ولد الإمام الهادي عليّ بن محمّد (عليهما السلام) ولد (عليه السلام) للنصف من ذي الحجّة سنة اثنتي عشرة مائتين و كانت ولادته (عليه السلام) في قرية (صريا) التي تبعد عن المدينة ثلاثة أميال محاطاً بالعناية الإلهية. فأبوه هو الإمام المعصوم محمّد الجواد (عليه السلام) واُمّه الطاهرة سمانة المغربية .
وبشرّ الرسول (صلي اللّه عليه وآله وسلم) بولادته في حديث طويل حول الأئمة (عليهم السلام) بقوله:« ... وأنّ اللّه ركّب في صلبه ـ إشارة إلي الإمام الجواد (عليه السلام) ـ نطفة لا باغية ولا طاغية ، بارّة مباركة ، طيبة طاهرة ، سماها عنده عليّ بن محمّد فألبسها السكينة والوقار ، وأودعها العلوم ، وكل سرّ مكتوم ، من لقيه ، وفي صدره شيء أنبأه به ، وحذره من عدوه...».
وتنقسم حياة هذا الإمام العظيم إلي حقبتين متميّزتين : أمضي الأُولي منهما مع أبيه الجواد (عليه السلام) وهي أقلّ من عقد واحد . بينما أمضي الثانية ـ وهي تزيد عن ثلاثة عقود ـ وقد عاصر خلالها ستة من ملوك الدولة العبّاسية وهم : المعتصم والواثق والمتوكل والمنتصر والمستعين والمعتز . واستشهد في أيام حكم المعتز عن عمر يناهز أربعة عقود وسنتين . وقد عاني من ظلم العبّاسيين ـ كما عاني آباؤه الكرام
مضاهر من شخصیة الامام الهادي
الکرم : كان (عليه السلام) من أبسط الناس كفاً ، وأنداهم يداً ، وقد روي المؤرّخون بوادر كثيرة من برّ الإمام الهادي (عليه السلام) وإحسانه إلي الفقراء وإكرامه البائسين ، نقتصر منها علي ما يلي : 1 ـ دخل أبو عمرو عثمان بن سعيد ، وأحمد بن إسحاق الأشعري ، وعليّ بن جعفر الهمداني علي أبي الحسن العسكري ، فشكا إليه أحمد بن إسحاق ديناً عليه ، فقال: يا أبا عمرو ـ وكان وكيله ـ ادفع إليه ثلاثين ألف دينار ، وإلي عليّ بن جعفر ثلاثين ألف دينار ، وخذ أنت ثلاثين ألف دينار. وعلّق ابن شهرآشوب علي هذه المكرمة العلوية بقوله : « فهذه معجزة لا يقدر عليها إلاّ الملوك ، وما سمعنا بمثل هذا لاقال إسحاق الجلاب: اشتريت لأبي الحسن (عليه السلام) غنماً كثيرة يوم التروية ، فقسمها في أقاربه.
الزهد:
لقد عزف الإمام الهادي (عليه السلام) عن جميع مباهج الحياة ومتعها، وعاش عيشة زاهدة إلي أقصي حدّ ، لقد واظب علي العبادة والورع والزهد ، فلم يحفل بأي مظهر من مظاهر الحياة ، وآثر طاعة اللّه علي كل شيء ، وقد كان منزله في المدينة وسرّ من رأي خالياً من كل أثاث ، فقد داهمت منزله شرطة المتوكل ففتّشوه تفتيشاً دقيقاً فلم يجدوا فيه شيئاً من رغائب الحياة ، وكذلك لما فتّشت الشرطة داره في سرّ من رأي، فقد وجدوا الإمام في بيت مغلق ، وعليه مدرعة من صوف وهو جالس علي الرمل والحصي ، ليس بينه وبين الأرض فراش .
إرشاد الضالین:
واهتمّ الإمام الهادي (عليه السلام) اهتماماً بالغاً بإرشاد الضالين والمنحرفين عن الحقّ وهدايتهم إلي سواء السبيل ، وكان من بين من أرشدهم الإمام وهداهم، أبو الحسن البصري المعروف بالملاح ، قال: دلني أبو الحسن ـ وكنت واقفياً ـ فقال لي: إلي كم هذه النومة أما آن لك أن تنتبه منها؟!» ـ فقدح في قلبي شيئاً وغشي عليّ وتبعت الحقّ.
