت وجه تأميلي للعفو عنك، ولا خرج حبّك من قلبي... ارحم في هذه الدنيا غربتي، وعند الموت كربتي، وفي القبر وحدتي، وفي اللحد وحشتي، وإذا نُشرتُ للحساب بين يديك ذلّ موقفي، واغفر لي ما خفي علي الآدميّين من عملي، وأدم لي مابه سترتني، وارحمني صريعاً علي الفراش، تقلّبني أيدي أحبّتي، وتفَضَّل عليّ ممدوداً علي المغتسل يقلّبُني صالح جيرتي، وتحنّنْ عليَّ محمولاً قد تناول الأقرباء أطراف جنازتي، وجُد عليّ منقولاً قد نزلتُ بك وحيداً في حفرتي، وارحم في ذلك البيت الجديد غربتي، حتي لا أستأنس بغيرك...». ب ـ دعاؤهُ في وداع شهر رمضان وكان الإمام (عليه السلام) يتأثّر إذا انطوت أيام شهر رمضان؛ لأنّه عيد أولياء اللّه تعالي، وكان يودّعه بدعاء جليل نقتطف منه ما يلي: «السلام عليك يا شهر اللّه الأكبر ويا عيد أوليائه. السلام عليك يا أكرم مصحوب من الأوقات، ويا خير شهر في الأيام والساعات. السلام عليك من شهر قربت فيه الآمال، ونشرت فيه الأعمال. السلام عليك من قرين جلّ قدره موجوداً، وأفْجع فقده مفقوداً، ومرجوٍّ آلم فراقه. السلام عليك من أليفٍ آنس مقبلاً فسرّ، وأوحش منقضياً فمضّ. السلام عليك من مجاور رقّت فيه القلوب، وقلّت فيه الذنوب. السلام عليك من ناصرٍ أعان علي الشيطان... السلام عليك وعلي ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر. السلام عليك ما كان أحرصنا بالأمس عليك، وأشدّ شوقنا غداً إليك... اللهمّ اسلخنا بانسلاخ هذا الشهر

 

شهادة الامام زین العابدین

وتقلّد الوليد أزمّة الملك بعد أبيه عبدالملك بن مروان، وقد وصفه المسعودي بأنّه كان جبّاراً عنيداً ظلوماً غشوماً، حتّي طعن عمر بن عبد العزيز الاُموي في حكومته، فقال فيه: إنّه ممن امتلأت الأرض به جوراً. وفي عهد هذا الطاغية الجبّار استشهد العالم الإسلامي الكبير سعيد بن جبير علي يد الحجّاج بن يوسف الثقفي أعتي عاملٍ اُموي. وقد كان الوليد من أحقد الناس علي الإمام زين العابدين (عليه السلام) لأنّه كان يري أنّه لا يتمّ له الملك والسلطان مع وجود الإمام زين العابدين (عليه السلام). فقد كان الإمام (عليه السلام) يتمتّع بشعبية كبيرة، حتّي تحدّث الناس بإعجاب وإكبار عن علمه وفقهه وعبادته، وعجّت الأندية بالتحدّث عن صبره وسائر ملكاته، واحتلّ مكاناً كبيراً في قلوب الناس وعواطفهم، فكان السعيد من يحظي برؤيته، ويتشرّف بمقابلته والاستماع إلي حديثه ، وقد شقّ علي الاُمويين عامّة هذا الموقع المتميّز للإمام (عليه السلام) وأقضّ مضاجعهم، وكان من أعظم الحاقدين عليه الوليد بن عبد الملك الذي كان يحلم بحكومة المسلمين وخلافة الرسول (صلي اللّه عليه وآله وسلم). وروي الزهري: عن الوليد أنّه قال : لا راحة لي وعليّ بن الحسين موجود في دار الدنيا4. فأجمع رأيه علي اغتيال الإمام زين العابدين (عليه السلام) حينما آل إليه الملك، فبعث سمّا قاتلاً إلي عامله علي المدينة، وأمره أن يدسّه للإمام (عليه السلام)5 ونفّذ عامله ذلك، فسَمَتْ روح الإمام العظيمة إلي خالقها بعد أن أضاءت آفاق هذه الدنيا بعلومها وعباداتها وجهادها وتجرّدها من الهوي. وقام الإمام أبو جعفر محمد الباقر (عليه السلام) بتجهيز جثمان أبيه، وبعد تشييعٍ حافل لم تشهد المدينة نظيرا له؛ جيء بجثمانه الطاهر إلي بقيع الفرقد، فحفروا قبرا بجوار قبر عمّه الزكيّ الإمام الحسن المجتبي (عليه السلام) سيّد شباب أهل الجنة وريحانة رسول اللّه (صلي اللّه عليه وآله وسلم)، وأنزل الإمام الباقر (عليه السلام) جثمان أبيه زين العابدين وسيّد الساجدين (عليه السلام) فواراه في مقرّه الأخير. فسلام عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حيّا .

 


source : www.alimamali.com
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

حياة الامام زین العابدین(علیه السلام)
ولادة الإمام السجاد ( عليه السلام )
مناقب وفضائل
كرم الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) وتصدّقه ...
بكاء الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) على أبيه ...
إمامته(السجاد)عليه السلام
في المدينة
الامام السجاد علیه السلام باعث الإسلام من جديد
حلم الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) وتربيته ...
كرامات علي بن الحسين (عليهما السلام)

 
user comment