من مؤلفات الاستاذ راشد الراشد، باحث اسلامي وقيادي في تيار العمل الإسلامي البحريني.
الإمام محمد بن الحسن المهدي (عج)
الإمام المهدي (عج) وفلسفة الغيبة وقضية طول العمر ومسألة الإنتظار من الموضوعات الملحة في الفكر الإسلامي لكننا في سياق هذا البحث سوف لن نتناول موضوع الإمام الحجة (عج) من الزواية الفلسفية المحضة ولسببين رئيسين أولهما: لأن الكتاب لا يهدف في الدرجة الأساسية مناقشة البعد الفلسفي أو الفكري المجرد لقضيه الإمام المنتظر (عج)،كما لم يحدث ذلك في سياق الحديث عن سائر الأئمة _عليهم الصلاة والسلام_،خاصة لوجود فيض هائل من الأبحاث والدراسات التي تناولت هذا البعد من حياة الإمام المهدي (عج) وثانيها: إن المنهج التحليلي الذي أتبعناه في عرض حياة سائر الأئمة(ع) يقتضي تناول موضوع إمامة المهدي (عج) بذات المنوال. فكيف بدأ الإمام المهدي (عج) عهد إمامته؟
من المعروف سلفاً أن العباسيين جاءوا إلي سدة الحكم إنما بالتحايل علي الأمة عبر رفعها شعارات الود والتقرب لحركة أهل البيت (ع)،والأخذ بثاراتهم،لكنهم مارسوا إرهاباًقاسياً علی أتباع وأنصار أهل البيت (ع)،وطاردت المخلصين من الرساليين بحد السيف ورأس الرمح،حتی راح عدد من كوادر الرسالة ضحية خطط التصفية والإبادة التي ميز بها العباسيون طبيعة علاقتهم مع الحركة الرسالية، فيها قضیآخرون زهرة حياتهم في غياهب السجون الموحشة لبني العباس. ويتقدم قافلة الشهداء عدد من الأئمة الأطهار _ عليهم السلام_ الذين عاصروا الدولة العباسية وكابدوا محن سياساتهم التسفية ضد خط أهل البيت (عج).
الإمام المهدي (عج) هو الآخر ولد في ذروة الإرهاب العباسي،بل كان (عج) نقطة التركيز في كل الإجراءات والتدابير التي إتخذها العباسيون في عهد والده الإمام العسكري (عج) ضد أهل البيت (ع)،نظراً لخطورة لدور الذي سيلعبه في رفد مسار الأمة المقبل وذلك إستيحاءاً من النصوص الشريفة الدالة عليه. ولذلك بذل الإمام العسكري (ع) جهده في الحفاظ علی الإمام المهدي (عج) عبر السرية التامة للمعلومات التي ترتبط بموضوع ولادته (عج)، إلّا لخاصته المقربين لديه رغم إنه (ع) كثيراً ما كان يشير اليه بالنص أو الإيماء، سواء باتجاه مستقبل القيادة أو باتجاه عرض صفاته،وسمات العصر الذي سيخرج فيه ليملاً الأرض قسطاً عدلاً كما ملئت ظلماً وجورا.
ولما إغتال المعتصم العباسي الإمام العسكري (ع)، أخذ يفتش عن نجله ليقضي عليه، ليقطع بذلك دابر الإمامة الإسلامية، فأرسل الی بيت الإمام (ع) ليحتجز ما فيه ومن فيه،وعن لسان أحمد بن عبد الله بن يحی بن خاقان انه قال(1):
«لما أعتل الإمام الحسن العسكري (ع) بعث إلی ابن الرضا (ع) قد إعتل فركب من ساعته إلیدار الخلافة ثم رجع مستعجلاً مع خمسة نفر من خدام (أمير المؤمنين) كله من ثقاته وخاصته ومنهم نحرير _ وأمرهم بلزوم دار الحسن بن علي، وتعرف خبره وحاله، وبعث إلی نفر من المتطببين فأمرهم بالإختلاف إليه وتعاهده صباحاً ومساءاً.
فلما كان ذلك بيمين جاءه من أخبره أنه ضعف فركب حتی بكر اليه، فأمر المتطببين بلزومه، وبعث إلی قاضي القضاة فأخببره مجلسه، وأمره أن يختار من أصحابه عشرة ممن يوثق به في دينه وأمانته وورعه فأحضرهم فبعث بهم إلی دار الحسن (ع) وأمرهم بلزومه ليلاً ونهاراً.