العبادة:
إنّ الإقبال علي اللّه والإنابة إليه وإحياء الليالي بالعبادة، ومناجاة اللّه وتلاوة كتابه هي السّمة البارزة عند أهل البيت (عليهم السلام). أما الإمام الهادي (عليه السلام) فلم يرَ الناس في عصره مثله في عبادته وتقواه وشدّة تحرّجه في الدين ، فلم يترك نافلة من النوافل إلاّ أتي بها ، وكان يقرأ في الركعة الثالثة من نافلة المغرب سورة الحمد وأوّل سورة الحديد إلي قوله تعالي : (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) وفي الركعة الرابعة سورة الحمد وآخر سورة الحجرات .
استجابة دعائه:
وقد ذكرت بوادر كثيرة من إستجابة دعاء الإمام (عليه السلام) عند اللّه كان منها : 1 ـ ما رواه المنصوري عن عمّ أبيه، قال : قصدت الإمام (عليه السلام) يوماً ، فقلت له : يا سيّدي، إنّ هذا الرجل قد أطرحني ، وقطع رزقي ، وملّني، وما اُتّهم به في ذلك إلاّ هو علمه بملازمتي بك ، فإذا سألته شيئاً منه يلزمه القبول منك، فينبغي أن تتفضل عليَّ بمسألته ، فقال (عليه السلام) : «تُكفي إن شاء اللّه ، فلما كان في الليل طرقتني رسل المتوكل رسولاً بعد رسول ، فجئت والفتح قائم فقال: يا رجل، ما تأوي في منزلك بالليل، كدّ هذا الرجل مما يطلبك، فدخلت فإذا المتوكل جالس في فراشه، فقال: يا أبا موسي نشغل عنك، وتنسينا نفسك؟! أي شيء لك عندي؟ فقلت: الصلة الفلانية، والرزق الفلاني: وذكرت أشياء فأمر لي بها ويضعفها، فقلت للفتح: وافي عليّ بن محمّد إلي هاهنا؟ فقال لا، فقلت: كتب رقعة؟ فقال: لا، فوليت منصرفاً فتبعني، فقال لي: لست أشك أنك سألته دعاءً لك، فالتمس لي منه دعاءً، فلما دخلت إليه (عليه السلام) قال لي: يا أبا موسي، هذا وجه الرضا». فقلت: ببركتك يا سيّدي ، ولكن قالوا لي : إنّك ما مضيت إليه ولا سألته. فقال: إنّ اللّه تعالي علم منّا أنّا لا نلجأ في المهمات إلاّ إليه ، ولا نتوكّل في الملمّات إلاّ عليه ، وعوّدنا إذا سألناه الإجابة ، ونخاف أن نعدل فيعدل بنا. قلت: إنّ الفتح قال لي كيت وكيت. قال : إنّه الفتح يوالينا بظاهره ، ويجانبنا بباطنه ، الدعاء لمن يدعو به إذا أخلصت في طاعة اللّه ، واعترفت برسول اللّه (صلي اللّه عليه وآله وسلم) وبحقّنا أهل البيت وسألت اللّه تبارك وتعالي شيئاً لم يحرمك». 2 ـ روي أنّ عليّ بن جعفر كان من وكلاء الإمام (عليه السلام) فسعي به إلي المتوكّل فحبسه ، فطال حبسه ، واحتال من قبل عبيداللّه فعرض ابن خاقان بمال ضمنه عنه ثلاثة آلاف دينار ، وكلّمه عبيد اللّه فعرض جامعه علي المتوكّل ، فقال: يا عبيداللّه ، لو شككت فيك لقلت : إنّك رافضي ، هذا وكيل فلان وأنا علي قتله (عازم خ ل). قال: فتأدي الخبر إلي عليّ بن جعفر فكتب إلي أبي الحسن (عليه السلام) يا سيّدي، اللّه اللّه فيَّ ، فقد واللّه خفت أن أرتاب، فوقّع في رقعته: « أمّا إذا بلغ بك الأمر ما أري فسأقصد اللّه فيك » وكان هذا في ليلة الجمعة. فأصبح المتوكّل محموماً ، فازدادت علته حتي صرخ عليه يوم الاثنين، فأمر بتخلية كل محبوس عرض عليه اسمه حتّي ذكرَ هو ، عليَّ بن جعفر، فقال لعبيداللّه : لِمَ لَمْ تعرض عليَّ أمره ؟ فقال : لا أعود إلي ذكره أبداً ، قال: خلِّ سبيله الساعة وسله أن يجعلنيفي حل، فخلّي سبيله، وصار إلي مكة بأمر أبي الحسن (عليه السلام) فجاور بها...»4 . هذه بعض البوادر التي ذكرها الرواة من إستجابة دعاء الإمام (عليه السلام) ، ومن المؤكّد أنّ إستجابة الدعاء ليس من عمل الإنسان وصنعه ، وإنّما هو بيد اللّه تعالي فهو الذي يستجيب دعاء من يشاء من عباده ، ومما لا شبهة فيه أنّ لأئمّة أهل البيت (عليهم السلام) منزلة كريمة عنده تعالي لأنّهم أخلصوا له كأعظم ما يكون الإخلاص ، وأطاعوه حقّ طاعته وقد خصّهم تعالي باستجابة دعائهم كما جعل مراقدهم الكريمة من المواطن التي يستجاب فيها الدعاء .
تکریمه للعلماء:
وكان الإمام الهادي (عليه السلام) يكرم رجال الفكر والعلم، ويحتفي بهم ويقدّمهم علي بقية الناس؛ لأنّهم مصدر النور في الأرض ، وكان من بين مَنْ كرّمهم أحد علماء الشيعة وفقهائهم ، وكان قد بلغه عنه أنّه حاجج ناصبياً فأفحمه وتغلّب عليه فسرّ الإمام (عليه السلام) بذلك ، ووفد العالم علي الإمام فقابله بحفاوة وتكريم ، وكان مجلسه مكتظّـاً بالعلويين والعبّاسيين ، فأجلسه الإمام علي دست ، وأقبل عليه يحدّثه ، ويسأل عن حاله سؤالاً حفياً ، وشقّ ذلك علي حضار مجلسه من الهاشميين فالتفتوا إلي الإمام ، وقالوا له : كيف تؤثر عامياً علي سادات بني هاشم من الطالبيين والعبّاسيين؟ فقال (عليه السلام): «إيّاكم وأن تكونوا من الذين قال اللّه تعالي فيهم : ( أَلَمْ تَرَ إَلَي الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلَي كِتَابِ اللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّي فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُم مُعْرِضُونَ ) أترضون بكتاب اللّه عزّوجلّ حكماً ؟» فقالوا: بلي . قال: أليس اللّه قال: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَـجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ الي قوله تعالي ـ : يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ...)فلم يرض للعالم المؤمن إلاّ أن يرفع علي المؤمن غير العالم ، كما لم يرض للمؤمن إلاّ أن يرفع علي من ليس بمؤمن ، أخبروني عنه؟ قال: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) أو قال : يرفع اللّه الذين أُوتوا شرف النسب درجات؟! أو ليس قال اللّه : (...هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ؟...) . فكيف تنكرون رفعي لهذا لما رفعه اللّه ؟! إنّ كسر هذا لفلان الناصب بحجج اللّه التي علمه إياها لأفضل له من كل شرف في النسب. فقال العبّاسي: يابن رسول اللّه ، قد شرّفت هذا علينا ، وقصرتنا عمن ليس له نسب كنسبنا ، وما زال منذ أوّل الإسلام يقدم الأفضل في الشرف علي من دونه. فقال (عليه السلام) : سبحان اللّه ! أليس العبّاس بايع أبا بكر وهو تيمي ، والعبّاس هاشمي ، أو ليس عبد اللّه بن عباس كان يخدم عمر بن الخطاب ، وهو هاشمي أبو الخلفاء ، وعمر عدوي ، وما بال عمر أدخل البعداء من قريش في الشوري ، ولم يدخل العبّاس؟! فإن كان رفعنا لمن ليس بهاشمي علي هاشمي منكراً ، فأنكروا علي العبّاس بيعته لأبي بكر، وعلي عبد اللّه بن عباس خدمته لعمر بعد بيعته ، فإن كان ذلك جائزاً فهذا جائز».
