إنّ القدمين اللتين أنعم الله تعالى بهما على الإنسان، واللّتين تحملان الإنسان إلى مقاصده، فيسير بهما في أرض الله باحثاً عن الرزق أو ساعياً في قضاء الحوائج، كغيرها من الجوارح الّتي تحدّثنا عنها كاللسان والعين، فإنّهما مثلها لا بدّ من أن يكونا تحت سيطرة العقل الّذي أدرك لزوم طاعة الله، واتباع الرسالة الإلهيّة. وما لم تكن كذلك فإنّ هذه القدم ستورد صاحبها النار، أو تعرّضه لسخط الجبّار، نعوذ بلطفه من غضبه، كما يمكن لها أن تورده الجنّة لو التزمت بما أملاه الشرع عليها من الحدود، فما هي الحدود الشرعيّة لهذه الجارحة؟ وما هي المحذورات الّتي ينبغي التنبّه لها والابتعاد عنها؟
القدم والمعاصي
هناك الكثير من النواهي المتعلِّقة باستخدام الإنسان للقدم، تعرّضت لها الشريعة، ومن هذه الأمور:
1- المشي في خدمة الظَلَمة: إنّ تكثير أنصار الظالم هو تقوية له ومشاركة في ظلمه الّذي يرتكبه بحقّ الناس، ولذلك ورد عن رسول الله صلى الله عليه واله أنّه قال: "من مشى مع ظالم فقد أجرم"(1).
2- المشي لأصحاب البدع: لأنّ المشي إليهم هو دعم وتقوية لهم على المستوى العامّ، وهو يؤثّر في الفرد أيضاً ويمكن أن يتسبّب بانحرافه، لما يأتونه من أفكار ومشاريع لا تنسجم مع الدين، والأخلاقيّات، ومن هنا جاء في الرواية عن أبي عبد الله، عن أبيه، عن عليّ عليه السلام قال: "من مشى إلى صاحب بدعة فوقّره فقد مشى في هدم الإسلام"(2).
القدم والطاعات
القدم أيضاً هي نعمة إلهيّة خلقها الله تعالى لتكون أداة إضافيّة يستفيد منها الإنسان ويعمر آخرته، فكيف تكون القدم أداة عمار الآخرة؟
يكون ذلك من خلال أمور كثيرة نشير إلى بعضها:
1- المشي إلى المساجد: إنّ للمسجد دوراً أساساً ومحوريّاً في حياة الإنسان المؤمن، ومعلَم ومنطلق لحياة المجتمع الإسلاميّ، حتّى نسبها الله تعالى إليه، يقول سبحانه: ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾(3)من هنا كان التأكيد على المشي إلى المساجد، ومن الروايات الّتي تتحدّث عن فضله ما ورد عن الإمام أبي عبد الله الصادق، حيث قال: "عليكم بإتيان المساجد فإنّها بيوت الله في الأرض، ومن أتاها متطهّراً طهّره الله من ذنوبه وكُتب من زوّاره فأكثروا فيها من الصلاة والدعاء"(4).
2- المشي لقضاء حاجة المؤمن: والمشي في قضاء حوائج المؤمنين من أعظم العبادات وفضلها عظيم عند الله تعالى، ففي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "من مشى مع أخيه المسلم في حاجته كتب الله له ألف ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيّئة، ورفع له ألف ألف درجة"(5).وفي رواية أخرى عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه واله، قال: "من مشى إلى أخيه بدين ليقضيه إيّاه فله به صدقة"(6).
3- المشي لزيارة المراقد المطهّرة: وقد وردت فيها الروايات الكثيرة منها ما عن الإمام الرضا عليه السلام: "ما زارني أحد من أوليائي عارفاً بحقّي إلّا تشفّعت له يوم القيامة"(7).
وعنه عليه السلام: "من أتى قبر الحسين عليه السلام ماشياً كتب الله له بكلّ خطوة ألف حسنة، ومحى عنه ألف سيّئة ورفع له ألف درجة..."(8).
4- المشي في الجنائز: عن الإمام أبي جعفر محمّد الباقر عليه السلام: "من مشى مع جنازة حتّى يصلّى عليها كان له قيراط من الأجر فإذا مشى معها حتّى تدفن كان له قيراطان، والقيراط مثل جبل أحد"(9).
من مات ماشياً في طاعة الله تعالى
ليس للموت موعد مسبّق وهو الّذي يدهم الناس فجأة بدون إذن، فما مصير من أدركه الموت وهو يمشي في طاعة من طاعات الله سبحانه وتعالى؟
يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "ضمنت لستّة الجنّة: رجل خرج بصدقة فمات فله الجنّة، ورجل خرج يعود مريضاً فمات فله الجنّة ورجل خرج مجاهداً في سبيل الله فمات فله الجنّة، ورجل خرج حاجّاً فمات فله الجنّة ورجل خرج إلى الجمعة فمات فله الجنّة ورجل خرج في جنازة فمات فله الجنّة"(10).ولكنّ المصيبة بل كلّ المصيبة أن يدركنا الموت ونحن على معصية الله تعالى، والعياذ بالله، نسأله تعالى حسن العاقبة وحسن الخاتمة.
