ولد في العام الثالث للهجرة، وهو بكرُ الزهراء فاطمة بنت رسول الله سيدة نساء العالمين(سلام الله عليها)، وكان المجتبى الحسن (سلام الله عليه) شبيهاً بجده النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، حيث سماه النبيُّ وعَقَّ عنه يومَ سابعه.
وروى أصحاب رسول الله رواياتٍ عدة تظهر مدى تعلقه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالحسن، إذ كان يقول دائماً :" اللهم إني أحبه فأحبه، وأحِبَّ من يحبه".
وجاء في"ذخائر العقبى" لمحبّ الدين الطبريّ عن أسماء بنت عُمَيس قولها: "أقبلتُ فاطمةَ (عليها السّلام) بالحسن فجاء النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: "يا أسماء هَلُمّي ابني"، قالت أسماء: "فدفعتُه إليه في خِرقة صفراء"، فألقاها عنه قائلاً: "ألَم أعهَد إليكُنّ ألاّ تَلفُّوا مولوداً بخِرقةٍ صفراء؟!"، فلَفَفتُه بخرقة بيضاء، فأخذه وأذّن في أُذُنه اليمنى وأقام في اليسرى، ثمّ قال للإمام عليٍّ (عليه السلام): "ما سَمّيتَ ابني؟"، قال: ما كنتُ لأسبِقَكَ بذلك، قال: ولا أنا سابق ربّي".
فهبط جبريل (عليه السلام) فقال: "يا محمّد، إنّ ربّك يُقرئك السّلام ويقول لك: عليٌّ منك بمنزلة هارون من موسى لكنْ لا نبيَّ بعدك، فسَمِّ ابنَك هذا باسم وَلَد هارون"، فقال: وما كانَ اسمُ ابنِ هارونَ يا جبريل؟ قال: شبّر، فقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): إنّ لساني عربيّ، فقال: سمِّهِ الحَسَن، ففعل".
مکانة الامام الحسن (ع) لدی خاتم المرسلین
لقد خصّ الرسول الأعظم حفيديه الحسن والحسين (عليها السلام) بأوصاف تنبئ عن عظيم منزلتهما لديه ، فهما : أ ـ ريحانتاه من الدنيا وريحانتاه من هذه الاُمّة1. ب ـ وهما خير أهل الأرض2 . ج ـ وهما سيّدا شباب أهل الجنة3. د ـ وهما إمامان قاما أو قعدا4 . ه ـ وهما من العترة (أهل البيت) التي لا تفترق عن القرآن الي يوم القيامة، ولن تضلّ اُ مّةٌ تمسّكت بهما5. و ـ وهما من أهل البيت الذين يضمنون لراكبي سفينتهم النجاة من الغرق6. ز ـ وهما ممّن قال عنهم جدّهم: «النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض من الاختلاف»7. ح ـ وقد استفاض الحديث عن مجموعةٍ من أصحاب الرسول (صلي اللّه عليه وآله وسلم) أنّهم قد سمعوا مقالته فيما يخصّ الحسنين : «اللهمّ إنّك تعلم أنّي أُحبُّهما فأحبَّهما، وأحبّ من يحبّهما»8 . وعن سلمان أنّه سمع رسول اللّه (صلي اللّه عليه وآله وسلم) يقول : «الحسن والحسين ابناي، من أحبّهما أحبّني، ومن أحبّني أحبّه اللّه ، ومن أحبّه اللّه أدخله الجنّة ، ومن أبغضهما أبغضني ومن أبغضني أبغضه اللّه ، ومن أبغضه اللّه أدخله النار»9. ط ـ وعن أنس : أنّ رسول اللّه سئِل أيّ أهل بيتك أحبّ إليك؟ قال : «الحسن والحسين» وكان يقول لفاطمة: «اُدعي ليَ إبنيَ» فيشمّهما ويضمّهما إليه !10 .