فلم يزالوا هناك حتی توقی (ع) لأيام مضت من شهر ربيع الأول من سنة ستين ومائتين، فصارت سر من رأی ضجة واحدة _مات أبن الرضا_.
وبعثت السلطات إلی داره من يفتشها ويفتش حجرها، وختم علی جميع مافيه وطلبوا أثر ولده، وجاءوا بنساء يعرفن الحمل فدخلن علی جواريه فنظرن إليهن فذكر بعضهن أن هناك جارية بها حمل، فأمر بها وجعلت في حجرة ووكل بها نحرير الخادم وأصحابه ونسوة معهم.
ثم قال: ولم يزل الذين وكلوا بحفظ الجارية التي توهموا عليها الحمل ملازمين لها سنتين وأكثر حتی تبين لهم بطلان الحمل، فقسم ميراثه (ع) بين أمه وأخيه جعفر وإدعت أمه وصيته وثبت ذلك عند القاضي.
والسلطان علی ذلك يطلب إثر ولده.
حتی قال: «وخرجنا _والأمر علی تلك الحال_ والسلطان يطلب إثر ولد الحسن بن علي (ع) حتی اليوم».
وهن وعلی الرغم من أن العباسيين قد جندوا كافة إمكاناتهم وعيونهم لمراقبة بيت الإمام العسكري (ع) قبل إستشهاده لمعرفة إن كان له ولد، من أجل القضاء عليه واستئصال شأفة بيت رسول الله (ص) من الأمة. بالذات لمعرفتها إن ولادته ووجوده بين ظهراني الأمة حسب روايات وأحاديث الرسول (ص) ومن بعده سائر الائمة (ع) تدل علی نهاية الحكم من يد بني العباس، بالرغم من ذلك لكنهم لم ينجحوا في الوصول إلی الإمام المهدي (عج) بسبب تخطيط والده الإمام العسكري (ع) في الحفاظ علی سرية حمل والدته، ومن ثم الحذر الشديد من أعين الرقباء علی وجوده. وفي هذا الإطار كابد الإمام العسكري (ع) المحنة بين عملين متناقضين، الأول: حذره الشديد من إشاعة خبر ولادة الإمام المهدي (عج) لكي لايصل إلی أسماع بني العباس الذين يتربصون به الدوائر من أجل قتله والقضاء عليه، والثاني: مسئوليته في إثبات وجود الإمام المهدي (عج) لدی الأمة لكي يكون الإمام والقائد من بعده، لأنه في غير ذلك سيكون من الصعب علی الأمة معرفة هذه الحقيقة في ظل عدم توصية الإمام العسكري (ع) نفسه.
لقد إستطاع الإمام العسكري (ع) تجاوز المحنة بعد أن مارس دوره الرسالي المسئول بقدر كاف من الدقة المتناهية حيث _وكما مر معنا_ إنه (ع) قام بتعويد الأمة علی طرق جديدة من الإتصال وهو عبر المكاتبة والوكلاء، كما أنه (ع) _أيضاً_ ساهم في تبيين وتوضيح مسألة «القيادة والإمامة» وتخصيصها بالإمام المهدي (عج) وربطها بأساليب الإتصال التي إعتمدها خاصة في فترة إمامته الأخيرة قبيل استشهاده.
السؤال هنا: كيف تعاملت الأمة مع الإمام المنتظر (عج) بعد إستشهاد والده (ع)؟
وكيف مارس الإمام المهدي (عج) قيادة الأمة وهو في حال الغيبة الصغری؟
وما هي الأوضاع التي آلت إليها الأمة في غيبة الإمام المهدي (عج)؟
وما هو الدور الذي يمكن أو يجب أن تلعبه الأمة في زمن الغيبة؟
هذا ما سنحاول الإجابة عليه خلال السطور القادمة.
رحيل الإمام العسكري والبداية الجديدة للتاريخ الإسلامي:
يمكن بإختصار شديد إعتبار بداية عهد الإمام المهدي (عج) هو بداية جديدة للتاريخ الإسلامي مرحلة جاءت لتضع حداً لكافة محاولات التصفية والإرهاب النفسي والمادي الذي كانت تمارسه السلطات السياسية، التي امتطت صهوة الحكم عبر التنكيل والحيلة والإرهاب ضد الأئمة وخط أهل البيت (ع) الذين يمثلون الإمتداد الشرعي لحركه الرسول الأعظم (ص) في الأمة كما تدل عليه النصوص والروايات الشريفة المنسوبة إليه في حق أهل البيت (ع).
