لقد ورد في تاريخ حياة الإمام الباقر (عليه السلام) أنه كان يعرف العبرية والسريانية، فلا عجب أن يعرف الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) هذه اللغات وثقافات أممها، وأن ينطلق في التحدث أو القراءة والكتابة فيها، وسيأتي أثناء عرضنا لبعض الروايات المأثورة عن الإمام أبي عبد الله (عليه السلام) ما يثبت ذلك، وفضلاً عن إتقانه لهذه اللغات، كان يعرف النبطية والصقلبية والحبشية ويتحدث بها أيضاً.
الفارسية
عن محمد بن أحمد عن أبي عبد الله قال: دخل عليه قوم من أهل خراسان، فقال ابتداء من غير مسألة: من جمع مالاً من مهاوش أذهبه الله في نهابر. فقالوا: جُعلنا فداك، لا نفهم هذا الكلام، فقال (عليه السلام): (أز باد آيد بدم بشود) (ما يأتي به الريح يذهب به).
وقال أحمد بن محمد بن الأهوازي عن النضر عن يحيى الحلبي عن أخي مليح عن فرقة: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) وقد بعت غلاماً أعجمياً، فرجع إليه، فجعل يغيّر الرسالة فلا يخبره، حتى ظننت أنه سيغضب. فقال له: تكلم بأي لسان شئت، فإني أفهم عنك. وعن أبي بصير أنه قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) وعنده رجل من أهل خراسان وهو يكلمه بلسان لا أفهمه. وأيضاً في بصائر الدرجات، دخل على أبي عبد الله (عليه السلام) قوم من أهل خراسان فقال ابتداءً: من جمع مالاً يحرسه، عذّبه الله على مقداره). فقالوا بالفارسية: لا نفهم العربية.فقال (عليه السلام) لهم: هركه درم اندوزد جزايش ذوزخ باشد.
وكان مجلسه يجمع أحياناً بين العرب والعجم على اختلاف لغاتهم ولهجاتهم، فيحدث كلاً منهم بلغته، ويفهمه بلسانه. وعن أبان بن تغلب قال: غدوت من منزلي بالمدينة وأنا أريد أبا عبد الله (عليه السلام)، فلما صرت بالباب، وجدت قوماً عنده لم أعرفهم، ولم أر قوماً أحسن زياً منهم، ولا أحسن سيماء منهم، كأن الطير على رؤوسهم، فجعل أبو عبد الله (عليه السلام) يحدثنا بحديث، فخرجنا من عنده، وقد فهم خمسة عشر نفراً منها متفرقوا الألسن، منها اللسان العربي والفارسي والنبطي والحبشي والصقلبي. فقال البعض: ما هذا الحديث الذي حدثنا به؟ قال له آخر لسانه عربي: حدّثني كذا بالعربية. وقال الفارسي: ما فهمت، إنما حدثني كذا وكذا بالفارسية. وقال الحبشي: ما حدثني إلا بالحبشية. وقال الصقلبي: ما حدّثني إلا بالصقلبية، فرجعوا إليه، فأخبروه، فقال (عليه السلام): الحديث واحد، ولكنه فسر لكم بألسنتكم.
العبرية
وأما معرفته بالعبرية وتحدثه بها فمما لا شك فيه أيضاً. فقد جاء في ثنايا الأحاديث المروّية عنه ما يثبت ذلك، وسنسوق حديثنا عنه (عليه السلام) استشهاداً لا استقراءاً. في بصائر الدرجات: عن عامر بن علي الجامعي قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) جُعلت فداك، إنا نأكل ذبائح أهل الكتاب، ولا ندري أيسمون عليها أم لا؟. فقال: إذا سمعتموهم قد سمّوا، فكلوا، أتدري ما يقولون على ذبائحهم؟ فقلت: لا.
فقرأ كأنه شبه يهودي، قد عذها، ثم قال: بهذا أمروا. فقلت: جُعلت فداك، إن رأيت أن نكتبها. قال: اكتب: نوح أيوا أدينوا يلهيز ما لحوا عالم أشرسوا أو صوبنوا يوسعه موسق ذعال اسطحوا وفي حديث آخر جاء النص كالآتي: باروح أنا دوناي إيلوهنوا ملخ عولام اشرفدشنوا عبسوتا وسينوانوا على هشخيطا. يعني تباركت أنت الله إلهنا مالك العالمين الذي قدّسنا بأوامره، وأمرنا على الذبح.
النبطية
بدخول الإسلام بلاد الشام وفلسطين (بيزنطة الشرقية) ازداد عدد الأنباط في حاضرة العالم الإسلامي، سواء الأحرار منهم أم الموالي، وكثر التزاوج بينهم وبين العرب، فتعلم البعض النبطية من هذا الاختلاط.
وكان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) يعرف النبطية ويتحدث بها. ولا شك أن أبناءه الكرام الذين تخرجوا من مدرسته وتخلقوا بأخلاقه هم حملة علمه ووارثو فضله. فهذا أمير المؤمنين (عليه السلام) حين أتى أهل النهروان، نزل قطفتا فاجتمع إليه أهل بادوريا فشكوا إليه ثقل خراجهم، وكلموه بالنبطية، وقالوا أن لهم جيراناً أوسع أرضاً وأقل خراجاً، فأجابهم بالنبطية رعر روظا من عوديا، أي معناه، رُبَّ رجز صغير خير من رجز كبير.
وهذا يونس بن ظبيان النبطي يحدث الإمام الصادق (عليه السلام) بالنبطية ويخبره عن أول خارجة خرجت على موسى بن عمران، وعلى المسيح، ثم على أمير المؤمنين بالنهروان. ثمَّ قال لي: كيف مالح دير بير ماكي مالح، يعني عند قريتك، وهو بالنبطية. فمن خلال هذا العرض السريع والإشارات الواضحة، يبين أن الصادق (عليه السلام) كان على معرفة تامة بلغات أهل عصره وأبناء مجتمعه مهما بعدت أوطانهم واختلفت ثقافاتهم.
source : www.tebyan.net