من فضائل الامام المجتبی(ع)
عبادته
أ ـ روي المفضّل عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام) عن أبيه عن جدّه : «إنّ الحسن بن علي بن أبي طالب كان أعبد الناس في زمانه، وأزهدهم وأفضلهم ، وكان إذا حجّ حجّ ماشياً ، وربّما مشي حافياً ، وكان إذا ذكر الموت بكي ، وإذا ذكر القبر بكي، وإذا ذكر البعث والنشور بكي ، وإذا ذكر الممرّ علي الصراط بكي ، وإذا ذكر العرض علي اللّه ـ تعالي ذكره ـ شهق شهقةً يغشي عليه منها . وكان إذا قام في صلاته ترتعد فرائصه بين يدي ربّه عزّوجلّ ، وكان إذا ذكر الجنة والنار اضطرب اضطراب السليم11 وسأل اللّه الجنّة وتعوّذ به من النار ، وكان لا يقرأ من كتاب اللّه عزّوجل (يا أيّها الذين آمنوا) إلاّ قال : لبيّك اللهمّ لبيّك ، ولم يُرَ في شيءٍ من أحواله إلاّ ذاكراً للّه سبحانه ، وكان أصدق الناس لهجةً وأفصحهم منطقاً ...»12. ب ـ وكان (عليه السلام) إذا توضّأ؛ ارتعدت مفاصله واصفرّ لونه، فقيل له في ذلك فقال : «حقٌ علي كلّ من وقف بين يدي ربّ العرش أن يصفرّ لونه وترتعد مفاصله». ج ـ وكان إذا بلغ باب المسجد رفع رأسه ويقول : «ضيفك ببابك ، يا محسن قد أتاك المسيء، فتجاوز عن قبيح ما عندي بجميل ما عندك يا كريم». د ـ وكان إذا فرغ من الفجر لم يتكلّم حتي تطلع الشمس وإن زحزح . ه ـ وعن الإمام محمّد بن علي الباقر (عليه السلام) : «أنّ الحسن (عليه السلام) قال : إنّي لأستحي من ربّي أن ألقاه ولم أمشِ الي بيته ، فمشي عشرين مرّة من المدينة علي رجليه».
حلمه و عفوه
لقد عُرف الإمام الحسن المجتبي (عليه السلام) بعظيم حلمه، وأدلّ دليل علي ذلك هو تحمّله لتوابع صلحه مع معاوية الذي نازع عليّاً حقّه وتسلّق من خلال ذلك الي منصب الحكم بالباطل، وتحمّل (عليه السلام) بعد الصلح أشد أنواع التأنيب من خيرة أصحابه، فكان يواجههم بعفوه وأناته، ويتحمّل منهم أنواع الجفاء في ذات اللّه صابراً محتسباً . وذُكر أنّ مروان بن الحكم شتم الحسن بن عليّ (عليه السلام)، فلمّا فرغ قال الحسن : إنّي واللّه لا أمحو عنك شيئاً، ولكن مهّدك اللّه ، فلئن كنت صادقاً فجزاك اللّه بصدقك ، ولئن كنت كاذباً فجزاك اللّه بكذبك، واللّه أشدّ نقمةً منِّي . وروي أنّ غلاماً له (عليه السلام) جني جنايةً توجب العقاب، فأمر به أن يُضرب، فقال : يا مولاي (الْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ)13، قال : عفوت عنك، قال : يا مولاي (وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُـحْسِنِينَ)14، قال : أنت حرٌ لوجه اللّه ولك ضعف ما كنت أعطيك15. وروي المبرّد وابن عائشة: أنّ شاميّاً رآه راكباً فجعل يلعنه والحسن لا يردّ، فلما فرغ أقبل الحسن (عليه السلام) فسلّم عليه وضحك، فقال : «أيها الشيخ! أظنّك غريباً؟ ولعلّك شبّهت، فلو استعتبتنا أعتبناك، ولو سألتنا أعطيناك، ولو استرشدتنا أرشدناك، ولو استحملتنا حملناك ، وإن كنت جائعاً أشبعناك، وإن كنت عرياناً كسَوْناك، وإن كنت محتاجاً أغنيناك، وإن كنت طريداً آويناك ، وإن كان لك حاجة قضيناها لك ، فلو حرّكت رحلك إلينا وكنت ضيفنا الي وقت ارتحالك كان أعود عليك، لأنّ لنا موضعاً رحباً وجاهاً عريضاً ومالاً كثيراً» . فلمّا سمع الرجل كلامه بكي، ثم قال : أشهد أنّك خليفة اللّه في أرضه، واللّه أعلم حيث يجعل رسالته، وكنت أنت وأبوك أبغض خلق اللّه إليّ، والآن أنت أحبّ خلق اللّه إليّ ...16
کرمه و جوده