وفي بداية عهد الإمام المهدي (عج) كانت الأمة معبأة في إتجاهين رئيسين، يتمثل الأول منهما في الطريقة الجديدة (الرسائل، الوكلاء) التي يجب أن تتعامل بها مع إمامها الجديد، وتستلهم من خلال ذلك منه الرؤية وأسلوب العمل والتحرك، أمّا الثاني منهما فيتمثل في أهمية الإستمرار والمواصلة في النهج الرسالي الذي غذاه سائر الائمة في الأمة في مختلف العهود الماضية من مراحل عملهم الحضاري فيها.
وتكمن صعوبة الأمر بسبب طبيعة الواقع السياسي الذي كانت تعيشه الأمة بعد رحيل الإمام العسكري (ع) والذي أتسم بضراوة القمع وشدة الإرهاب الذي مارسه بنو العباس من أجل القضاء علي ماتبقي من وجود لأهل البيت (ع) في وسط الأمة.
ومن خلال الرجوع إلی عدد من الروايات يمكن لنا فهم حجم التحديات التي كانت تعيشها الأمة في بداية عهد الإمام المهدي (ع)، والتي تلخص من جانب آخر طبيعة الأوضاع السياسة التي استلم فيها الإمام (عج) مهام قيادة الأمة والتصدي لمسئولية القيام بأعباءها من جميع النواحي.
فقد روي أنه لما توفی الإمام العسكري (ع) بعثت السلطات الی داره من يفتشها ويفتش جميع حجرها ويختم علی جميع مافيها، وطلبوا إثر ولده وجاءوا بنساء يعرفن الحمل، فدخل علیجواريه فنظرن إليهن فذكر بعضهن أن هنالك جاريه بها حمل، فأمر بها فجعلت في جرة ووكل بها نحرير الخادم وأصحابه، نسوة معهم، ثم أخذوا بعد ذلك في تهيئة جثمان الإمام العسكري (ع) وعطلت الأسواق وركب بنو هاشم، القواد والكتاب وسائر الناس إلی جنازته فكانت سر من رأي يومئذ شبيهة بالقيامة (2).
ويقول ابن الصباغ المالكي في كتابه (الفصول المهمة): وخلف أبو محمد الحسن من الولد إبنه الحجة القائم المنتظر لدولة الحق، وكان قد أخفی مولده وستر أمره لصعوبة الوقت وخوف السلطات وملاحقتهم لأهل البيت (ع) وحسبهم والقبض عليهم(1).
لقد كانت السلطات العباسية وكما يبدو من خلال جملة هذه الرويات العديدة وغيرها الكثير ممن تحمل ذات المضمون أنها علي قدر كبير من الخوف الذي يعبر عن حالة الهيجان التي يعيشها العباسيون بسبب الإجتماع الإسلامي علی شرعية الإتجاه، سلطة قائمة أساساً علی المكر والإرهاب والخداع من جهة ثانية.
لقد كانت فكرة الإمام المهدي (عج)،فكرة رائجة يعتقد بها جميع المسلمين، علی إن المهدي (عج) هو المصلح الذي يخلص الأمة من برائن العبودية والإستغلال إلي حيث يعم العدل والمساواة.
ومن خلال النصوص المتواتره عرفت الأمة إنه (عج) من آل محمد ومن سلالته. فقد ورد ذكره في الأحاديث النبوية الشريفة علیأنه الإمام الثاني عشر محمد المهدي بن الحسن العسكري بن علي الهادي بن محمد الجواد بن علي الرضا بن موسی الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين الشهيد بن علي بن أبي طالب _صلوات الله وسلامة عليهم أجمعين_.
وقد حدث نيجة هذا الإعتقاد بفكرة الإمام المهدي (عج) إن التحرك الإسلامي الذي كان يمثل الأقلية الساحقة من عموم الأمة، أصبح يعني تلك الجموع الغفيرة التي إعتنقت مبدأ هذه الفكرة.
