عربي
Tuesday 23rd of July 2024
0
نفر 0

المضامین الجدیدة فی التوحید

المضامین الجدیدة فی التوحید

کیف یمکن أن ندرس مضامین الجدیدة والمفاهیم الناتجة عن المنهج المبتکر؟ خاصة وأن العقیدة فی ضوء المنظور الجدید تتقاطع مع الرؤیة الکونیة وفلسفة الدین وفلسفة التاریخ والنظام الاجتماعی.إن دراسة هذه المضامین خارج الاطار الکلاسیکی (التقسیم الخماسی) یجعلنا نواجه صعوبات ما.. أدناها انه لن تتضح العلاقات بین المطالب العقائدیة والمجالات الأخرى..
خاصة فی ظل العقلیة القدیمة التی تشکّلت عبر قرون عدیدة ورؤیتها المسبقة لأصول الدین فی تعیناتها الثابتة، فی حین أن المشروع الفکری العام للسید باقر الصدر یستند إلى حلقات متلاحقة ومتراصة تحتل فیها العقیدة (الرؤیة الکونیة) إلى جانب نظریة المعرفة الأسس الجذریة للبناء الفکری العام فی شتى میادین الحیاة (اجتماع، سیاسة، اقتصاد... الخ...).
لأجل ذلک حافظنا على الاطار القدیم للتصنیف المعروف فی أصول الدین (اللوحة الخماسیة) وهذا سیساعد على تلمس معالم التجدید العمیق الذی أحدثه باقر الصدر فی مستوى المفاهیم والمضامین والتی لا تقل أهمیة التجدید فی مجالها عن التجدید فی المناهج والآلیات. لأن السید باقر الصدر یولی دائماً المفاهیم أهمیة خاصة.. ویعتبرها قاعدة السلوک والخط الذی یختاره ویشقه الإنسان فی الحیاة.
لقد وضح هذا الأمر فی معرض بحثه عن (الاقتصاد الإسلامی جزء من کل) وتحلیله لعناصر الأرضیة للمجتمع الإسلامی وهی:
أولا: العقیدة: وهی القاعدة المرکزیة فی التفکیر الإسلامی التی تحدد نظرة المسلم الرئیسیة إلى الکون بصورة عامة.
ثانیاً: المفاهیم التی تعکس وجهة نظر الإسلام فی تفسیر الأشیاء على ضوء النظرة العامة التی تبلورها العقیدة.
ثالثاً: العواطف والأحاسیس التی یتبنى الإسلام بثها وتنمیتها إلى جانب تلک المفاهیم لأن المفهوم بصفته فکرة اسلامیة عن واقع معین یفجر فی نفس المسلم شعوراً خاصاً تجاه ذلک الواقع ویحدّد اتجاهه العاطفی نحوه. فالعواطف الإسلامیة ولیدة المفاهیم الإسلامیة والمفاهیم الإسلامیة بدورها موضوعة فی ضوء العقیدة الإسلامیة الأساسیة)(1)
فَمَا هی المفایهم والمضامین الفکریة والحضاریة لأصول الدین؟

الأصل الأول: التوحید
أدرک القدماء أهمیة التوحید ومحوریته لکل الأصول الأخرى فسمّوه: أصل الأصول. واطلق على العقائد اسم (علم التوحید) لأن الأصول الأخرى متوقفة علیه. وعرّف بعضهم علم الکلام بأنه العلم الذی یبحث عن ذات الله وصفاته وأفعاله. ویندرج تحت أفعاله: النبوة والإمامة والمعاد لأنها تمثّل تجلیات الفعل الإلهی فی الکون والحیاة وما بعد الحیاة.