إنّ السخاء الحقيقي هو بذل الخير بداعي الخير، وبذل الإحسان بداعي الإحسان، وقد تجلّت هذه الصفة الرفيعة بأجلي مظاهرها وأسمي معانيها في الإمام أبي محمّد الحسن المجتبي (عليه السلام) حتي لُقّب بكريم أهل البيت . فقد كان لا يعرف للمال قيمةً سوي ما يردّ به جوع جائع، أو يكسو به عارياً، أو يغيث به ملهوفاً، أو يفي به دَين غارمٍ ، وقد كانت له جفان واسعة أعدّها للضيوف، ويقال: إنّه ما قال لسائلٍ «لا» قَطّ. وقال الشبلنجي في نور الأبصار عند ذكره لمناقب الإمام الحسن (عليهما السلام) أنّه سُئل: لأيّ شيء لا نراك تردّ سائلاً ؟ فأجاب : «إنّي للّه سائل وفيه راغب، وأنا أستحي أن أكون سائلاً وأردّ سائلاً ، وإنّ اللّه عوّدني عادةً أن يفيض نعمه عليَّ ، وعوّدته أن أفيض نعمه علي الناس، فأخشي إن قطعت العادة أن يمنعني العادة؛ وأنشأ يقول: إذا ما أتأني سائل قلتُ مرحبا بمن فضله فرض عليَّ معجل و من فضله فضل علي كلِّ فاضل و أفضل أيام الفتي حين يسأل17 واجتاز (عليه السلام) يوماً علي غلام أسود بين يديه رغيف يأكل منه لقمة ويدفع لكلب كان عنده لقمة اُخري ، فقال له الإمام : ما حملك علي ذلك؟ فقال الغلام : إنّي لأستحي أن آكل ولا اُطعمه . وهنا رأي الإمام فيه خصلة حميدة، فأحبّ أن يجازيه علي جميل صنعه، فقال له : لا تبرح من مكانك، ثم انطلق فاشتراه من مولاه، واشتري الحائط (البستان) الذي هو فيه، وأعتقه وملّكه إيّاه18.
تواضعه و زهده
إنّ التواضع دليل علي كمال النفس وسموّها وشرفها ، والتواضع لا يزيد العبد إلاّ رفعةً وعظمةً، وقد حذا الإمام الحسن (عليه السلام) حذو جدّه وأبيه في أخلاقه الكريمة، وقد أثبت التاريخ بوادر كثيرة تشير الي سموّ الإمام في هذا الخلق الرفيع، نشير الي شيءٍ منها : أ ـ اجتاز الإمام علي جماعة من الفقراء قد وضعوا علي الأرض كسيرات وهم قعود يلتقطونها ويأكلونها ، فقالوا له: هلمّ يابن بنت رسول اللّه الي الغذاء، فنزل (عليه السلام) وقال : (إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ)19، وجعل يأكل معهم حتي اكتفوا والزاد علي حاله ببركته، ثم دعاهم الي ضيافته وأطعمهم وكساهم20. ب ـ ومرّ (عليه السلام) علي صبيانٍ يتناولون الطعام، فدعوه لمشاركتهم فأجابهم الي ذلك، ثم حملهم الي منزله فمنحهم برّه ومعروفه، وقال : «اليد لهم لأنّهم لم يجدوا غير ما أطعموني، ونحن نجد ما أعطيناهم»21. ورفض الإمام جميع ملاذّ الحياة ومباهجها متّجهاً الي الدار الآخرة التي أعدّها اللّه للمتّقين من عباده، فمن أهمّ مظاهر زهده : زهده في الملك طلباً لمرضاة اللّه ، ويتجلّي ذلك إذا لاحظنا مدي حرص معاوية علي الملك واستعماله لكلّ الأساليب اللا أخلاقية للوصول الي السلطة، بينما نجد الإمام الحسن (عليه السلام) يتنازل عن الملك حينما لا يراه يحقّق شيئاً سوي إراقة دماء المسلمين. ومن جملة مظاهر زهده أيضاً: ما حدّث به مدرك بن زياد أنّه قال : كنّا في حيطان ابن عباس، فجاء ابن عبّاس وحسن وحسين فطافوا في تلك البساتين ثم جلسوا علي ضفاف بعض السواقي ، فقال الحسن : يا مدرك! هل عندك غذاء؟ فقلت له : نعم، ثم انطلقت فجئته بخبز وشيء من الملح مع طاقتين من بقل، فأكل منه، وقال : يا مدرك! ما أطيب هذا؟ ، وجيء بعد ذلك بالطعام وكان في منتهي الحُسن، فالتفت (عليه السلام) الي مدرك وأمره بأن يجمع الغلمان ويقدّم لهم الطعام، فدعاهم مدرك فأكلوا منه ولم يأكل الإمام منه شيئاً، فقال له مدرك : لماذا لا تأكل منه؟ فقال (عليه السلام) : «إنّ ذاك الطعام أحبّ عندي»22.