التحذیر عن مجالسة الصوفیین:
وحذّر الإمام الهادي (عليه السلام) أصحابه وسائر المسلمين من الاتصال بالصوفيين والاختلاط بهم، لأنهم مصدر غواية وضلال للناس ، فهم يظهرون التقشّف والزهد لإغراء البسطاء والسذّج وغوايتهم . فلقد شدّد الإمام الهادي (عليه السلام) في التحذير من الاختلاط بهم حتي روي الحسين بن أبي الخطاب قال : كنت مع الهادي عليّ بن الحسن (عليهما السلام) في مسجد النبيّ (صلي اللّه عليه وآله وسلم) فأتاه جماعة من أصحابه منهم أبو هاشم الجعفري ، وكان رجلاً بليغاً وكانت له منزلة عظيمة عنده (عليه السلام) ثم دخل المسجد جماعة من الصوفية وجلسوا في جانبه مستديراً ، وأخذوا بالتهليل فقال (عليه السلام) لهم : « لا تلتفتوا إلي هؤلاء الخدّاعين فإنّهم خلفاء الشياطين1 ، ومخرّبو قواعد الدين ، يتزهّدون لإراحة الأجسام ، ويتهجّدون لصيد الأنعام ، يجوعون عمراً حتي يديخوا للايكاف حمراً ، لا يهللون إلاّ لغرور الناس ، ولا يقلّلون الغذاء إلاّ لمل ء العساس واختلاس قلب الدفناس ، يكلّمون الناس باملائهم في الحبّ ، ويطرحونهم بإدلائهم في الجب ، أورادهم الرقص والتصدية ، وأذكارهم الترنّم والتغنية ، فلا يتبعهم إلاّ السفهاء ، ولا يعتقد بهم إلاّ الحمقاء ، فمن ذهب إلي زيارة أحدهم حياً أو ميتاً ، فكأنّما ذهب إلي زيارة الشيطان وعبادة الأوثان ، ومن أعان واحداً منهم فكأنّما أعان معاوية ويزيد وأبا سفيان». فقال رجل من أصحابه : وإن كان معترفاً بحقوقكم ؟. فنظر إليه شبه المغضب وقال : « دع ذا عنك ، من اعترف بحقوقنا لم يذهب في عقوقنا ، أما تدري أنّهم أخسّ طوائف الصوفية ، والصوفية كلهم مخالفونا ، وطريقتهم مغايرة لطريقتنا ، وإن هم إلاّ نصاري أو مجوس هذه الأُمّة ، أُولئك الذين يجتهدون في إطفاء نور اللّه بأفواههم ، واللّه متمّ نوره ولو كره الكافرون».
کنیته و ألقابه:
يكنّي الإمام (عليه السلام) بأبي الحسن ، وتمييزاً له عن الإمامين الكاظم والرضا (عليهما السلام) يقال له أبو الحسن الثالث . أمّا ألقابه فهي : الهادي ، والنقيّ وهما أشهر ألقابه، والمرتضي ، والفتّاح والناصح ، والمتوكل، وقد منع شيعته من أن ينادوه به لأنّ الخليفة العبّاسي كان يُلقّب به1. وفي المناقب ذكر الألقاب التالية : النجيب ، الهادي ، المرتضي ، النقي ، العالم ، الفقيه ، الأمين ، المؤتَمن ، الطيب ، العسكري، وقد عرف هو وابنه بالعسكريين (عليهما السلام).