وبذلك تواصلت نشاطات المؤمنين الرساليين من طلائع هذه الأمة لتعميق إطروحة الإسلام الرسالي في نفوس الأمة، وبدأ عهد جديد إمتدت فيه هذه الأطروحة لتشمل بقاع واسعة من بلاد العالم، إذ تضم بين حناياها تياراً واسعاً من الموالين والمحبين لآل البيت (ع) بإعتبارهم الإمتداد الشرعي للرسول الأعظم (ص).
الإمام المهدي (عج) والغيبة:
من الموضوعات الهامة في حياة الإمام المهدي (عج) والتي استحوذت علي إهتمام الكثير من المفكرين والمؤرخين هو البحث في مسألة (الغيب). _وكما أسلفنا_ سوف لن نتحدث عن موضوع الغيبة من بعدها الفلسفي أو العلمي وما يقتضيه من إعطاء المبررات الازمة بقبول فكرة طول العمر وامكانيتها. لكننا سننحدث بإيجاز عن الغيبة كيفية حدوثها في السياق التاريخي منتهين إلیواقعنا الحالي وارتباطنا بفكرة الإمام الحجةالمنتظر (عج) وكيف ننمي علاقتنا بالإمام المهدي (عج)؟
لاشك أن التحديات التي جابهت المسلمين حين ولاية الإمام المهدي (عج) كانت خطيرة إلی حدٍ بعيد، حيث تعرض عدد كبير من الممؤمنين الرساليين إلی التصفية الجسدية والمطاردة والنفي والتشريد.
ونظراً لأن الدولة العباسية كانت تتعقب الإمام المهدي (عج) بقصد إغتيالة والقضاء عليه، وأنّها إستخدمت إبشع وأعنف الوسائل ضد رجاله وأصحابه للحد من نشاطاتهم، فلم يبرز (عج) إلّا لخاصته الذين عينهم سفراء يصرفون شئون المسلمين بأسمة. وهكذا كانت الغيبة الصغری التي أمتدت من عام 260هـ إلی العام 329 هـ. وكان نواب الإمام (عج) هم:
1/ ابو عمرو عثمان بن سعيد العمري الذي كان وكيلاً للإمام الحسن العسكري (ع)، بعد وفاته أصبح نائباً للإمام الحجة (عج) حتی توفاه الله_ عزوجل_ في العام 266هـ.
2/ أبا جعفر محمد بن عثمان العمري الذي عينه الإمام المهدي (عج) نائباً له بعد وفاة والده، وظل سفيراً ووسيطاً بين الإمام والأمة حتی العام 304 هـ.
3/ حسين بن روح النوبختي الذي إستخلفه محمد بن عثمان علی الأمة من بعده، واستمر في سفارته (22 عاماً) أي إلی العام 329 هـ.
4/ أبا الحسن علي بن محمد السمري الذي عينه الإمام (عج) بعد أن لبی حسين بن روح نداء ربه، وبقی في نيابته ثلاث سنوات أي للعام 329هـ، ولما إقترب منه الأجل سأل عن من ينوبه فأخير بانتهاء الغيبة الصغری بوفاته.
وقد اعتمد الإمام (عج) علی سفراءه الأربعة في تسيير مهام الأمة والنهوض بها، وتم إعتماد منهج السرية التامة في طريقة الإتصال بينه وبينهم، وبينهم والأمة لكي لا تتمكن السلطة العباسية من وضع يدها عليهم، لتحول دون إتصال الإمام بسائر المؤمنين حينها. وفضلاً عن ذلك فأن الجو العام المضطرب التي تعيشه الساحة بسبب تصاعد وتيرة القمع العباسي في صفوف الموالين لتحرك أهل البيت (ع) لم يكن يسمح هو الآخر بحرية التحرك والتنقل خاصة بالنسبة للسفراء، مما أضطرهم إلی إعتماد وسائل سرية لإيصال الرسائل والأمانات، فهذا عثمان بن سعيد العمري (السفير الأول) ينقل الرسائل والأمانات في جراب السمن للتمويه علی أعين الرقباء.
وتتخلص مهمة السفراء في الآتي:
1/ تهيئة أذهان الأمة لمستقبل الغيبة الكبری، تعويدهم علی الرجوع الی الفقهاء والعلماء المجتهدين الذين قطعوا شوطاً في فهم الدين. لكي لاتتم مفاجئتهم بها، والتي ربما تعرض الكيان الإسلامي إلی هزة نفسية صعبة العلاج.