مراحل حیاة الامام الحسن المجتبی(ع)
تولّي الإمام الحسن السبط (عليه السلام) منصب الإمامة والقيادة بعد استشهاد أبيه المرتضي (عليه السلام) في الواحد والعشرين من رمضان سنة 40 هجرية وهو في السابعة والثلاثين من عمره المبارك . وقد عاش خلال هذه المرحلة مع جدّه الرسول الأعظم (صلي اللّه عليه وآله وسلم) ما يزيد علي سبع سنوات ومع أبيه المرتضي (عليه السلام) فترة إمامته البالغة ثلاثين سنة تقريباً. وعاصر خلالها كلاًّ من الخلفاء الثلاثة وشارك بشكل فاعل في إدارة دولة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام). واستمر بعد أبيه يحمل مشعل القيادة الربّانية حتي الثامن والعشرين أو السابع من شهر صفر سنة 50 هجرية، وله يومئذٍ ثمان وأربعون سنة23. إذن تنقسم حياة هذا الإمام العظيم الي شطرين أساسيين: الشطر الأوّل: حياته قبل إمامته (عليه السلام) وينقسم هذا الشطر الي ثلاث مراحل: المرحلة الاُولي: حياته في عهد جدّه الرسول الأعظم (صلي اللّه عليه وآله وسلم). المرحلة الثانية: حياته في عهد أبي بكر وعمر وعثمان. المرحلة الثالثة: حياته في دولة أبيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) الشطر الثاني: حياته بعد استشهاد أبيه (عليه السلام) وهو عصر إمامته (عليه السلام). وينقسم هذا الشطر الي مرحلتين متميزتين: المرحلة الاُولي: وتبدأ من البيعة له بالخلافة حتي الصلح. المرحلة الثانية: وهيمرحلة ما بعد الصلح حتي استشهاده (عليه السلام) . ونحن نبحث المراحل الثلاث الاُولي من الشطر الأوّل في الفصل الثاني من الباب الثاني، ونفرد البحث عن الشطر الثاني ببابٍ مستقل، بعد أن نسلّط الأضواء الكافية علي طبيعة عصر الإمام (عليه السلام) ومميزاته وخصائصه؛ لنخرج برؤية موضوعية ومنطقية عن سلامة مواقف الإمام (عليه السلام) سواء قبل الصلح وبعده، ولنري ما حقّقه هذا الإمام الهمام والشجاع الصابر، ونلاحظه كيف استطاع أن يؤدي دوره الكبير في أخطر مرحلة من مراحل تاريخنا الإسلامي بمواقفه الرسالية ومنطلقاته المبدئية، وكيف استطاع أن يحقّق الأهداف الرسالية التي جعلها اللّه تعالي علي عاتقه كإمام معصوم يراد منه تحقيق أهداف الرسالة الإسلامية الكبري .