الحیاة السیاسیة:
كانت تولية العهد إلي أكثر من شخص واحد عاملاً مهمّاً في اختلال الوضع الأمني داخل الدولة الإسلامية، نتيجة التنازع والصراع علي السلطة بين ولاة العهد؛ لأنّ أحدهما كان يري أن يولي العهد ابنه بدلاً عن أخيه، الذي سبق أن عهد إليه أبوه بالولاية، كما تجلّي ذلك بوضوح في عهد الأمين والمأمون . وقد كان الأمين شديد البطش لكنّه كان عاجز الرأي ضعيف التدبير، وتجلّی ضعف تدبيره في الاضطرابات التي نشأت نتيجة صراعه مع المأمون علي السلطة ، والتي استمرت من سنة (93 ـ 98 ه ) حيث تمكن أعوان المأمون من قتل محمّد الأمين والاستيلاء علي بغداد ، ومن ثم تفرّد المأمون في إدارة الحكم وعزل قوّاد وولاة أخيه الأمين ، وأبدلهم بأنصاره وأعوانه الذين مكّنوه من الانتصار علي الأمين . وقد حدثت في عهد المأمون عدّة ثورات وحركات مسلّحة تمكن منها جيش الدولة ، وأعاد الأمصار التي حصلت فيها تلك الثورات وانفصلت عن الدولة إلي الخضوع إلي سلطان الخليفة ، وكان بعد استقرار الوضع واستتباب السيطرة للمأمون أن قام بغزو بلاد الروم عام (217 ه ). ولما قتل الأمين حمل رأسه إلي خراسان إلي المأمون، فأمر بنصب الرأس في صحن الدار علي خشبة ، وأعطي الجند ، وأمر كل من قبض رزقه أن يلعنه ، فكان الرجل يقبض ويلعن الرأس ، فقبض بعض العجم عطاءه فقيل له : إلعن هذا الرأس، فقال : لعن اللّه هذا ولعن والديه وما ولدا وأدخلهم في كذا وكذا من اُمّهاتهم ، فقيل له : لعنت أمير المؤمنين! وذلك بحيث يسمع المأمون منه فتبسّم وتغافل ، وأمر بحطّ الرأس... ورده إلي العراق. ووجه حكم المأمون تحديات عديدة وخطيرة كادت أن تسقط دولته. وأهم الأحداث التي كانت أيام حكومته هي : 1 ـ ثورة ابن طباطبا 5 سنة (199 ه ) بقيادة أبي السرايا . وهي من أعظم الثورات الشعبية التي حدثت في عصر الإمام الجواد (عليه السلام) وقد رفعت شعار الدعوة إلي الرضي من آل محمّد (صلي اللّه عليه وآله وسلم) . وكادت أن تعصف هذه الثورة بالدولة العبّاسية، إذ استجاب لها الكثير من أبناء الشعب المسلم . واستطاع أبو السرايا بعقله الملهم أن يجلب الكثير من أبناء الإمام موسي بن جعفر (عليه السلام) ويجعلهم قادة في جيشه، مما أدّي إلي اندفاع الجماهير بحماس بالغ إلي الإنضمام لثورته . ووجّه إليه المأمون ، زهير بن المسيب علي عشرة آلاف مقاتل ، ولكن زهيراً انهزم جيشه واستبيح عسكره ، وقد قوي شأنهم بعد ذلك وهزموا جيشاً آخر أرسله المأمون إليهم ، واستولوا علي (واسط) . ثم التقي بهم جيش آخر بقيادة هرثمة بن أعين ، فهرب أبو السرايا إلي القادسية ، ودخل هرثمة إلي الكوفة ، ثم قتل أبو السرايا ، وكان ذلك في سنة (200 ه) . 2 ـ ولاية العهد للإمام عليّ بن موسي الرضا (عليه السلام) . وفي سنة إحدي ومائتين فرض المأمون علي الإمام عليّ بن موسي الرضا قبول ولاية العهد، وأمر عمّال الدولة برمي السواد ولبس الخضرة، فشقّ ذلك علي العبّاسيين وقامت قيامتهم بإدخاله الرضا (عليه السلام) في الخلافة، فخالفوا المأمون وبايعوا عمه المنصور بن المهدي فضعف عن الأمر ، وقال: بل أنا خليفة المأمون فأهملوه، وأقاموا أخاه إبراهيم بن المهدي فبايعوه، وجرت لذلك حروب عديدة 7. وبعد أن عجز المأمون عن تحقيق أغراضه من فرض ولاية العهد ـ كما يريد ـ علي الإمام الرضا (عليه السلام) قام بدس السمّ إليه واغتياله، وذلك في سنة ثلاث ومائتين. 3 ـ أحداث سنة ست ومائتين: وفي هذه السنة استفحل أمر بابك الخرّمي بجبال آذربيجان، وأكثر الغارة والقتل، وهزم عسكر المأمون وفعل القبائح. 4 ـ أحداث سنة تسع ومائتين: وفي هذه السنة ظهر نصر بن أشعث العقيلي ، وكانت بينه وبين عبد اللّه بن طاهر الخزاعي قائد جيش المأمون حروب كثيرة وطويلة الأمد. 5 ـ غزو بلاد الروم: وفي سنة خمس عشرة ومائتين غزا المأمون بلاد الروم، وأقام هناك ثلاثة أشهر، وافتتح عدة حصون وبثّ سراياه تغير وتسبي وتحرق، ثم قدم دمشق ودخل إلي مصر. وامتدت هذه الحروب أكثر من سنتين ، وقد أسّرت الروم قائد جيش المأمون وحاصرت جيش المسلمين عام (217 ه ) .
