كراماتــه ومكرماتــه
كما اختار ربنا من بني إسرائيل اثني عشر نقيباً ، اختار لهذه الأمة اثني عشر إماماً هادياً إليه بإذنه ، ذرية بعضها من بعض واللـه سميع عليم .. أوليس اللـه أعلم حيث يجعل رسالته ؟ بلى . لذلك كان الإمام افضل خلق اللـه في علم اللـه ، ولذلك اصطفاه اللـه لهذا المنصب الإلهي العظيم !!
وهكذا كان الإمام عبداً لله قد وقر قلبه الإيمان باللـه ومعرفته ، أحب اللـه ، والتسليم له فأحبه اللـه ، ورفعه مقاماً علياً ، وكان عند ربه مرضياً .
وما الكرامات التي ظهرت على يديه إلاّ آية بينة لمدى حب اللـه له ، وبالتالي لمدى حبه لله ، وتسليمه له ورضاه بما قدر له وقضى .
لقد كان للإمام الهادي (ع) ذِكراً يبدو أنه كان يكرره ، وقد علَّمهُ لشيعته وقال : دعوت اللـه أن يستجيب لمن دعا به في مشهدي بعد وفاتي وهذا الذكر هو :
" يا عدتي عند العدد ويا رجائي والمعتمد ويا كهفي والسند ، ويا واحد يا أحد ، يا قل هو اللـه احد ، وأسألك اللـهم بحق من خلقته من خلقك ، ولم تجعل في خلقك مثلهم أحداً أن تصلي عليهم وتفعل بي (كيت وكيت) (1).
هذا الذكر هو عنوان صفات الإمام ، ومفتاح معرفته فهو عبد أخلص العبودية لله ، فكان مثلاً لما جاء في الحديث القدسي :
" عبدي اطعني تكن مثلي - أو مثلي - أقول للشيء كن فيكون وتقول للشيء كن فيكون " .
إنه عبد أطاع اللـه فطوع اللـه له الأشياء : إنه خاف ربه فأخاف اللـه منه كل شيء .
ولابد أن نجعل كرامات أهل البيت (ع) في هذا الإطار ، وهو الإطار المناسب الذي وضعوا فيه أنفسهم وعلمهم وكرامتهم على اللـه ، فمثلاً عندما أظهر اللـه على يد الإمام الهادي (ع) بعض آياته ولم يتحمله بعض مواليه ، فدخله وسواس الشيطان فبادره الإمام (ع) برفع اللّبس عنه وقال له :
" وأما الذي أخلج في صدرك فإن شاء العالم أنبئك أن اللـه لم يظهر على غيبه أحداً إلاّ من ارتضى من رســــول ، فكل ما كان عند الرســــول كان عند العالــم وكل ما أطلع عليه الرســــول فقد أطلع أوصياءه عليــــه ، كيلا تخلو أرضه من حجة يكون معه علم يدل على صدق مقالته ، وجواز عدالته .
يا فتح عسى الشيطان أراد اللّبس عليك ، فأوهمك في بعض ما أودعتك ، وشكّك في بعض ما أنبأتك ، حتى اراد إزالتك عن طريق اللـه ، وصراطه المستقيم ؟ فقلت : " متى أيقنت أنهم كذا فهم أرباب ، معاذ اللـه إنهم مخلوقون مربوبون ، مطيعون لله داخرون راغبون ، فإذا جاءك الشيطان من قبل ما جاءك فاقمعه بما أنبأتك به .
فقلت له : جعلت فداك ! فرَّجت عني ، وكشفت ما لبس الملعون عليَّ بشرحك فقد كان أوقع في خلدي أنكم أرباب ، قال : فسجد أبو الحسن (ع) وهو يقول في سجوده : راغماً لك يا خالقي داخراً خاضعاً ، قال : فلم يزل كذلك حتى ذهب ليلي " (2) .
وهكذا كانت الكرامات التي نتلوها عليك بفضل هذه الصلة الوثيقة بين الإمام وبين ربه سبحانه ، وكذلك كان الذين اتبعوه مخلصين العبودية لله ، من العلماء الربانيين والمجاهدين الصابرين فإن اللـه لا يضيع أجر من عمل صالحاً منهم ، وإن اللـه ينصرهم في الدنيا كما في الآخرة وقد قال سبحانه :
{ وَلَيَنصُرَنَّ اللـه مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللـه لَقَويٌ عَزِيزٌ } (الحَج/40)
وقال : { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللـه فَهُوَ حَسْبُهُ } (الطَّلاَقِ/3)
وهكذا نجد كيف يدعو الإمام للمؤمنين وكيف يتسجيب اللـه له دعاءه في حقهم .
