عربي
Tuesday 26th of November 2024
0
نفر 0

النموذج الثاني: الإمام الرضا (عليه السلام) والجفر والجامعة:

النموذج الثاني: الإمام الرضا (عليه السلام) والجفر والجامعة:

التوضيح والربط:

وبعد ما تقدم وبعد أن عرفنا الحالة التي كان يعاني منها المجتمع فإن من الطبيعي أن تهيمن حالة من التردد والشك والريب على مواقف الناس، وعلى مواجهتهم لظاهرة الخوارج، وشعاراتهم، فكان لابد من اللجوء إلى أسلوب الصدمة، لإحداث اليقظة الضميرية والوجدانية لدى عامة الناس، اعتماداً على المنطلقات العامة فيما يرتبط بالإيمان بالغيب.

وقد ظهرت هذه الصدمة والهزة الضميرية عل شكل إخبارات غيبية، يشاهد الناس تحقق مضمونها بأم أعينهم. من أجل إعطاء الشحنة المحركة، وتسجيل الموقف الحاسم، لكي يمكن بعد ذلك ملاحقة ومتابعة العلم التربوي، والتثقيف والتوعية، ليكون ذلك ضمانة لبقاء القناعات، وتجذيرها في عقل وفكر، ووجدان الإنسان بصورة كافية..

وتمثل هذه الهزة أو فقل الصدمة الضميرية الأسلوب الأمثل لإظهار علم الإمامة، الذي استقاه (عليه السلام) من مهبط الوحي، ومعدن الرسالة محمد (صلى الله عليه وآله) ولم يشاركه فيه أحد.

ثم يأتي دور التركيز على عنصر النص، وتأكيده بصورة قاطعة، حتى لا يبقى عذر لمعتذر، ولا حيلة لمتطلب حيلة.

ويكون تعاضد هذين العنصرين: وهما: علم الإمامة، والنص على الإمام، هو الطريقة المثلى لنقل عنصر المبادأة والمبادرة إلى يد الإمام(عليه السلام).

وهكذا.. يتضح: أن هذه الصدمة من شأنها أن تفتح كوة في الجدار المضروب حول عقل وفكر مجتمع يعاني من حالة مزرية من الجهل بالدين وأحكامه، وبالإمامة والإمام، وقد زين جدار الجهل هذا بأصباغ براقة من الشعارات الخادعة، التي تتلبس له باسم الإسلام، ويجد فيها وسيلة تساعده على تحقيق مآربه في الغنائم والأموال. وفي الجاه، والهيمنة على الآخرين، وغير ذلك. من دون أن يكون للإسلام وتعاليمه تأثير يذكر على مواقفه وممارساته العملية..

نعم.. لقد كانت هذه الهزة الوجدانية ضرورية لأناس يتعاملون ـ في الأكثر ـ مع إمامهم المنصوص عليه من قبل رسول الله (صلى الله عليه وآله) كخليفة له في أعناقهم بيعة، يلزمهم الوفاء بها، لا من منطلق الاعتقاد بإمامته، وتنصيبه من قبل الله على يد رسوله.

ولم يكونوا وقد عرفوا الشيء الكثير عن هذا الإمام الخليفة، ولا عن سوابقه، وأثره في الإسلام وفي الدين.

ولم يكن بوسعه (عليه السلام) أن ينتظر إلى أن تؤدي وسائل الإقناع دورها في بث روح الإيمان وتعميقه، ولا إلى أن تؤدي التربوية التي تحتاج إلى كثير من الوقت والجهد ثمارها في مجال التزكية والتهذيب للنفوس.

والخلاصة: إنه إذا كان حربه (عليه السلام) مع الخوارج على درجة كبيرة من الحساسية، لما كان يمكن أن يؤدي إليه من سلبيات خطيرة في البنية الداخلية للمجتمع، فيما يرتبط بروحيات الناس، ومشاعرهم وقناعاتهم، وعلاقاتهم الاجتماعية، ومجمل أوضاعهم، فإن التركيز على عنصر الغيب، وإظهار علم الإمامة يصبح ضرورة ملحة، من أجل تلافي كثير من تلك السلبيات، بالإضافة إلى ما سوف يتركه هذا الأمر من آثار إيجابية في مجال الفكر والعقيدة للمجتمع الإسلامي في الأدوار اللاحقة.

النموذج الثاني: الإمام الرضا (عليه السلام) والجفر والجامعة:

لقد طال بنا الحديث حول النموذج الأول إلى الحد الذي ربما يجعل القارئ يجد بعض الصعوبة في الربط بين حلقات الموضوع، والتنسيق بين فقراته، ولأجل ذلك فقد رأينا أن نختصر الكلام حول النموذج الثاني والثالث، ونكتفي بالقول:

إن من الواضح: أن المأمون قد أجبر الإمام الرضا (عليه السلام) على قبول ولاية الأمر بعده. وقد أوضحنا في كتابنا: الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام) جوانب وحيثيات هذا الموضوع، وذكرنا أيضاً نبذة عن دوافع المأمون في إقدامه على هذا الأمر الخطير.