یلتقی باقر الصدر مع رؤیة القدماء حول مرکزیة التوحید ویفجر فی کتاباته مفاهیم عدیدة وتصورات مستجدة تواکب المعرکة التی یعیشها الإسلام فی عصره الحالی ولحظته التاریخیة کما أنه استدل على هذا الأصل بأدلة مبتکرة.. أسست أو على الأقل ساهمت فی تأسیس أسلوب جدید فی اثبات الصانع:ویمکن أن نختار القضایا التالیة کعنوان للتجدید فی مستوى هذا الأصل وکمیزان للوعی التوحیدی ومداه الذی بلغه فی هذه البحوث:
أولا: الایمان بالله وأدلة اثبات الصانع:
یعتبر باقر الصدر الایمان بالله ترجمان لنزوع أصیل فی الانسان إلى التعلق بخالقه ولسان وجدان راسخ یدرک فطرته علاقة الانسان بربه وکونه، فالتدین والاعتقاد بالخالق توصل إلیه الإنسان منذ أمد قبل أن یصل إلى مرحلة التجرید الفکری (فقد توصل الإنسان إلى الإیمان بالله منذ أبعد الأزمان وعبده وأخلص له وأحس بارتباط عمیق به قبل أن یصل إلى أی مرحلة من التجرید الفکری الفلسفی أو الفهم المکتمل لاسالیب الاستدلال)(2)
إن هذا الإیمان لم یکن ولید التناقض الطبقی ونابع من مستغلین ظالمین کرّسوا الدین حفاظاً على مصالحهم ومناصبهم فی المجتمع. ولم یکن هذا الایمان ولید خوف أو شعور بالرعب تجاه الظواهر الطبیعیة أو کوارثها المدمرة لأنه لو کان الأمر کذلک لکان أکثر المتدینین هم اشد الناس خوفاً وأسرعهم هلعاً ولکن تاریخ الادیان یعکس أن الذین حملوا مشعل مسؤولیته على مر التاریخ من أقوى الناس وأصلبهم عوداً، لقد ناقش الصدر فی کتابه اقتصادنا النظریة المارکسیة فی تفسیرها لظاهر الدین وحلل جذور هذه التفسیرات المادیة حیث ان المارکسة (وقد استبعدت عن تصمیمها المذهبی کل حقائق الدین الموضوعیة من الوحی والنبوة والصانع فکان لابدّ أن تصطنع للدین
وتطوراته تفسیراً مادیاً)(3). لقد بحثت المارکسیة عن الظاهرة الدینیة فی الوضع الاقتصادی للمجتمع ولکن السید باقر الصدر یناقش کل الفروض التی تتمسک بها المارکسیة فی هذا المجال(4) ویؤکّد بالمقابل على سننیة الدین وانه قانون فی التاریخ (فطرة الله التی فطر الناس علیها، فاقم وجهک للدین حنیفاً فطرة الله الذی الذی فطر الناس علیها لا تبدیل لخلق الله) (5). ویصف هذا القانون أو هذه السنة فی القسم الثابت من سنن التاریخ التی تقبل التحدی، السنن ذات الاتجاه العام التی تقبل التحدی یتحداها الإنسان لکنه یدافع فی النهایة ثمن هذا التحدی ویتحمّل تبعات هذا التمرد حیث تنقلب علیه النتائج الوخیمة فالدین نداء فطری لامس وجدان الإنسان الأول فانقاد إلیه بعیداً عن التعقیدات والجدال ولکن مع بلوغ الإنسان مرحلة التجرید الذهنی بسبب تطور الفکر الفلسفی وظهور اتجاهات فلسفیة مادیة ووضعیة وتجریبیة تعقدت أکثر المسائل واحتجنا إلى دلیل یثبت وجود الله تعالى وصار الایمان بالله فی ضوء هذا التنوع الفکری والثقافی مسألة نظریة تحتاج إلى عمق فکر وتأمل وبحث بل تصبح قضیة لا معنى لها فی مفهوم المدرسة الوضعیة وقضیة خارج نطاق البحث التجریبی فی منظور المذهب التجریبی.
والعقیدة الإسلامیة فی تاریخها الطویل أسست لادلة متنوعة وبراهین عدیدة، لکن المشکلة أن المصطلحات الموروثة والاثباتات القدیمة لم تعد کافیة لإشباع الحاجة الثقافیة للناس فی هذا العصر وغیر کفیلة بالرد عن شبهات وإشکالات المدارس الأخرى. فلم یعد برهان الحدوث والامکان واستحالة التسلسل.. رغم قیمتها.. تقنع انسان العصر.. وتمثّل مضموناً عقائدیاً.. قادراً على المواجهة والتحدی فی هذه المرحلة.