2/ رعاية مصالح الأمة وإدارة شئونها، وإيصال ما استجد من توجيهات الإمام القائد إليها، حسب الحاجة والأحداث الواقعة. وبعبارة: مثل السفراء الواسطة بين الإمام والأمة في شتی المجالات تربط بينهما.
أمّا بالنسبة للأمة ففي سنوات الغيبة الصغری إعتاد المسلمون علی الرجوع الی فقاءهم الذين تخرجوا من مدارس أهل البيت (ع)، وكانت لديهم القدرة علی إختيار الفقهاء الصالحين لإدارة شئونهم المتعددة الأغراض وفي هذه الفترة تفقه العديد من المسلمين حتی أعطاهم الإمام صلاحية الإفتاء.
أما الآن وفي عصر النيابة العامة فإننا كمسلمين علينا الرجوع إلی الفقهاء العدول الذي حثنا الإمام (عج) في عدد من وصاياه المكتوبة والمنقولة لنحقق بذلك ما في أعناقها من عهد البيعة والولاء الذي هو فرع أساس من فروع ديننا الحنيف.
ربما يظن البعض _ خطأ _ إن البيعة بالوجود الشخصي للإمام (عج)، حيث يمكن النطق بالعهد في حضرته، لكننا نقول إن البيعة للإمام (عج) هي قيمة تسمو علی الجوانب المادية البسيطة التي تسطير علی عقول الغالبية العظمی من الناس، فهي إعلان ولاء للقيم والمبادئ والخط الرسالي القويم الذي يمثله الإمام (عج) بالنسبة الينا كمسلمين، وهو تعبير عن الإدارة الآلهية التي تهيمن علی هذا الكون، وأنها تطالب باجراء البيعة بهذه الصورة.
وإذ نعيش الآن في زمن الغيبة الكبری التي إبتدأت بوفاة السمري عام 329هـ، فما هو المطلوب منّا حيال قضية الإمام المنتظر (عج)؟
إن الغيبة لاتعنی ان الله _ سبحان وتعالی_ أراد أن يوقع هدنة ما بين الحق والباطل، أو إنه أراد يجمد الصراع بين من يمثلون الحق وبين من يمثلون الباطل، بالعكس تماماً من ذلك فإرادة الله _ عزّ وجلّ_ أبت إلا أن تتواصل رسالته علی مدی الدهور والأزمان حتی قيام الساعة ولذلك شاءت حكمته أن يخلو من آل محمد رجلا، تتطلع إليه أفئدة المؤمنين في كل مكان كلما ألم بهم حادث وأذاهم مكروه، فيعطيهم الأمل، ويبعث في قلوبهم الروح، ويطرد من نفوسهم اليأس.
والسؤال:
ما هو واجبنا _إذن_ في عصر الغيبة؟
لاشك إننا مسئولون:
اولاً: عن الواقع الذي نعيش فيه من مختلف أبعاده وشتی جوانبه، في السياسه، والإقتصاد، الإجتماع، الحضارة، الثقافة، وحتی الشئون العسكرية، فتأبی السمحاء تجاهل المؤثرات التي ترسم الواقع المعاش بالنسبة إلينا كبشر، بل تطالب بضرورة تحمل المسئولية وأداة الواجب من أجل إزدهار ونهضة المجتمع الإسلامي حتی يتفوق علی غيره من المجتمعات الآخری.
ثانياً: إن في أعناقها البيعة للإمام (عج) كفرض آلهي، فمن مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية، وبهذه البيعة نحدد الإتجاه الفكري والعقائدي والإيديولوجي الذي من خلاله نصون حياتنا المعاصرة، والبيعة عقد في القلب، ومن ثم سلوك في الحياة في شتی أبعادها ومجالاتها.
وكيف نحقق ذلك؟
1/ بناء الشخصية الواعية، فكراً وسلوكاً، بمقتضيات الإسلام وشريعته السمحاء، ومن جهة ثانية واعية ومدركة بمتطلبات الصراع وقضايا التحدي المعاصرة التي تمر بها امتنا الإسلامية في بقاع الأرض.
يقول الإمام القائد المهدي (عج) في رسالته وجهها للمؤمنين عبر الشيخ المفيد (ره): فليعمل كل امریء منكم بما يقربه من مجتنا، ويتجنب مايدينه من كراهتنا وسخطنا(1).