لقد كان يونس النقاش واحداٌ من الموالين الذين حظي بخدمة الإسلام ، فجاء يوماً يرعد فقال : يا سيدي أوصيك بأهلي خيراً ، قال : وما الخبر ؟ قال : عزمت على الرحيل ، قال : ولم يا يونس ؟ وهو (ع) مبتسم ، قال : موسى بن بغا وجَّه إليَّ بفص ليس له قيمة أقبلت أنقشه فكسرته بأثنين وموعده غداً وهو موسى بن بغا أمّا ألف سوط أو القتل ، قال : إمض إلى منزلك إلى غد فما يكون إلاّ خيراً .
فلما كان من الغد وافى بكرة يرعد فقال : قد جاء الرسول يلتمس الفصَّ قال : إمض إليه فما ترى إلاّ خيراً ، قال : وما أقول له يا سيدي ؟ قال : فتبسَّم وقال : إمض إليه واسمع ما يخبرك به ، فلن يكون إلاّ خيراً .
قال : فمضى وعاد يضحك قال : قال لي يا سيدي : الجواري اختصمن فيمكنك أن تجعله فصين حتى نغنيك ؟ فقال سيدنا الإمام (ع) : اللـهم لك الحمد إذ جعلتنا ممن يحمدك حقاً (أي شيء ) قلت له ؟ قال : قلت له : أمهلني حتى أتأمل أمره كيف أعمله ؟ فقال : أصبت (3) .
وكان محمد بن الفرج واحداً من المجاهدين الصابرين الذين كتب إليه الإمــام يحذره من بلاء وشيك يقول :
إن أبا الحسن كتب إليَّ إجمع أمرك ، وخذ حذرك ، قال : فأنا في جمع أمري لست أدري ما الذ ي أراد فيما كتب به إليَّ حتى ورد علي رسول حملني من مصر مقيداً مصفَّداً بالحديد ، وضرب على كل ما أملـــك .
فمكثت في السجن ثماني سنين ثم ورد علي كتاب من أبي الحسن (ع) وانا في الحبس " ولا تنزل في ناحية الجانب الغربي " فقرأت الكتاب فقلت في نفسي : يكتب إليّ أبو الحسن (عليه لاسلام ) بهذا وأنا في الحبس إن هذا لعجيب ! فما مكثت إلاّ أياماً يسيرة حتى أفرج عني ، وحلّت قيودي ، وخلي سبيلي .
ولما رجع إلى العراق لم يقف ببغداد لما أمره أبو الحسن (ع) وخرج إلى سر من رأى (4) .
وكان الإمام يهتم بتأديب شيعته مثلما يهتم بقضاء حوائجهم ، ومن ذلك قصة يرويها لنا أبو هاشم الجعفري ويقول : أصابتني ضيقة شديدة فصرت إلى أبي الحسن علي بن محمد (ع) فأذن لي فلما جلست قال : يا أبا هاشم أي نعم اللـه عزّ وجلّ عليك تريد أن تؤدي شكرها ؟ قال أبو هاشم : فوجمت فلم أدر ما أقول له .
فابتدأ (ع) فقال : رزقك الإيمان فحرم بدنك على النار ، ورزقك العافية فأعانتك على الطاعة ، ورزقك القنوع فصانك عن التبذل ، يا أبا هاشم إنما أبتدأتك بهذا لأني ظننت أنك تريد أن تشكو لي من فعل بك هذا ، وقد أمرت لك بمائة دينار فخذها (5).
ويبدو أن عمله (ع) كان مشروطاً بالتزامهم بفرائض الدين ، وهكذا يحكي لنا أبو محمد الطبري قصته مع خاتم حصل عليه بفضل الإمام ويقول :
تمنيت أن يكون لي خاتم من عنده (ع) فجاءني نصر الخادم بدرهمين ، فصغت خاتما فدخلت على قوم يشربون الخمر فتعلقوا بي حتى شربت قدحاً أو قدحين ، فكان الخاتم ضيقاً في إصبعي لا يمكنني إدارته للوضوء ، فأصبحت وقد افتقدته ، فتبت إلى اللـه (6).