فی مثل هذا الجو استفاد باقر الصدر من منجزات العصر العلمیة والمعرفیة لیؤسس لنوع جدید من الادلة الصالحة لاثبات المطلوب فقدّ نوعین من الأدلة:
أ) الدلیل الاستقرائی.
ب) الدلیل الفلسفی.
وکأن بنیة الأدلة عند باقر الصدر تعکس استجابة متفاعلة حیة للتحولین الکبیرین تاریخ الفکر البشری (مرحلة التفلسف، ثم مرحلة بروز التجربة على صعید البحث العلمی کأداة للمعرفة).
وکلا الدلیلین مما یمکن للذهنیة المعاصرة ان تتفاعل معه حتى تلک التی تتحرک فی إطار منهج معرفی مختلف لأن الدلیل الاستقرائی یستند إلى نظریة باقر الصدر فی المذهب الذاتی للمعرفة .
الدلیل الأول: فقد صاغه باقر الصدر فی موجز اصول الدین (مقدمة الفتاوى الواضحة) على مراحل خمس:
أولا: مواجهة جملة من الظواهر الحسیة.
ثانیاً: إیجاد فرضیة لتفسیر هذه الظواهر.
ثالثاً: ملاحظة انه فی حال کذب الفرضیة وعدم ثبوتها فی الواقع فإن احتمال وجود هذه الظواهر کلها مجتمعة ضئیل جداً.
رابعاً: نستخلص صدق الفرضیة ویکون الدلیل على ذلک تواجد کل تلک الظواهر.
خامساً: ملاحظة أن درجة إثبات کل الظواهر للفرضیة المطروحة فی الخطوة الثانیة تتناسب عکسیاً مع نسبة احتمال وجود تلک الظواهر جمیعاً إلى احتمال عدمها على افتراض کذبها فکلما کانت النسبة أقل کانت درجة الاثبات أکبر حتى تبلغ درجة الیقین الکامل لصحة الفرضیة وهذا یکون وفق نظریته فی تراکم الاحتمالات على محور واحد.
ففی الخطوة الأولى کما شرحناها فی الموجز یستعرض الصدر جملة من الظواهر العلمیة التی رصدها العلماء ویستفید هنا من نتائج العلم الحدیث على خلاف أکثر الکتب الکلامیة التی جمدت على أطر الثقافة العلمیة القدیمة.
فیذکر أمثلة من الفلک والابعاد التی تفصل الأرض عن القمر وعن الشمس ویذکر أمثلة من البیئة وعلوم (الإنسان) والنبات والحیوان، هذه الظواهر تتوافق کلها مع تیسیر الحیاة واستمراریتها...
فی الخطوة الثانیة: یستنتج ان هذا التوافق العجیب بین هذه الظواهر لا تفسره إلاّ فرضیة واحدة: تفترض صانعاً حکیماً لهذا الکون قد استهدف أن یوفر فی هذه الأرض عناصر الحیاة ویسر مهمتها فان هذه الفرضیة تستبطن کل هذه التوافقات(6)
أما الخطوة الثالثة تقودنا إلى ان فرضیة اثبات الصانع إذا لم تکن صادقة فان احتمال وجود هذه التوافقات بین الظواهر الطبیعیة تحتاج إلى مجموعة هائلة من الصدف.
فی الخطوة الرابعة: یرجح بلا شک ولا ریب صدق الفرضیة التی طرحت فی هذه الخطوة الثانیة.
فی الخطوة الخامسة والأخیرة: نقارن بین هذا الترجیح وبین ضآلة الاحتمال الذی قررناه فی الخطوة الثالثة: (أی احتمال وجود هذه الظواهر على فرض کذب الفرضیة) فان هذا الاحتمال ضئیل جداً وتزداد ضآلته کلما ازداد عدد الصدف... وبالمقابل فان نسبة الترجیح تکبر وتکبر... حتى یزول الاحتمال المقابل نهائیاً.. ونصل إلى القطع بأن للکون صانعاً حکیماً.
هذا باختصار شدید توضیح لمراحل الدلیل الاستقرائی.