وقد بيّنا أيضاً بعض ما يرتبط بخطة الإمام (عليه السلام) لتضييع الفرصة على المأمون، ومنها إخباراته الغيبية (عليه السلام) عن عدم تمامية هذا الأمر، ونلفت النظر إلى خصوص ما كتبه (عليه السلام) على الوثيقة الرسمية لولاية العهد ولاسيما قوله:

(والجامعة والجفر يدلان على ضد ذلك).(13)

حيث أشار (عليه السلام) في قوله هذا إلى أحد الركنين الذين تقوم عليهما الإمامة، ألا وهو العلم الخاص الذي تلقاه عليه السلام عن آبائه الطاهرين (عليهم السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وقد أسند ذلك إلى الجفر والجامعة الذين لا يملكهما أحد سواه حتى الخليفة المأمون.

النموذج الثالث: المهدية وعلامات الظهور:

لقد روى المسلمون على اختلاف طوائفهم أحاديث كثيرة جداً عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) تبلغ المئات والألوف حول المهدي من أهل البيت عجل الله تعالى فرجه، وأحواله، وعلامات ظهوره، وما يجري في أيامه.

وقد روي عن الأئمة الأطهار من أهل البيت (عليهم السلام) الشيء الكثير والكثير جداً من ذلك أيضاً.

ويكفي أن نذكر: أنه قد ادّعى الكثيرون المهدية لأنفسهم في حياة الصحابة والتابعين، ثم من بعدهم، ولم ينكر عليهم أحد، ولا ناقشهم أي من الناس في أصل الاعتقاد بالمهدية.

وإنما انصب النقاش حول تطبيق هذا اللقب على هذا الشخص أو ذاك، بل إن بعض من ادّعى هذا الأمر قد بايعته الأمة بمختلف فئاتها في معظم الأقطار والأمصار، ولم يمتنع عن بيعته سوى الإمام الصادق (عليه السلام) وشيعته.(14)

بل إن المعتزلة الذين أفرطوا في الاعتماد على العقل وقياس أحكام الشريعة وتعاليمها عليه، لم يصدر منهم آية بادرة في نطاق الاعتراض أو التشكيك في هذا الأمر الخطير والهام. كما أن الحكام الذين يرون: أن هذا الاعتقاد إنما يعني إدانة لهم، واعتبارهم غاصبين لمواقع ليست لهم، لم يستطيعوا أن يثيروا أية شبهة حول هذا الأمر، فاضطروا إلى التسليم به، والتعامل معه على أنه أمر قطعي وثابت، كما كان الحال بالنسبة للمنصور الذي حاول الالتفاف على الموضوع بتسمية ولده بالمهدي.

لكنّه لم يفلح كما هو معروف ومشهور.(15)

الاخبارات المستقبلية في دائرتين:

ومن المفيد الإلماح هنا إلى أنّ ما ورد عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، وعن الأئمة الطاهرين (عليهم السلام)، من اخبارات عن أحداث مستقبلية، وظواهر اجتماعية، قد عُرِفَت باسم: أخبار الملاحم، أو أخبار المنايا والبلايا، يمكن أن يجعل ضمن دائرتين:

إحداهما: دائرة التوقيف: وما سبيله النقل عن مصدر الغيب فالنبي (صلى الله عليه وآله) ينقل لنا عن جبرائيل، عن الله (تعالى)، والأئمة (عليهم السلام) ينقلون لنا عن آبائهم عن النبي (صلى الله عليه وآله) عن جبرائيل عن الله (تعالى).

وقد يعرض البداء لبعض المفردات من هذه الاخبارات، كما سيأتي تفصيله في الفصل التالي أن شاء الله (تعالى).

الثانية: دائرة الخبرة. وما سبيله المعرفة الدقيقة بالظروف والأحوال، ثم بالآثار والنتائج. من دون أن يكون ثمة حاجة إلى التوقيف.
فإذا كان النبي (صلى الله عليه وآله) أو الإمام (عليه السلام) هو الأعرف والأدرى بحقيقة الظروف والأحوال التي تمرُّ بها الأمة، وقد عَرَفَ الناس، وظروفهم وحالاتهم، ووقف على حقيقة خصائصهم ومستوياتهم، وطريقة تفكيرهم، ونوع طموحاتهم، وطبيعة تحركاتهم، فإنه سوف يكون بمقدروه رسم آثارها، ونتائجها بحسب مالها من تدرُّج طبيعي، وفق المعايير الواقعية، التي يعرفها (عليه السلام) ويدركها أكثر من أي إنسان آخر، ويكون إخباره (عليه السلام) بذلك على حدّ إخبار الطبيب الخبير بما ستكون عليه حالة رجلٍ قد جلس في حرّ الهاجرة ثلاث ساعات مكشوف الرأس، تصهره أشعة الشمس.