إن ولاء الإنسان لأهل بيت الرسول إذا كان خالصاً لوجه اللـه ، يكون وسيلة لهدايته وسعادته والقصة التالية تعكس مدى صدق هذه الحقيقة .
حَدث أن جماعة من أهل أصفهان منهم أبو العباس أحمد بن النضير وأبو جعفر محمد بن علوية قالوا : كان بأصفهان رجل يقال له : عبد الرحمان وكان شيعياً قيل له : ما السبب الذي أوجب عليك بإمامة علي النقي دون غيره من أهل الزمان ؟ قال : شاهدت ما أوجب عليَّ ، وذلك لأني كنت رجلاً فقيراً وكـان لي لسان وجرأة ، فاخرجني أهل اصفهان سنة من السنين مع قوم آخرين إلى باب المتوكل متظلمين .
فكنا بباب المتوكل يوماً إذ خرج الأمر بإجضار علي بن محمد بن الرضا (ع) ، فقلت لبعض من حضـر :
من هذا الرجل الذي قد أمر بإحضاره ؟ فقيل : هذا رجل علوي تقول الرافضة بإمامته ، ثم قال : ويقدر أن المتوكل يحضره للقتل فقلت : لا أبرح من ههنا حتى أنظر إلى هذا الرجل أي رجل هو ؟
قال : فأقبل راكباً على فرس ، وقد قام الناس يمنة الطريق ويسرتها صفين ينظرون إليه ، فلما رأيته وقع حبه في قلبي فجعلت أدعو في نفسي بأن يدفع اللـه عنه شر المتوكل ، فأقبل يسير بين الناس وهو ينظر إلى عرف دابته لا ينظر يمنة ولا يسرة ، وأنا دائم الدعاء ، فلما صار إليَّ أقبل بوجهه إليَّ وقال : استجاب اللـه دعاءك ، وطَوّل عمرك ، وكثر مالك وولدك قال : فارتعدت ووقعت بين أصحابي فسألوني وهم يقولون : ما شأنك ؟ فقلت : خير ولم أخبر بذلك .
فأنصرفنا بعد ذلك إلى أصفهان ، ففتح اللـه عليّ وجوهاً من المال ، حتى أنا اليوم أغلق بابي على ما قيمته ألف ألف درهم ، سوى مالي خارج داري ، ورزقت عشرة من الأولاد ، وقد بلغت الآن من عمري نيفاً وسبعين سنة وأنا أقول بإمامة الرجل على الذي علم ما في قلبي ، واستجاب اللـه دعاءه فيَّ ولي (7).
هكذا استجاب ربنا سبحانه دعاء وليّه الكريم الإمام الهادي في حق واحد من سائر الناس أحبه وأشفق عليه من ظلم السلطان ، وبالرغم من أنه لم يكن مـن مواليه وشيعته من قبل ، بينما نجد أخاه موسـى بن محمد ينوي الإضرار بالدين فيدعو عليه ويستجيب اللـه دعاءه فيه ، ألا يَدُلَّنا ذلك على أنه (ع) كسائر الأنبياء والأوصياء والصديقين يعملون لمرضاة ربهم واللـه يؤيدهم لأنهم ينصرون دينه ، وهكذا كل من نصر دين اللـه نصره اللـه سبحانه .
تعالوا نستمع قصة موسى هذا الذي عرف عنه بموسى المبرقع لكي نعرف أن أولياء اللـه المرضيين لا تأخذهم في دينه لومة لائم .
روي عن يعقوب بن ياسر قال : كان المتوكل يقول : وَيْحكم قد أعياني أمر ابن الرضا وجهدت أن يشرب معي وينادمني فامتنع ، وجهدت أن آخذ فرصة في هذا المعنى ، فلم أجدها ، فقالوا له : فإن لم تجد من ابن الرضا ما تريده في هذه الحالة فهذا أخوه موسى قصاف عزاف يأكل ويشرب ويتعشق قال : ابعثوا إليه وجيئوا به حتى نموِّه به على الناس ، ونقول : ابن الرضا .