الدلیل الثانی فهو الدلیل الفلسفی الذی یعرفه باقر الصدر بانه الدلیل الذی تکون بعض مقدماته على الأقل لیست تجریبیة ولا ارتباط لها بالحس: لذلک یلزم من رفضه رفض الدلیل الریاضی الذی یقبله الجمیع لانه یستند إلى مبدأ عدم التناقض الذی لا علاقة له بالحس والتجربة ویقدم باقر الصدر نموذجاً لهذا الدلیل الفلسفی. یقوم على مقدمات ثلاث:
المقدمة الأولى: لکل حادثة سبب.
المقدمة الثانیة: الأدنى لا یکون سبباً لما هو أعلى منه درجة.
المقدمة الثالثة: ان الموجودات بالاستقراء تتفاوت فی الدرجات وتتنوع فی الاشکال.
انطلاقاً من هذه المقدمات یطرح سؤال: من أین جاءت هذه الزیادة النوعیة؟ کیف ظهرت هذه الاضافة النوعیة التی نراها فی بعض الموجودات المتمتعة بدرجات عالیة من الکمال؟
فی مقام الجواب لا یمکن أن نقول أن الزیادة جاءت من المادة نفسها لأن هذا الجواب یتعارض مع المقدمة الثانیة (الأدنى لا یکون سبباً للأرقى). والجواب الصحیح: (ان هذه الزیادة جاءت من مصدر یتمتع بکل ما تحویه تلک الزیادة الجدیدة من حیاة واحساس وفکر وهو الله سبحانه وتعالى.
ویفنّد باقر الصدر کل المحاولات المیکانیکیة والمادیة فی تفسیر تطور المادة ومحاولة ارجاع هذه الزیادات النوعیة والمراتب الکمالیة إلى المادة نفسها(7) ویجزم قائلا (ان حرکة المادة دون تموین وإمداد من خارج لا یمکن أن تحدث تنمیة حقیقیة وتطور إلى شکل أعلى ودرجة أکثر ترکیزاً فلابدّ لکی تنمو المادة وترتفع إلى مستویات علیا کالحیاة والتفکر من رب یشع بتلک الخصائص لیستطیع أن یمنحها للمادة ولیس دور المادة فی عملیات النمو هذه إلاّ دور الصلاحیة والتهیؤ والامکان دو الصالح والمتهیء لتقبل الدرس من مربیه فتبارک الله رب العالمین)(8)
کصیغة ثانیة لهذا الدلیل الفلسفی یمکن اعتبار فصل (المادة والله) فی کتاب فلسفتنا وجهاً آخر للدلیل حیث اثبت باقر الصدر أن المادة صفة عرضیة زائلة فی ضوء البحوث العلمیة ولا یستند إلیها الکون فی وجوده ولا تستطیع أن تفسر لنا هذا العالم ولذلک لا یمکن أن تکون هی العلة الواضحة التی هی المرد والأساس والباعث للکون والعالم لأنها لا تمتلک الأصالة بل هی عرض زائل.
ثانیاً: التوحید والمثل الأعلى المطلق
نظرة جدیدة تلک التی یطرحا باقر الصدر عبر مفهوم (المثل الأعلى المطلق) فالمجتمع والفرد سواء بسواء یتشخص سیرهما ومعالم هذا السیر من خلال اختیار المثل الأعلى (فبقدر ما یکون المثل للجماعة البشریة صالحاً وعالیاً وممتداً تکون الغایات صالحة وممتدة وبقدر ما یکون هذا المثل الأعلى محدوداً أو منخفضاً تکون الغایات المنبثقة عنه محدودة ومنخفضة أیضاً)(9). فالمثل الأعلى هو محور أی حرکة تاریخیة لأنه یحدد غایاتها وأهدافها وبدورها هذه الأهداف هی التی ترسم حدود الانشطة والحرکات ضمن مسار ذلک المثل الأعلى.
لقد صنف المثل العلیا إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: المثل الأعلى المنتزع من الواقع المعیش بکل ما یحویه من ظروف وملابسات.