وكتب فضيلة الشيخ حسن الصفار في كتابه الإمام المهدي أمل الشعوب(2): وحينما يرفع الإنسان المؤمن وعيه إلی مستوی المواجهة ويجعل سلوكه في مستوی المسئولية في هذه الظروف الحرجة، فإنه بذلك يتفوق في فضله ومكانته علی جميع الأجيال السابقة كما ينص علی ذلك الإمام السجاد (ع) بقوله: «ان أهل زمان غيبته، القائلين بإمامته والمنتظرين لظهوره، أفضل من أهل كل زمان، لأن الله تبارك وتعالی أعطاهم من العقول والافهام والمعرفة، ما صارت به الغيبة عندهم بمنزلة العيان، وجعلهم في ذلك الزمان بمنزلة المجاهدين بين يدي رسول الله (ص) بالسيف، اولئك المخلصون حقاً والداعين إلی دين الله سراً وجهراً(3)».
من هنا فإن دورنا كمسلمين في عهد الغيبة الكبری دور هام وخطير، فعلی أساسه تتقدم الأمة أو تتأخر، ويمدی عطاءنا أو تقاعسنا يكون حال الأمة.
ولا شك إن العطاء الأمثل الذي من شأنه يدفع الأمة إلی حيث مواقع التأثير في العالم بأسره، وإلی حيث التقدم والإزدهار، هوالعطاء النابع من الشخصيات المسلمة الواعية والمدركة بقضايا دينها، وتطلعات مجتمعاتها، والتي يدفعها وعيها وإدراكها السليم إلی تحمل المسئولية.
وإننا _كأمة_ بحاجة اليوم إلی نشاطات مضاعفة، تتناسب وحجم التحديات المتعددة الأوجه التي نمر بها، ولا بد لنا من أن ننمي طاقاتنا ومواهبنا بحيث نستطيع مواجهة التحدي بكل جدارة وثقة واطمئنان. وبذلك وحده يمكن أن نحقق _كأمة_ كل تطلعاتنا وطموحاتنا في النهضة والتقدم.
إن المسيرة المتصاعدة للأمة الإسلامية اليوم إنما هي بجهود المؤمنين الصالحين الذين حملوا راية الإسلام ووعوها، وأدركوا جيداً الدور المطلوب منهم، فكانوا خير مثال لتحمل المسئولية والتصدي للمهام لرفعة شأن الإسلام وأهله، فكانت هذه الموجات المتصاعدة من نهضة المسلمين في شتی بقاع الأرض.
ولكي تتصاعد وتيرة هذه النهضة لا بد من المزيد من النوعيات التي تحمل علی عاتقها مهمة نشر الإسلام والدفاع عنه، وهداية الناس إلی تبنيه، بعد أن تفتحت عيونهم علی ضرورته وأهميته للخلاص من شر الفتن التي عصفت بالأمة سابقاً ودفعت فيها أغلی الأثمان.
2/ إعداد وتهيئة النفس للعمل والعطاء والتضحية، فمن غير العمل والعطاء لا يمكن أن تتحقق أبسط الغايات وأيسرها، فكيف بقضايا التغيير وتشييد الحضارات.
إن الفكر والثقافة التي يحملها الإنسان وإن كانتا في غاية الأهمية والضرورة، فإنهما بحاجة _أيضاً_ إلی ممارسة وتجسيد لكي تعطيان ثمارها. وإلّا لما كنا نجد حياة الأئمة _عليهم السلام_ حافلة بالعطاء في شتی مجالات الحياة.
لقد مرت الأمة الإسلامية بتجارب قاسية ومؤلمة من التراجع والتقهقر والإنهيار، كل ذلك بسبب توقف الكثير منا عن العطاء والبذل، رغم إن آيات من الذكر المجيد، وأحاديث وروايات عديدة عن الرسول الأكرم وأهل بيته _عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام_ تحثنا علی البذل والعطاء والعمل. بل إن رواية تقول: «العلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلّا إرتحل عنه».
أرأيت بناء البيت كم هو بحاجة إلی العمل، وأرأيت إلی إبسط الإدوات المنزلية والحاجات المعيشية كم هي بحاجة إلی العطاء من النفس والوقت والمال والراحة، فكيف ببناء المجتمعات وتشييد صروح الحضارات.