فكتب إليه وأشخص مكرماً وتلقاه جميع بني هاشم والقواد والناس على أنه إذا وافى أقطعه قطيعة ، وبنى له فيها وحوّل الخمّارين والقيان إليه ، ووصله وبره وجعل له منزلاً سرِّياً حتى يزوره هو فيه .
فلما وافى موسى تلقاه أبو الحسن في قنطرة وصيف ، وهو موضع يتلقى فيه القادمون فسلم عليه ووفاه حقه ثم قال له : إن هذا الرجل قد أحضرك ليهتكك ويضع منك ، فلا تقر له أنك شربت نبيذاً قط ، فقال له موسى : فإذا كان دعاني لهذا فما حيلتي ؟ قال : فلا تضع من قدرك ولا تفعل ، فإنما أراد هتكك فأبى عليــــه ، فكرر عليه القول والوعظ وهو مقيم على خلافه ، فلما رأى أنه لا يجيب قال : أما إن هذا مجلـس لا تجتمع أنت وهو عليه أبداً .
فأقام موسى ثلاث سنين يبكر كل يوم فيقال : قد تشاغل اليوم فَرُح فَيرُوح فقال : قد سكر فبكر ! فيبكر فيقال : قد شرب دواء فما زال على هذا ثلاث سنين حتى قتل المتوكل ولم يجتمع معه عليه(8).
علــم الإمــام :
لقد تحدثنا بإيجاز حول علم الإمام عندما تحدثنا عن حياة الإمام الباقر (ع) وقلنا أن علم الأئمة (ع) بالغيب ليس علماً ذاتياً بل بما أعطاهم اللـه سبحانه وبالقدر الذي شاءت حكمته ، وبطرق شتى أبرزها توارث العلم عن النبي وعبر آباءهم الطاهرين .
وقد جاء في الحديث عن الإمام الهادي (ع) تأكيد على ذلك حيث قال :
إن اللـه لم يظهر على غيبه أحداً إلاّ من ارتضى من رسول اللـه ، لكل ما كان عند الرسول كان عند العالم وكل ما أطلع عليه الرسول فقد اطلّع أوصياؤه عليه كيلا تخلو أرضه من حجة يكون معه علم يدل على صدق مقالته وجواز عدالته (9).
ومن أبعاد علمه (ع) إلهام اللـه له حسبما تقتضيه حكمته البالغة ، وقد قال ربنا سبحانه : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ } (الحِجرِ/75)
وهكذا كان الإمام يعلم اللغات المختلفة بإلهام اللـه وقد استفاضت الروايات التي تهدينا إلى علم الأئمة بذلك .
كذلك روي عن علي بن مهزيار : قال : أرسلت إلى أبي الحسن (ع) غلامي وكان مقلابياً ، فرجع الغلام إليّ متعجباً فقلت مالك يا بني ؟ قال : كيف لا أتعجب ، مازال يكلمني بالقلابية كأنه واحد منا ، فظننت أنه إنما دار بينهم (10).
وفي ذلك روايات أخرى تدل على علمهم بسائر اللغات الفارسية والتركية وما أشبه . وكان ينبئ الناس بما يحدث في المستقبل بتعليم اللـه ، كما حدث بالنسبة إلى موت الواثق .
روي عن خيران الأسباطي قال : قدمت المدينة على أبي الحسن (ع) فقال لي :
ما فعل الواثق ؟ قلت : هو في عافية ، قال : وما يفعل جعفر ؟ قلت تركته أسوأ الناس حالاً في السجن قال : وما يفعل ابن الزيات ؟ قلت : الأمر أمره وانا منذ عشرة أيام خرجت من هناك ، قال : مات الواثق ، وقد قعد المتوكل جعفر ، وقتل ابن الزيات قلت : متى ؟ قال : بعد خروجك بستة أيام وكان كذلك (11).
وكذلك إخباره بموت المتوكل حيث دعا عليه وأخبر المقربين إليه أنه يهلك خلال أيام ثلاثة .
وحينما حمله قائد المتوكل إلى سر من رأى أخذ حذره وأخذ لبابين وبرانس احتياطاً لما كان يتوقعه في الطريق من عواصف ثلجية أيام الصيف ولم تكن متوقعة أبداً ، ولكنها وقعت وقتلت طائفة من الجنود المرافقين له وبقي الإمام سالماً بفضل اللـه (12).