القسم الثانی: المثل الأعلى المحدود هذا النوع لیس تعبیراً تکراریاً عن الواقع کماهو القسم الأول بل هو تطلع للمستقبل لکنه منتزع عن جزء من هذا الطریق المستقبلی الطویل.
القسم الثالث: المثل الأعلى المطلق: الذی تؤمن به عقیدة التوحید وهو الله جل جلاله.
النوع الأول یمثّل محاولة لتجمید الواقع ویکون المستقبل تکراراً للواقع و(هذا النوع من الآلهة یعتمد على تجمید الواقع وتحویل ظروفه النسبیة إلى مطلقة لکی لا تستطیع الجماعة البشریة أن تتجاوز الواقع وأن ترتفع بطموحاتها عن هذا الواقع)(10)
إن تبنی هذا النوع من المثل العلیا یرجع إلى أحد سببین:
أولا: سبب نفسی: وهی حالة الخمول والالفة التی تجعل المجتمع یعیش حالة ضیاع فینغلق على آلهة ینتزعها من واقعه یحوّلها إلى حقیقة مطلقة وقد عبّر القرآن الکریم عن ظاهرة تقدیس الواقع الموروث وتحویل رموزه النسبیة إلى حقائق مطلقة فی آیات عدیدة(11)
(قالوا بل نتبع ما الفینا علیه آباءنا أوَ لَوْ کان آباؤهم لا یعقلون شیئاً ولا یهتدون )(12)
السبب الثانی: اجتماعی ویتمثل فی التسلط الفرعونی: فالفراعنة یرون فی التوحید تجاوزاً للواقع الذی یسیطرون علیه وبالتالی خطراً یهدد سلطانهم ویزلزل کیانهم فیکون من مصلحتهم أن یغمضوا عیون الناس عن أی أفق وراء الواقع.. ولن یحصل ذلک إلاّ بتحویل هذا الواقع إلى مطلق إلى مثل أعلى لا یمکن تجاوزه.. ففرعون یحاول دائماً أن یعبىء الجماهیر ویؤطرها فی ظل وجوده ورؤیته هو (وقال فرعون ما اریکم إلاّ ما أرى وما اهدیکم إلاّ سبیل الرشاد) (13)، (وقال فرعون یا أیها الملأ ماعلمت لکم من إله غیری) (14).. إنه خط الطاغوت فی التاریخ الذی یسعى لتجمید حرکة المجتمع البشری وتحویل الواقع إلى مطلق وسجن الجماعة البشریة فی ضیق الماضی وحُدُودِ رموزه.. هکذا تتحول معرکة التوحید والکفر إلى معرکة بین قوى التقدم وقوى التآمر والجمود وتکون (الفرعونیة) بکل مظاهرها الاقتصادیة والاجتماعیة والسیاسیة.. المؤسسة الطاغوتیة التی تشد المجتمع إلى الوراء.. وتحول دون نهضتها التوحیدیة وتحررها الرسالی.. إن مصیر الأمم التی تخضع لهذه المثل العلیا المنخفضة إنها تتحول إلى ما أسماه(قدس سره).. (شبح أمة) تعیش الفرقة والتمزق لأنه بغیاب عقیدة التوحید.. ینتفی الإطار الذی یوحد صفوف الأمة و(یبقى کل إنسان مشدود إلى حاجاته المحدودة إلى مصالحه الشخصیة إلى تفکیره فی أموره الخاصة کیف یصبح کیف یمسی کیف یأکل کیف یشرب کیف یوفر الراحة والاستقرار لأولاده ولعائلته أی راحة؟ أی استقرار؟ الراحة بالمعنى الرخیص للراحة والاستقرار بالمعنى الرخیص من الاستقرار.. یبقى کل انسان سجین حاجاته الخاصة سجین رغباته الخاصة..)(15)، ویحدد باقر الصدر مصیر هذه الأمة النهائی بأحد الإجراءات الثلاثة التالیة:
الاجراء الأول: ان تتداعى الأمة لغزو عسکری من الخارج لأن الأمة أفرغت من محتواها وصار کل فرد یفکر فی ذاته.
الاجراء الثانی: الذوبان والانصهار فی مثال أعلى أجنبی مستورد.