تآمر معاویة علی الإمام الحسن (ع)
لقد حاول معاوية أن يجعل الخلافة ملكا عضوضا وراثة في أبنائه ، وقد بذل جميع جهوده وصرف الأموال الطائلة لذلك ، فوجد أنّه لا يظفر بما يريد والحسن بن عليّ (عليه السلام) حيّ ينتظر المسلمون حكمه العادل وخيره العميم ، ومن هنا قرّر اغتيال الإمام المجتبي (صلي اللّه عليه وآله وسلم) بما اغتال به من قبل مالك الأشتر وسعد بن أبي وقاص وغيرهما . فأرسل الي الإمام غير مرّة سمّا فاتكا حين كان في دمشق فلم ينجح حتي راسل ملك الروم وطلب منه بإصرار أن يرسل له سمّا فاتكا ، وحصل عليه بعد امتناعه حين أفهمه أنّه يريد قتل ابن من خرج بأرض تهامة لتحطيم عروش الشرك والكفر والجاهلية وهدّد سلطان أهل الكتاب . إنّ بائقة الأب هذه كانت هي السبب الذي بعث روح القدوة في طموح الابن ليشتركا ـ متضامنين ـ في إنجاز أعظم جريمة في تاريخ الإسلام ، تلك هي قتل سيّدي شباب أهل الجنة اللذين لا ثالث لهما ، وليتعاونا معا علي قطع « الواسطة الوحيدة » التي انحصر بها نسل رسول اللّه (صلي اللّه عليه وآله وسلم) ، والجريمة ـ بهذا المعني ـ قتل مباشر لحياة رسول اللّه (صلي اللّه عليه وآله وسلم) بامتدادها التأريخي. نعم ، والقاتلان ـ مع ذلك ـ هما الخليفتان في الإسلام !!! فواضَيْعَةَ الإسلام إن كان خلفاؤه من هذه النماذج !!! وكان الدهاء المزعوم لمعاوية هو الذي زيّن له اُسلوبا من القتل قصر عنه ابنه يزيد ، فكان هذا « الشابّ المغرور » وكان ذاك « الداهية المحنّك في تصريف الاُمور » !!! ولو تنفس العمر بأبي سفيان إلي عهد ولديه هذين لأيقن أنّهما قد أجادا اللعبة التي كان يتمناها لبني اُمية .
استشهاد الامام الحسن(ع)
لقد دعا معاوية مروان بن الحكم إلي إقناع جعدة بنت الأشعث بن قيس الكندي ـ وكانت من زوجات الإمام الحسن (عليه السلام) ـ بأن تسقي الحسن السمّ وكان شربة من العسل بماء رومة24، فإن هو قضي نحبه زوّجها بيزيد ، وأعطاها مائة ألف درهم . وكانت جعدة هذه بحكم بنوّتها للأشعث بن قيس ـ المنافق المعروف الذي أسلم مرتين بينهما ردّة منكرة ـ أقرب الناس روحا إلي قبول هذه المعاملة النكراء . قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام) : « إنّ الأشعث شرك في دم أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وابنته جعدة سمّت الحسن ،وابنه محمّد شرك في دم الحسين (عليه السلام)»25. وهكذا تمّ لمعاوية ما أراد ، وكانت شهادته (عليه السلام) بالمدينة يوم الخميس لليلتين بقيتا من صفر سنة خمسين من الهجرة أو تسع وأربعين . وحكم معاوية بفعلته هذه علي مصير اُمةٍ بكاملها ، فأغرقها بالنكبات وأغرق نفسه وبنيه بالذحول والحروب والانقلابات ، وتمّ له بذلك نقض المعاهدة إلي آخر سطر فيها . وقال الإمام الحسن (عليه السلام) وقد حضرته الوفاة : « لقد حاقت شربته ، وبلغ اُمنيته، واللّه ما وفي بما وعد ، ولا صدق فيما قال »26 . وورد بريد مروان إلي معاوية بتنفيذ الخطّة المسمومة فلم يملك نفسه من إظهار السرور بموت الإمام الحسن (عليه السلام) ، « وكان بالخضراء فكبّر وكبّر معه أهل الخضراء ، ثم كبّر أهل المسجد بتكبير أهل الخضراء ، فخرجت فاختة بنت قرظة بن عمرو بن نوفل بن عبد مناف [ زوج معاوية ]من خوخة27 لها، فقالت : سرّك اللّه يا أمير المؤمنين ، ما هذا الذي بلغك فسررت به ؟ قال : موت الحسن بن عليّ ، فقالت : إنّا للّه وإنّا إليه راجعون ، ثم بكت وقالت : مات سيّد المسلمين وابن بنت رسول اللّه (صلي اللّه عليه وآله وسلم) »28 . والنصوص علي اغتيال معاوية للإمام الحسن (عليه السلام) بالسمّ متضافرة كأوضح قضيةٍ في التاريخ29 .