وتجلى علمه في احتجاجه على يحيى بن أكثم ، الذي كان المقَّدم بين علماء عصره عند الخليفة ، فطلب منه إحضار أسئلة صعبة لإحراجه ، وسوف نذكر القصة في فصل آت .
وقد وعظ شاباً كان يبالغ في الضحك وأخبره بقرب وفاته وكان كذلك :
قالوا : حدث لبعض أولاد الخليفة وليمة فدعا الناس إليها ودعا أبا الحسن ، فدخلنا فلما رأوه انصتوا إجلالاً له ، وجعل شاب في المجلس لا يوقره ، وجعل يلغط ويضحك ، فأقبل عليه وقال له : يا هذا تضحك ملء فيك وتذهل عن ذكر اللـه وأنت بعد ثلاثة من أهل القبور ؟ قال : فقلنا هذا دليل حتى ننظر ما يكون .
قال : فأمسك الفتى وكفَّ عما هو عليه ، وطعمنا وخرجنا ، فلما كان بعد يوم أعتل الفتى ومات في اليوم الثالث من أول النهار ، ودفن في آخره (13).
وفي خبر مشابه حدَّث به سعيد بن سهل البصري قال : اجتمعنا أيضاً في وليمة لبعض أهل سر من رأى وأبو الحسن (ع) معنا ، فجعل رجل يعبث ويمزح ، ولا يرى له جلالة فأقبل على جعفر فقال : أما أنه لا يأكل من هذا الطعام ، وسوف يرد عليه من خبر أهله ما ينغص عليه عيشه ، قال : فقدمت المائدة قال جعفر : ليس بعد هذا خبر ، قد بطل قوله ، فواللـه لقد غسل الرجل يده وأهوى إلى الطعام فإذا غلامه قد دخل من باب البيت يبكي وقال له : الحق أمك فقد وقعت من فوق البيت ، وهي بالموت ، قال جعفر فقلت واللـه لا وقفت بعد هذا وقطعت عليه (14).
وآخر مكرمة ننقلها عنه (ع) تلك التي ينقلها الرواة حول تل المخالي حيث سعى المتوكل لإرهاب معارضيه بما يملك من قوة عسكرية ، فأمر العسكر وهم تسعون ألف فارس من الأتراك الساكني بسر من رأى أن يملأ كل واحد مخلاة فرسه من ا لطين الأحمر ، ويجعلوا بعضه على بعض في وسط تربة واسعة هناك ، ففعلوا . فلما صار مثل جبل عظيم واسمه تل المخلي صعد فوقه ، واستدعى أبا الحسن واستصعده ، وقال : استحضرتك لنظارة خيولي ، وكان قد أمرهم ان يلبسوا التجافيف ويحملوا الأسلحة وقد عرضوا بأحسن زينة ، وأتم عدة ، وأعظم هيبة ، وكان غرضه أن يكسر قلب كل من يخرج عليه وكان خوفه من أبي الحسن (ع) أن يأمر أحداً من أهل بيته أن يخرج على الخليفة .
فقال له أبو الحسن (ع) : وهل أعرض عليك عسكري ؟ قال : نعم ، فدعا اللـه سبحانه فإذا بين السمـــاء
والأرض من المشرق والمغرب ملائكة مدججون فغشي على الخليفة ، فلما أفاق قال أبو الحسن (ع) : نحن لانناقشكم في الدنيا نحن مشتغلون بامر الآخرة فلا عليك شيء مما تظن (15).
كرمــه وجــوده :
وكان (ع) من أهل بيت عادتهم الإحسان وسجيتهم الكرم .
جاء في التاريخ : دخل أبو عمرو عثمان بن سعيد وأحمد بن إسحاق الأشعري وعلي بن جعفر الهمداني على أبي الحسن العسكري ، فشكى إليه أحمد بن إسحاق ديناً عليه فقال يا (أبا) عمرو - وكان وكيله - إدفع إليه ثلاثين ألف دينار ، وإلى علي بن جعفر ثلاثين ألف دينار ، وخذ أنت ثلاثين ألف دينار ، فهذه معجزة لا يقدر عليها إلاّ الملوك ، وما سمعنا بمثل هذا العطاء (16).