الاجراء الثالث: أن ینشأ فی اعماق هذه الأمة بذور إعادة المثل الأعلى من جدید بمستوى العصر الذی تعیشه تلک الأمة.
أما النوع الثانی (المثل الأعلى المحدود) فقد نجد لتبنی المجتمعات والأفراد لهذا النوع عذراً لأنهم لا یستطیعون أن یستوعبوا المطلق بحکم محدودیة الأذهان، ویکمن الخطر هنا أیضاً فی أن یضفی على هذا المستقبل القریب الاطلاق من جمیع الجهات، لا شک أن هذا النوع یعطی للجمیع طاقة نحو المستقبل ودفعاً ولکن فی حدود آفاق هذا المثل الأعلى لأنه سرعان ما یبلغ مداه الاقصى فیتحول إذا لم نتجاوزه إلى عائق یعطل المسیرة ویشدها إلى عهود تکراریة.
بهذه الموازنة بین هذه الأنواع المختلفة للمثل العلیا یبرز الصدر الأهمیة الحضاریة لعقیدة التوحید وللمثل الأعلى المطلق الذی یجعل من الله غایة للمسیرة (یا أیها الإنسان انک کادح إلى ربک کدحاً فملاقیه) (16) بکل ما یعنیه ذلک من تألق المسیرة ودیمومتها وتکاملها اللامحدود.
إن عقیدة التوحید تصنع التوافق بین الوعی البشری والواقع الکونی الذی یفرض هذا المثل الأعلى حقیقة قائمة ثابتة.. ولذلک عبرت الآیة عن الکدح بصیغة خبریة لا بصیغة إنشائیة. فالبشریة تکدح نحو الله شاءت أم أبت حتى الذین یتمردون على الله هم یسیرون نحو الله ولکن من حیث لا یشعرون.. لان کونه سبحانه مثلا أعلى حقیقة کونیة على الانسان أن یعیها ویرتبط بها.. (والذین کفروا اعمالهم کسراب بقیعة یحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم یجده شیئاً ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سریع الحساب) (17). وعقیدة التوحید عندما توحد بین الوعی والواقع بین الاعتقاد والحقیقة.. یحدث تغیراً کمیاً وکیفیاً على مسیرة الإنسان فالمثل الأعلى المطلق یحفز الإنسان والمجتمع نحو التقدم ویضفی على المسیرة اندفاعاً وتجدداً لا ینضب فعلى المستوى الکمی یفتح آفاقاً لا نهایة لها لانه کلما قطعت المسیرة شوطاً نحو الله انفتحت أمامها أشواطاً جدیدة.. وتسقط حینئذ وتتهاوى کل الاشکال من الالوهیات المزیفة على هذا الطریق الزاحف نحو المطلق (من هنا کان دین التوحید صراعاً مستمراً مع کل اشکال الآلهة والمثل المنخفضة والتکراریة التی حاولت ان تحدد من کمیة الحرکة من أن توصل الحرکة إلى نقطة ثم تقول قف أیها الإنسان)(18)
(أما التغیر الکیفی تتجلى فی حل الجدل الداخلی للإنسان بإعطاء الشعور الداخلی بالمسؤولیة الموضوعیة لأن الإنسان من خلال إیمانه بهذا المثل الأعلى ووعیه على طریقه بحدوده الکونیة الواقعیة من هذا الوعی ینشأ بصورة موضوعیة شعور معمق لدیه بالمسؤولیة تجاه هذا المثل الأعلى لأول مرة فی تاریخ المثل البشریة التی حرکت البشر على مر التاریخ)(19). وسبب ذلک أن المثل الأعلى المطلق حقیقة وواقع عینی منفصل عن الإنسان وبذلک یتفق الشرط المنطقی للمسؤولیة وجود جهة علیا یؤمن هذا الإنسان بأنه مسؤول أمامها.
وعقیدة التوحید إضافة إلى کونها تستند أساساً إلى الاعتقاد بالمثل الأعلى المطلق فإنها توفر الأرضیة الملائمة وسائر الشرائط لتبنی هذا المثل الأعلى فهی:
أولا: تتوفر على رؤیة فکریة واضحة تقوم على الایمان بالله عزوجل الذی تتوحد فیه کل الغایات وکل التطلعات البشریة.