زواج الامام الهادي
واستمراراً لتوطيد علاقة المأمون بأهل البيت (عليهم السلام) كان تزويجه لابنته ـ أُمّ الفضل ـ من الإمام الجواد (عليه السلام) ، ولما بلغ بني العبّاس ذلك اجتمعوا فاحتجوا ، لتخوفهم من أن يخرج السلطان عنهم وأن ينتزع منهم ـ بحسب زعمهم ـ لباس ألبسهم اللّه ذلك ، فقالوا للمأمون : ننشدك اللّه يا أمير المؤمنين أن تقيم علي هذا الأمر الذي قد عزمت عليه من تزويج ابن الرضا ، فإنّا نخاف أن يخرج به عنّا أمرٌ قد ملّكناه اللّه ، وينزع منّا عزّاً قد ألبسناه اللّه ، وقد عرفت ما بيننا وبين هؤلاء القوم قديماً وحديثاً ، وما كان عليه الخلفاء الراشدون قبلك من تبعيدهم والتصغير بهم ، وقد كنا في وهلة من عملك مع الرضا ما عملت، حتي كفانا اللّه المهم من ذلك ، فاللّه اللّه أن تردنا إلي غمٍّ قد إنحسر عنّا، واصرف رأيك عن ابن الرضا، واعدل إلي من تراه من أهل بيتك يصلح لذلك دون غيره. فقال لهم المأمون : أمّا ما بينكم وبين آل أبي طالب فأنتم السبب فيه، ولو أنصفتم القوم لكان أولي بكم ... وأمّا أبو جعفر محمّد بن عليّ (عليه السلام) فقد اخترته لتبريزه علي كافة أهل الفضل في العلم والفضل مع صغر سنّه، والأُعجوبة فيه بذلك، وأنا أرجو أن يظهر للناس ما قد عرفته منه...1. فخرجوا من عنده وأجمعوا رأيهم علي مساءلة يحيي بن أكثم، وهو يومئذٍ قاضي الزمان ، علي أن يسأله مسألة لا يعرف الجواب عنها ووعدوه بأموال نفيسة علي ذلك . واتفقوا مع المأمون علي يوم تتم فيه المساءلة ، حيث يحضر معهم يحيي ابن أكثم. ثم كان بعد ذلك أن جلس الإمام الجواد (عليه السلام) يستمع إلي أسئلة يحيي بن أكثم والذي بهت حين سأل الإمام حول مُحرِم قتل صيداً، فما كان من الإمام (عليه السلام) إلاّ أنّ فرّع عليه سؤاله فلم يحر جواباً، وطلب من الإمام (عليه السلام) أن يوضح ذلك، والمأمون جالس يستمع إلي كل ذلك ثم نظر إلي أهل بيته، وقال لهم : أعرفتم الآن ما كنتم تنكرونه ؟ ثم أقبل علي أبي جعفر (عليه السلام) وطلب منه أن يخطب ابنته فخطبها واحتفل المأمون بذلك. ثم إنّ المأمون بعد إجراء العقد وإتمام الخطبة عاد فطلب من الإمام الجواد (عليه السلام) أن يكمل جواب ما طرحه مشكلاً به علي ابن أكثم ، فأتم الإمام (عليه السلام) الجواب ، فالتفت المأمون إلي مَنْ حضره من أهل بيته فقال لهم : هل فيكم أحد يجيب عن هذه المسألة بمثل هذا الجواب ، ويعرف القول فيما تقدم من السؤال ؟ قالوا: لا واللّه ، إنّ أمير المؤمنين أعلم بما رأي . فقال لهم : ويحكم إنّ أهل البيت خصوا من بين الخلق بما ترون من الفضل ، وإن صغر السن فيهم لا يمنعهم من الكمال، ومن ثم ذكر لهم أنّ الرسول (صلي اللّه عليه وآله وسلم) افتتح الدعوة بدعاء أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) وهو ابن عشر سنين وقبل منه الإسلام2. ولا بدّ من الإشارة إلي أنّ هذا الاهتمام المبالغ فيه من قبل المأمون