والقصة التالية تعكس قمة الإيثار عند الإمام (ع) حيث سعى لقضاء حاجة واحدة من مواليه بطريقة عجيبة دعنا نستمع إلى التاريخ يروي لنا قصته بكل عظمة :
قال محمد بن طلحة : خرج (ع) يوماً من سر من رأى إلى قرية لِمُهّمٍ عرض له ، فجاء رجل من الأعراب يطلبه فقيل له قد ذهب إلى الموضع الفلاني ، فقصده فلما وصل إليه قال له ما حاجتك ؟ فقال : أنا رجل من أعراب الكوفة المتمسكين بولاية جدك علي بن أبي طالب (ع) قد ركبني دين فادح أثقلني حمله ، ولم أر من أقصده لقضاءه سواك .
فقال له أبو الحسن : طب نفساً وقر عيناً ثم أنزله ، فلما أصبح ذلك اليوم قال له أبو الحسن (ع) : أريد منك حاجة . اللـه اللـه أن تخالفني فيها ، فقال الأعرابي لا أخالفك ، فكتب أبو الحسن (ع) ورقة بخطه معترفاً فيها أن عليه للأعرابي مالاً عينه فيها يرجح على دينه ، وقال : خذ هذا الخط فإذا وصلت إلى سر من رأى إحضر إليّ وعندي جماعة ، فطالبني به وأغلظ القول عليَّ في ترك إبقائك إياه اللـه اللـه في مخالفتي فقال : أفعل ، وأخذ الخط .
فلما وصل أبو الحسن إلى سر من رأى ، وحضر عنده جماعة كثيرون من أصحاب الخليفة وغيرهم ، حضر ذلك الرجل وأخرج الخط وطالبه وقال كما أوصاه ، فألان أبو الحسن (ع) له القول ورفقه ، وجعل يعتذر ، ووعده بوفائه وطيبه نفسه ، فنقل ذلك إلى الخليفة المتوكل فأمر أن يحمل إلى أبي الحسن (ع) ثلاثون ألف درهم .
فلما حملت إليه تركها إلى أن جاء الرجل فقال : خذ هذا المال واقض منه دينك ، وأنفق الباقي على عيالك وأهلك ، واعذرنا ، فقال له الأعرابي : يا ابن رسول اللـه واللـه إن أملي كان يقصر عن ثلث هذا ، ولكن اللـه أعلم حيث يجعل رسالته ، وأخذ المال وانصرف (17).
تعالوا نتعلم من أئمتنا الإيثار والكرم ، فليس الكرم مجرد الإنفاق إنما السعي لقضاء الحاجة بكل وسيلة ممكنة وحتى ولو كانت في ذلك غضاضة على النفس .
وتذكرني قصة الإمام هذه بما روي عن أحد الأنبياء العظام الذي جاءه صاحب حاجة ، وطلب منه مالاً ولم يكن يملك شيئاً ، فقال له خذني وبعني في سوق النخاسين كما لو كنت عبداً لك وخذ الثمن واقض حاجتك به ، وفعل الرجل ولكن الذي اشترى النبي عرفه بالتالي فتركه .. وبهذه الطريقة التي تفيض إيثاراً وكرماً وجوداً علّمنا قادتنا كيف نحسن إلى بعضنا ، وننفق بما نملك ونسعى لامتلاك ما نفقده بهدف قضاء حوائج الناس .
____________________
(1) المصدر : (ص 127 )
(2) المصدر : (ص 179 ) .
(3) المصدر : (ص 126 ) .
(4) المصدر : (ص 140 ) .
(5) المصدر : (ص 129 ) .
(6) المصدر : (ص 155 ) .
(7) المصدر : (ص 141 - 142 ) .
(8) المصدر : (ص 158 - 160 ) .
(9) المصدر : (ص 179 ) .
(10) المصدر : (ص 130) .
(11) المصدر : (ص 151 ) .
(12) انظر المصدر : (ص 142 - 144 ) .
(13) المصدر : (ص 183 ) .
(14) المصدر : (ص 183 ) .
(15) المصدر : (ص 155 - 156 ) .
(16) المصدر : (ص 173 ) .
(17) المصدر : (ص 175 ) .
source : www.sibtayn.com