ثانیاً: إن تبنی المثل الأعلى المطلق یتوقف على طاقة روحیة مستمدة من هذا المثل کی تکون هذه الطاقة الروحیة رصیداً ووقوداً مستمراً للارادة البشریة على مر التاریخ وهو ما تمنحه عقیدة التوحید عبر عقیدة المعاد.
ثالثاً: المثل الأعلى المطلق لیس جزء من الانسان بل هو منفصل عنه وهذا ما یستوجب قیام صلة موضوعیة بین (الله) و(الانسان) وهذه الصلة تحقق بدور النبوة (فالنبی هو ذلک الإنسان الذی یرکب بین الشرط الأول والشرط الثانی بأمر الله سبحانه وتعالى بین رؤیة ایدیولوجیة واضحة للمثل الأعلى وطاقة روحیة مستمدة من الایمان بیوم القیامة یرکب بین هذین العنصرین ثم یجسّد بدور النبوة الصلة بین المثل الأعلى والبشریة لیحمل هذا المرکب إلى البشریة بشیراً ونذیراً..)(20)
رابعاً: ضمان استمراریة تبنی الأمة للمثل الأعلى المطلق وعدم خضوعها وانهزامها أمام القوى التحریفیة والقوى الطاغوتیة التی تحاول جاهدة صرف الأمة عن مثلها الأعلى نحو مثل منخفضة ولذلک لابد للمجتمع أن یخوض معرکة ضد الآلهة المصطنعة (ولابد من قیادة تتبنى هذه المعرکة وهذه القیادة هی الإمامة، الإمام هو القائد الذی یتولى هذه المعرکة.. ودور الامامة یندمج مع دور النبوة ولکنه یمتد حتى بعد النبی إذ ترک النبی الساحة وبعد لا تزال المعرکة قائمة ولا تزال الرسالة بحاجة إلى مواصلة هذه المعرکة من أجل القضاء على تلک الآلهة حینئذ یمتد دور الإمامة بعد انتهاء النبی)(21)، فالأصول الاعتقادیة فی ضوء هذا التحلیل (لشرائط تبنی المثل الأعلى المطلق) تأخذ موقعها الطبیعی وتسلسلها المنطقی ویکون التوحید أصل الأصول ولکن من منظور اجتماعی وسیاسی وتاریخی.
المصادر :
1- محمد باقر الصدر، اقتصادنا، ص310
2- محمد باقر الصدر: الفتاوى الواضحة، دار التعارف، الطبعة الثامنة، ص11.
3- محمد باقر الصدر: اقتصادنا ص112
4- اقتصادنا ص112 و ص116 ـ 117
5- الروم 30
6- محمد باقر الصدر: الفتاوى الواضحة،ص35.
7- انظر فلسفتنا (الجزء الثانی) حیث یثبت أن هناک وجود جهة علیا وراء المادة تسبب هذه الزیادة النوعیة
8- میزان الحکمة ص52
9- محمد باقر الصدر، المدرسة القرآنیة ، ص145
10- میزان الحکمة ص149
11- من نماذج هذه الآیات: (المائدة 104)، (یوسف 78)، (ابراهیم 10)، (الزخرف 22)، (هود 62)
12- البقرة: 17
13- المائدة: 29
14- القصص 38
15- میزان الحکمة ص161
16- الانشقاق 6
17- النور 39
18- میزان الحکمة ص185
19- میزان الحکمة ص185
20- میزان الحکمة ص195
21- میزان الحکمة ص196

 


source : .www.rasekhoon.net
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

عصر ذهبي للاكتشاف
الكذب والصدق
ما معنى الحديث القائل "الحسود لا يسود"؟ هل هو ...
الكيسانية والاِبهامات المحدقة بها
الحديث والاجتهاد والفقه (2)
إثبات الأشاعرة لرؤيته تعالى في الآخرة
سِرُّ الشَّقاء
النظرة الرأسماليّة للعمل الصالح
شُبْهُة الغُلوّ فی أَحادیِث الکافِی
بحـث الإمـامـة والمهـدويـة-3

 
user comment