فإذا أخبر بصورة قاطعة بالحالات والعوارض التي ستنتاب هذا الشخص، فسوف يتحقق ما يخبر به جزماً وحتماً.

ولتكون إخبارات الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي كان من أعرف الناس بزمانه وأهله عمّا ستكون عليه الحال لو حكم الأمة بنو أمية ـ لتكن ـ من هذا القبيل، فقد قال (عليه السلام):

(.. وأيم الله، لتجدُنّ بني أميّة لكم أرباب سوء بعدي، كالنّاب الضروس، تعذم بفيها، وتخبط بيدها، وتزبن برجلها، وتمنع ردّها. لا يزالون بكم حتى لا يتركوا منكم إلاّ نافعاً لهم، أو غير ضائر بهم. ولا يزال بلاؤهم، حتى لا يكون انتصار أحدكم منهم إلاّ كانتصار العبد من ربّه، والصاحب من مستصحبه، ترد فتنتهم شوهاء مخشية، وقِطَعاً جاهلية. ليس فيها منار هدى ولا علم يرى).(16)

إلى غير ذلك من كلماته (عليه السلام) الكثيرة جدّاً فليراجع نهج البلاغة، فقد جاء فيه من ذلك الشيء الكثير والشافي.

ولكن ذلك لا يمنع من أن تحدث بعض التحولاّت والوقائع التي تغيّر سير الأحداث، وتعطف اتجاهها، وتمنع من تحقق تلك الاخبارات على صعيد الواقع ولو بأن يحدث زلزال أو جفاف وقحط، مثلاً يزعزع الحالة القائمة، ويدفع بالناس إلى مواجهة أزمات عاطفية، أو إنسانية، أو اقتصادية، وحتى إجتماعية وسياسية تترك آثارها على مجمل حياة الناس، وعلى واقعهم في المجالات المختلفة، ويحدث من ثَمَّ خلل في حالات التوازن القائمة وتحدث تغييرات رئيسية في كثير من الطموحات، والتوجهات، والمواقف، والخطط على الصعيدين الخاص والعام على حد سواء.

ولكن ليكن معلوماً: أن حدوث هذه المفاجآت لا يقلّل من قيمة تلك الاخبارات، التي جاءت نتيجة طبيعية لعملية رصدٍ دقيقة وعميقة لكل الواقع الذي يعيشه الناس، ويتعاملون معه ويتحركون فيه..

حيث لابدّ من أخذها بعين الاعتبار في كل تخطيط مستقبلي هادف إلى إحداث تغيير جذري لصالح الاتجاهات السليمة والخيّرة على صعيد الأمة بأسرها.

بل ليس من قبيل المجازفة القول: إنّ تلك المفاجآت التي ألمحنا إليها، تؤكد قيمة تلك الاخبارات المستقبلية وتعززها إذ كان من شأنها أن تعالج بعض الآثار السلبية التي تتمثل في حدوث ارتكاز عفوي نشأ عن محض العادة والألفة بالمحكومية والخضوع للتيار العام، من دون أن يملك هذا الارتكاز المبررات الكافية له في متن الواقع. وتكون نتجية ذلك هي أن يسير الإنسان في صراط الاستسلام إلى تيار يشعر أنه لا يملك معه أي خيار. في حين أنه يملك كل الخيارات في صنعه وفي تحويل اتجاهه. وليس ما يحس به إلاّ شعور كاذب، ومحض سراب.

وعلى هذا فإن تلك المفاجآت تأتي لتؤكد للإنسان أن كل شيء قابل للتغيير، وأن عليه أن لا يستسلم ولا يستكين، وليكتشف ـ من ثم ـ أنه إنما كان أسير خيال زائف وأوهام بالية وأنه يملك من القدرات والخيارات ما يجعله قادراً على التأثير في كل ما يحيط به، وعلى توجيه الأمور أنى شاء وحيثما يريد.

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا
ملامح شخصية الإمام جعفر الصادق عليه السلام
أحاديث في الخشية من الله (عزّ وجلّ)
أقوال علماء أهل السنة في اختصاص آية التطهير ...
فاطمة هي فاطمة.. وما أدراك ما فاطمة
معرفة فاطمة عليها السلام
علي مع الحق - علي مع القرآن - شبهة وجوابها - خلاصة ...
صدق الحدیث
السيد الشاه عبدالعظيم الحسني رضوان الله عليه
كلمات رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) القصار

 
user comment