إنها _بلا شك_ بحاجة إلی مضاعف، وإلی بذل متزايد في سائر المجالات الممكنة والمتاحة من النفس والمال والوقت والجهد، لكي نستطيع المسامهمة في رفع شأننا كمسلمين وأمة بين سائر الأديان والأمم لا بد لنا من أن نضاعف من عطاءنا وتضحياتنا، خاصة في زمن الغيبة تحتاج فيها الأمة إلی السواعد الواعية المعطاءة.
3/ التمهيد لظهور الإمام (عج)، الذي تتلخص مهمته الأساسية حين خروجه وكما يتضح من خلال الروايات الدالة عليه، إنه (عج) يخرج ليملأ الإرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً. وبعبارة ثانية بناء دولة إسلامية عالمية لجميع البشر.
ويتم التمهيد من خلال بث الوعي والثقافة الإسلامية الأصلية علی أوسع نطاق في العالم، والسعي الدؤوب من أجل نشر الفضيلة ومقاومة عوامل الفساد والإنحراف في الأمة وذلك بمختلف الوسائل، حتی يأتي الإمام المهدي (عج) ويكمل المسيرة.
عن الرسول (ص) أنه قال: «يأتي قوم من قبل المشرق ومعهم رايات سود، فيسألون الخير فلا يعطونه، فيقاتلون فينصرون، ما سألوه، فلا يقبلونه حتی يدفعوها إلی رجل من أهل بيتي، فيملؤها قسطاً كما ملؤها جوراً، فمن أدرك ذلك منكم فيأتهم ولو حبواً علی الثلج(1)».
وعن الإمام الباقر (ع): « كأني بقوم قد خرجوا بالمشرق يطلبون الحق فلا يعطونه، ثم يطلبونه فلا يعطونه، فإذا رأوا ذلك وضعوا سيوفهم علی عواتقهم، فيعطون ما سألوا، فلا يقبلونه حتی يقيموا، ولا يدفعونها إلّا إلی صاحبكم (الإمام المنتظر) وقتلاهم شهداء(1)».
ومن دعاء العهد المنسوب إلی الإمام المهدي (عج) نقرأ المقتطفات الآتية: «اللهم بلّغ مولانا الإمام الهادي المهدي القائم بأمرك (صلوات الله عليه وعلی جميع آباءه الطاهرين) عن جميع المؤمنين والمؤمنات في مشارق الأرض ومغاربها، سهلها وجبلها، وبرها وبحرها، وعني وعن والدي من الصلوات زنة عرش الله، ومداد كلماته، وما أحصاه علمه، وأحاط به كتابه.
اللهم أني أجدد له في صبيحة يومي هذا، وما عشت من أيامي عهداً وعقداً وبيعة له في عنقي، لا أحول عنها ولا أزول أبداً.
اللهم اجعلني من أنصاره وأعوانه والذابين عنه، والمسارعين إليه في قضاء حوائجه، والملمتثلين لآوامره والمحامين عنه، والسابقين إلی إرادته، والمستشهدين بين يديه.
اللهم ان حال بينيي وبينه الموت الذي جعلته علی عبادك حتماً مقضياً، فأخرجني من قبري مؤتزراً كفني شاهراً سيفي، مجرداً قناتي، ملبياً دعوة الداعي في الحاضر والبادي.
اللهم أرني الطلعة الرشيدة، والغرة الحميدة وأكحل ناظري بنظرة مني إليه، وعجل فرجه وسهل مخرجه وأوسع منهجه وأسلك بي محجته، وأنفذ أمره وأشدد أزره».
وختاماً نتضرع إلی المولی الحق عزوجل بالدعاء: «اللهم انا نشكوا اليك فقد نبينا صواتك عليه وآله، وغيبة ولينا وكثرة عدونا وقلة عددنا وشدة الفتن بنا، وتظاهر الزمان علينا، فصلي علی محمد وآله وأعنا علی ذلك بفتح منك تعجله، وبضرٍ تكشفه ونصرٍ تعزه، وسلطان حق تظهره، ورحمة منك تجللناها، وعافية منك تلبسناها برحمتك يا ارحم الراحمين».
وهذه بإختصار مهامنا الإساسية في عهد الغيبة والتي تنطوي تحتها مهام أخری عديدة، متنوعة الأبعاد.
source : www.tebyan.net