دفن الإمام و فتنة عائشة
ولم يشكَّ مروان ومن معه من بني اُمية أنّهم سَيَدْفُنونَه عند رسول اللّه (صلي اللّه عليه وآله وسلم)، فتجمَّعوا لذلك ولبسوا السلاح ، فلمّا توجّه به الحسين (عليه السلام) إلي قبر جدّه رسول اللّه (صلي اللّه عليه وآله وسلم) ليجدّد به عهدا؛ أقبلوا إليهم في جمعهم، ولحقتهم عائشة علي بغل وهي تقول: ما لي ولكم تريدون أن تدخلوا بيتي من لا اُحبّ، وجعل مروان يقول : يا رُبَّ هيجا هي خير مِن دَعَة، اَيُدْفَنُ عثمانُ في أقصي المدينة ويدفن الحسن مع النبيّ؟! لا يكون ذلك أبدا وأنا أحمل السيف. وكادت الفتنة أن تقع بين بني هاشم وبني اُمية فبادر ابن عباس إلي مروان فقال له : ارجع يا مروان من حيث جئت فإنّا ما نريد دفن صاحبنا عند رسول اللّه (صلي اللّه عليه وآله وسلم) لكنّا نريد أن نجدّد به عهدا بزيارته ثم نردّه إلي جدّته فاطمة بنت أسد فندفنه عندها بوصيته بذلك، ولو كان أوصي بدفنه مع النبي (صلي اللّه عليه وآله وسلم) لعلمت أنّك أقصر باعا من ردّنا عن ذلك ، لكنّه (عليه السلام) كان أعلم باللّه وبرسوله وبحرمة قبره من أن يطرق عليه هدما ، كما طرق ذلك غيره ودخل بيته بغير إذنه. ثم أقبل علي عائشة وقال لها: وا سوأتاه! يوما علي بغل ويوما علي جمل، تريدين أن تطفِئي نور اللّه وتقاتلي أولياء اللّه ، ارجعي فقد كُفيت الذي تخافين وبلغت ما تحبين واللّه منتصر لأهل البيت ولو بعد حين . وقال الحسين (عليه السلام) : «واللّه لو لا عهد الحسن بحقن الدماء وأن لا اُهريق في أمره محجمة دم لعلمتم كيف تأخذ سيوف اللّه منكم مأخذها وقد نقضتم العهد بيننا وبينكم وأبطلتم ما اشترطنا عليكم لأنفسنا». ومضوا بالحسن فدفنوه بالبقيع عند جدّته فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف رضي اللّه عنها30 . ووقف الإمام الحسين (عليه السلام) علي حافة القبر ، وأخذ يؤبّن أخاه قائلاً : « رحمك اللّه يا أبا محمّد ، إن كنت لتباصر الحقّ مظانّه ، وتؤثر اللّه عند التداحض في مواطن التقية بحسن الروية ، وتستشف جليل معاظم الدنيا بعين لها حاقرة ، وتفيض عليها يدا طاهرة الأطراف ، نقية الأسرة ، وتردع بادرة غرب أعدائك بأيسر المؤونة عليك ، ولا غرو فأنت ابن سلالة النبوّة ورضيع لبان الحكمة ، فإلي رَوْحٍ ورَيْحانٍ ، وجنّة ونعيم ، أعظم اللّه لنا ولكم الأجر عليه ، ووهب لنا ولكم حسن الأسي عنه »31 .
-----------------------------------------------
1. كتاب سليم بن قيس الهلالي: 275 شدّة حبّ الرسول لهما عليهما السلام، شرح الأخبار 3: 100 / ح1030، الإرشاد للمفيد 2: 28 (تاريخ الإمام الحسين عليه السلام)، صحيح البخاري 4: 217 (باب مناقب المهاجرين وفضلهم)، وج7: 74 (كتاب الأدب)، سنن الترمذي 5: 322 / ح 3859، المعجم الكبير للطبراني 3: 127 / ح2884.
2. عيون أخبار الرضا: 1 / 67./ ح 252، المحتضر للحلي: 165/ ح 180.
3. هذا حديث متواتر وصحيح عند الفريقين ونحن هنا نجمل لك بعض مصادره من الفريقين: كتاب سليم بن قيس الهلالي: 132 و 197 و 236، المناقب للكوفي 1: 333 / 260 و 543 / ح484، شرح الأخبار 1: 145 / ح77، الإرشاد للمفيد 2: 27 تاريخ الإمام الحسين (عليه السلام، بحار الأنوار 10: 353 / ح1، مسند أحمد 3: 3 و 62 و 64 (ما أُسند عن أبي سعيد الخدري)، سنن ابن ماجة 1: 44 / ح 118، سنن الترمذي 5: 321 / ح 3856، مستدرك الحاكم 3: 167 (ذكر مناقب الحسن والحسين عليهما السلام)، المعجم الكبير للطبراني 3: 35 / ح 2598.