اليقظة من الغفلة
من مواعظ الإمام الخمينيّ قدس سره في كتاب "الأربعون حديثاً":
اعلم إذاً، أيّها العزيز، أنّ أمامك رحلة خطرة لا مناص لك منها، وأنّ ما يلزمها من عدّة وعدد وزاد وراحلة هو العلم والعمل الصالح. وهي رحلة ليس لها موعد معيّن، فقد يكون الوقت ضيّقاً جدّاً، فتفوتك الفرصة. إن الإنسان لا يعلم متى يُقرَع ناقوس الرحيل للانطلاق فوراً. إنّ طول الأمل المعشعش عندي وعندك الناجم من حبّ النفس ومكائد الشيطان الملعون ومغرياته، تمنعنا من الاهتمام بعالم الآخرة ومن القيام بما يجب علينا. وإذا كانت هناك مخاطر وعوائق في الطريق، فلا نسعى لإزالتها بالتوبة والإنابة والرجوع إلى طريق الله، ولا نعمل على تهيئة زاد وراحلة، حتّى إذا ما أزف الوعد الموعود اضطررنا إلى الرحيل دون زاد ولا راحلة، ومن دون العمل الصالح، والعلم النافع، الّلذين تدور عليهما مؤونة ذلك العالم، ولم نهيّى ء لأنفسنا شيئاً منهما. حتّى لو كنا قد عملنا عملاً صالحاً، فإنّه لم يكن خالصاً بل مشوباً بالغشّ، ومع آلاف من موانع القبول وإذا كنّا قد نلنا بعض العلم، فقد كان علماً بلا نتيجة وهذا العلم إمّا أنْ يكون لغواً وباطلاً، وإمّا أنّه من الموانع الكبيرة في طريق الآخرة. ولو كان ذلك العلم والعمل صالحين، لكان لهما تأثير حتميّ وواضح فينا نحن الّذين صرفنا عليهما سنوات طوالاً، ولغيّرا من أخلاقنا وحالاتنا. فما الّذي حصل حتّى كان لعملنا وعلمنا مدّة أربعين أو خمسين سنة تأثير معكوس بحيث أصبحت قلوبنا أصلب من الصخر القاسي؟ ما الذي جنيناه من الصلاة الّتي هي معراج المؤمنين؟ أين ذلك الخوف وتلك الخشية الملازمة للعلم؟ لو أنّنا أُجبرنا على الرحيل ونحن على هذه الحال - لا سمح الله - لكان علينا أن نتحمّل الكثير من الحسرات والخسائر العظيمة في الطريق، ممّا لا يمكن إزالته!.
إذاً، فنسيان الآخرة من الأمور الّتي يخافها علينا وليّ الله الأعظم، الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، ويخاف علينا من الباعث لهذا النسيان وهو طول الأمل؛ لأنّه يعرف مدى خطورة هذه الرحلة، ويعلم ماذا يجري على الإنسان الّذي يجب أن لا يهدأ لحظة واحدة عن التهيُّؤ وإعداد الزاد والراحلة؛ عندما ينسى العالم الآخر، ويستهويه النوم والغفلة من دون أنّ يعلم أن هناك عالماً آخر، وأنّ عليه أن يسير إليه حثيثاً. وماذا سيحصل له وما هي المشاكل الّتي يواجهها؟
يحسن بنا أن نفكّر قليلاً في سيرة أمير المؤمنين والنبيّ الكريم صلى الله عليه واله، وهما من أشرف خلق الله ومن المعصومين عن الخطأ والنسيان والزلل والطغيان، لكي نقارن بين حالنا وحالهما. إنّ معرفتهما بطول السفر ومخاطره قد سلبت الراحة منهما، وإنّ جهلنا أوجد النسيان والغفلة فينا.
إنّ نبيّنا صلى الله عليه واله قد روّض نفسه كثيراً في عبادة الله، وقام على قدميه في طاعة الله حتّى ورمت رجلاه، فنزلت الآية الكريمة تقول له: ﴿طه* مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ﴾(11). وعبادات عليّ عليه السلام وتهجّده وخوفه من الحقّ المتعال معروفة للجميع.
إذاً، اعلم أنّ الرحلة كثيرة المخاطر، وإنّما هذا النسيان الموجود فينا ليس إلاّ من مكائد النفس والشيطان، وما هذه الآمال الطوال إلاّ من أحابيل إبليس ومكائده. فتيقّظ أيّها النائم من هذا السبات وتنبّه، واعلم أنّك مسافر ولك مقصد، وهو عالم آخر، وأنّك راحل عن هذه الدنيا، شئت أم أبيت. فإذا تهيّأت للرحيل بالزاد والراحلة لم يصبك شي ء من عناء السفر، ولم تُصَبْ بالتعاسة في طريقك، وإلاّ أصبحت فقيراً مسكيناً سائراً نحو شقاء لا سعادة فيه، وذلّة لا عزّة فيها وفقر لا غنى معه وعذاب لا راحة منه. إنّها النار الّتي لا تنطفئ والضغط الّذي لا يخفّف، والحزن الّذي لا يتبعه سرور، والندامة الّتي لا تنتهي أبداً.
المصادر :
1- مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج13، ص125
2- وسائل الشيعة (آل البيت)، الحر العاملي، ج16، ص268
3- الجن:18
4- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج80، ص384
5- مختلف الشيعة، العلامة الحلي، ج4، ص197
6- مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج7، ص263
7- ميزان الحكمة، محمدي الريشهري، ج2، ص1199
8- وسائل الشيعة (آل البيت)، الحر العاملي، ج14، ص440
9- المعتبر، المحقّق الحلي، ج1، ص333
10- وسائل الشيعة (الإسلامية)، الحر العاملي، ج8، ص251
11- طه:2
source : .www.rasekhoon.net