تجاه الإمام الجواد (عليه السلام) كان قد سلك مثله مع أبيه الإمام الرضا (عليه السلام) حتي أن دسّ له السم وقتله ، فكان المأمون يتحرك إزاء الإمام (عليه السلام) بهدف إبعاده (عليه السلام) عن خاصته وعامة الناس ، حيث أشخصه من المدينة إلي بغداد ليكون قريباً منه وتحت رقابته وعيونه ، فيعرف الداخل عليه والخارج منه ظنّاً من المأمون أنّه سوف يتمكن بذلك من تحجيم دور الإمام (عليه السلام) وإبعاده عن التأثير، فضلاً عن اكتساب الشرعية لحكمه من خلال وجود الإمام (عليه السلام) إلي جنبه ، ووفقاً لذلك كان موقف المأمون تجاه العبّاسيين الذين كانوا لا يرون في الإمام (عليه السلام) إلاّ صبياً لم يتفقه في الدين ولا يعرف الحلال والحرام . وهكذا قضي الإمام الجواد (عليه السلام) خمس عشرة سنة خلال حكم المأمون حيث مات المأمون سنة (218 ه ) .
شهادة الامام الهادي
إنّ تقريب الإمام الرضا (عليه السلام) والعهد إليه بولاية الأمر من قبل المأمون العبّاسي، وكذا ما كان من المأمون تجاه الإمام الجواد (عليه السلام) يعبر عن دهاء سياسي في التعامل مع أقوي معارضي الدولة ، لأنّ هذين الإمامين (عليهما السلام) كانا يمتلكان القواعد الشعبية الواسعة، مما كان يشكل خطراً علي كيان الدولة ، فكان تصرّف المأمون معهما من أجل تطويق الخطر المحدق بالكيان السياسي للدولة العبّاسية، وذلك من خلال عزل الإمام (عليه السلام) عن قواعده للحدّ من تأثيره في الأُمّة ، فتقريبه للإمام (عليه السلام) يعني إقامة جبرية ، ومراقبة دقيقة تحصي عليه حتي أنفاسه، وتتعرّف علي مواليه ومقربيه ، لمتابعتهم والتضييق عليهم . قال محمّد بن عليّ الهاشمي1: دخلت علي أبي جعفر (عليه السلام) صبيحة عرسه حيث بني بابنة المأمون وكنت تناولت من أوّل الليل دواء، فأوَّل من دخل عليه في صبيحته أنا، وقد أصابني العطش وكرهت أن أدعو بالماء ، فنظر أبوجعفر (عليه السلام) في وجهي وقال : أظنّك عطشاناً فقلت : أجل، قال : يا غلام ـ أو يا جارية ـ اسقنا ماءً، فقلت في نفسي : الساعة يأتونه بماء يسمّونه به ، فاغتممت لذلك ، فأقبل الغلام ومعه الماء، فتبسم في وجهي ثمَّ قال : يا غلام، ناولني الماء، فتناول وشرب ، ثمَّ ناولني فشربت2. قال محمّد بن حمزة، فقال لي محمّد بن عليّ الهاشمي: واللّه ، إنني أظن أن أبا جعفر (عليه السلام) يعلم ما في النفوس كما تقول الرافضة3. فالهاشمي هذا ليس من شيعة الإمام (عليه السلام)، غير أنّه كان يدرك ما يدور في خلد العبّاسيين، ويعرف وسائلهم في التخلص من معارضيهم ، وربّما يستفاد من قوله هذا تأكيد أنّ الإمام الرضا (عليه السلام) قد مضي مسموماً من قبل المأمون . وروي المسعودي: أنّ المعتصم وجعفر بن المأمون دبّرا حيلة للتخلص من الإمام الجواد (عليه السلام) ، فاتفق جعفر مع اُخته أُمّ الفضل ـ زوج الإمام الجواد (عليه السلام) ـ أن تقدّم له عنباً مسموماً ، وقد فعلت ذلك وأكل منه الإمام (عليه السلام) ، فندمت وجعلت تبكي، فقال لها الإمام (عليه السلام): «ما بكاؤك؟ واللّه ليضربنك اللّه بفقر لا ينجلي وبلاء لا ينستر...». فبليت بعلّة فأنفقت مالها وجميع ملكها علي تلك العلّة حتي احتاجت إلي رفد الناس ـ أي معونتهم ـ وقد تردي أخوها جعفر في بئر فاُخرج ميتاً وكان سكراناً . ويروي أنّ ابن أبي داود القاضي كان السبب لقتل الإمام (عليه السلام) وكان سبب وشايته: ... أنّ سارقاً أقرّ علي نفسه بالسرقة وسأل الخليفة تطهيره بإقامة الحد عليه ، فجمع لذلك الفقهاء في مجلسه وقد أحضر محمّد بن عليّ (عليه السلام) فسألنا عن القطع في أي موضع يجب أن يقع قال فقلت: من الكرسوع ، لقول اللّه في التيمم (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ ) واتفق معي علي ذلك القوم . وقال آخرون: بل يجب القطع من المرفق... قال: فالتفت إلي الإمام (عليه السلام) فقال : ما تقول في هذا يا أبا جعفر ؟ فقال : قد تكلم القوم فيه يا أمير المؤمنين. قال : دعني مما تكلموا به ، أي شيء عندك ؟ قال : أعفني عن هذا يا أمير المؤمنين، قال : أقسمت عليك باللّه لما أخبرت بما عندك فيه ، فقال : إذا أقسمت عليّ باللّه ، إني أقول : إنهم أخطأوا فيه السنّة ، فإن القطع يجب أن يكون من مفصل أُصول الأصابع فيترك الكف. قال : وما الحجّة في ذلك ؟ قال: قول رسول اللّه (صلي اللّه عليه وآله وسلم) : السجود علي سبعة أعضاء : الوجه واليدين والركبتين والرجلين، فإذا قطعت يده من الكرسوع أو المرفق لم يبق له يد يسجد عليها ، وقال اللّه تبارك وتعالي : ( وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ ) يعني به هذه الأعضاء السبعة التي يسجد عليها ( فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً ) وما كان للّه لم يقطع ، قال : فأعجب المعتصم ذلك، وأمر بقطع يد السارق من مفصل الأصابع دون الكف... قال ابن أبي داود: قامت قيامتي وتمنيت أني لم أُكَ حياً. قال زرقان : إنّ ابن أبي داود قال : صرت إلي المعتصم بعد ثالثة فقلت : إنّ نصيحة أمير المؤمنين عليّ واجبة ، وأنا أُكلمه بما أعلم أني أدخل به النار، قال : ما هو ؟ قلت : إذا جمع أمير المؤمنين في مجلسه فقهاء رعيته وعلمائهم لأمر واقع من أُمور الدين فسألهم عن الحكم فيه ، فأخبروه بما عندهم من الحكم في ذلك . وقد حضر المجلس أهل بيته وقوّاده ووزراؤه ، وكتّابه، وقد تسامع الناس بذلك من وراء بابه، ثم يترك أقاويلهم كلهم لقول رجل يقول شطر هذه الأُمّة بإمامته، ويدّعون أنّه أولي منه بمقامه ، ثم يحكم بحكمه دون حكم الفقهاء . قال: فتغير لونه ـ أي المعتصم ـ وانتبه لما نبّهته له ، وقال : جزاك اللّه عن نصيحتك خيراً... . من هنا نُدرك أنّه كيف اندفع المعتصم للتآمر علي الإمام الجواد (عليه السلام) مع جعفر بن المأمون وأُخته أُمّ الفضل، فلا تعارض بين هاتين الروايتين والحال هذه .
a
source : www.abna.ir