4. علل الشرائع 1: 211، باب 159، ح2، روضة الواعظين: 156 ذكر إمامة السبطين عليهما السلام .
5. أمالي الطوسي: 163 / ح 268 و 255 / ح 460، مسند أحمد 3: 14 و 17 و26 و59 ما أُسند عن أبي سعيد، سنن الترمذي 5: 328 / ح 3874.
6. شرح الأخبار 3: 479 / ح 840 و 501 / ح 886، مستدرك الحاكم 2: 343 مثل أهل بيتي وج3: 151 (ذكر مناقب أهل البيت عليهم السلام) .
7. شرح الأخبار 2: 502 / ح888، المعجم الكبير للطبراني 7: 22 ذكر موسي بن عبيدة، المستدرك للحاكم 3: 149 (ذكر أهل بيتي أمان).
8. روضة الواعظين: 156 (ذكر إمامة السبطين عليهما السلام)، العمدة لابن البطريق: 396/ ح 797 و 406/ ح 840، مسند أحمد 2: 442 (مسند أبي هريرة) و ج 5: 210 (حديث خارجة بن الصلت)، صحيح البخاري4: 216 (باب مناقب المهاجرين وفضلهم): سنن الترمذي5 :322/ ح 3858.
9. مستدرك الحاكم : 3 / 166 (ذكر ركوب الحسنين عليهما السلام علي ظهرالنبي صلي اللّه عليه وآله وسلم)، إمتاع الأسماع 6: 11 (فصل في ذكر ذرية النبي صلي اللّه عليه وآله وسلم).
10. سنن الترمذي5 :323/ ح 3861، تاريخ الإسلام للذهبي4: 35-36.
11. اضطراب السليم من لسعة الحية، راجع لسان العرب 12: 292 مادة سليم.
12. أمالي الصدوق: 244/ ح 262.
13. آل عمران 3: 134.
14. آل عمران 3: 134.
15. بحار الأنوار 43: 352 / ح 29 .
16. المناقب لابن شهرأشوب 3: 184 باب إمامة الحسن عليه السلام، بحار الأنوار 43: 344/ ح 16.
17. نور الأبصار في مناقب آل النبيّ المختار: 135 فصل في كرم الإمام الحسن عليه السلام.
18. راجع البداية والنهاية : 8 /42 حوادث سنة 49 ذكر الحسن عليه السلام.
19. النحل 16: 23.
20. المناقب : 3 / 187 (باب إمامة الحسن عليه السلام)، بحار الأنوار 43: 352/ ح 28.
21. حياة الإمام الحسن : 1 / 313 عن إسعاف الراغبين لابن الصبّان بهامش نور الأبصار : 196 .
22. مختصر تاريخ دمشق : 7 / 21.
23. الإرشاد للمفيد 2: 15، تاج المواليد ضمن مجموعة نفيسة: 27.
24. راجع ترجمة الإمام الحسن لابن عساكر: 211 ـ 212 / ح341، صلح الإمام الحسن : 365 . وقد اشتهرت كلمة معاوية : « إنّ للّه جنودا من عسل » .
25. الكافي 8: 167 / ح 187، بحار الأنوار 42: 228 / ح40، صلح الإمام الحسن : 365.
26. صلح الحسن عليه السلام : 365.
27. هي الكوة التي تؤدي الضوء إلي البيت ، والباب الصغير في الباب الكبير .
28. صلح الإمام الحسن : 365 ـ 366 .
29. راجع مستدرك الحاكم 3: 176 ذكر فضائل الحسن عليه السلام، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 16: 11 (ترجمة الإمام الحسن عليه السلام)، مقاتل الطالبيين: 31 (ذكر الحسن بن عليّ عليه السلام )، الاستيعاب 1: 389 (ترجمة الإمام الحسن عليه السلام )، درر السمط في خبر السبط: 91 ـ 92 .
30. الإرشاد للمفيد 2: 18 ـ 19 ذكر وفاة الحسن عليه السلام ، روضة الواعظين: 68 (ذكر وفاة الحسن عليه السلام )، بحار الأنوار 44: 156 ـ 157 ح25 .
31. تاريخ مدينة دمشق 13: 296 / ترجمة رقم 1383.
source : www.abna.ir