اتّفقت كلّ الروايات الصحيحة على أنّ الإمام عليّاً (عليه السلام) ما أن انتهى من تجهيز النبيّ (صلى الله عليه وآله) ومواراته الثرى; حتى اعتكف في داره منشغلاً بجمع آيات القرآن وترتيبها حسب نزولها بعد أن كانت مبعثرة في الألواح.
وروي عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام): أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال لعليّ(عليه السلام) : يا عليّ! القرآن خلف فراشي في المصحف والحرير والقراطيس فخذوه، واجمعوه، ولا تضيّعوه كما ضيّعت اليهود التوراة، فانطلق عليّ(عليه السلام) فجمعه في ثوب أصفر[7]. وجاء أيضاً أنّ الإمام عليّاً (عليه السلام) رأى من الناس طيرة عند وفاة النبيّ (صلى الله عليه وآله) فأقسم أنّه لا يضع على ظهره رداءه حتى يجمع القرآن، فجلس في بيته ثلاثة أيام حتى جمع القرآن[8].
كما روي أنّ عليّاً (عليه السلام) انقطع عن الناس مدّةً حتى جمع القرآن، ثمّ خرج إليهم في إزار يحمله وهم مجتمعون في المسجد، فلمّا توسّطهم وضع الكتاب بينهم ثمّ قال: إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: إنّي مخلّف فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي وهذا كتاب الله وأنا العترة[9]، وقال لهم: لئلاّ تقولوا غداً إنّا كنّا عن هذا غافلين.
ثمّ قال: لا تقولوا يوم القيامة إنّي لم أدعُكُمْ إلى نصرتي ولم اُذكّركم حقّي ولم أدعكم إلى كتاب الله من فاتحته إلى خاتمته[10].
فقال له عمر: إن يكن عندك قرآن فعندنا مثله فلا حاجة لنا فيكما.
ويبدو أنّ الإمام لم يكتف بجمع الآيات القرآنية بل قام أيضاً بترتيبها حسب النزول، وأشار إلى عامّه وخاصّه ومطلقه ومقيّده ومحكمه ومتشابهه وناسخه ومنسوخه وعزائمه ورخصه وسننه وآدابه، كما وأشار إلى أسباب النزول وأملى ستّين نوعاً من أنواع علوم القرآن، وذكر لكلّ نوع مثالاً يخصّه، وبهذا العمل الكبير استطاع الإمام أن يحافظ على أهمّ أصل من اُصوال الإسلام، وأن يوجّه العقل المسلم نحو البحث عن العلوم التي يزخر بها القرآن، ليصبح المنبع الرئيسي للفكر والمصدر المباشر الذي تستمد منه الإنسانية ما تحتاجه في حياتها.
إنّ أمير المؤمنين كان جديراً بما فعل، فإنّه قال: ما نزلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله) آية من القرآن إلاّ أقرأنيها وأملاها عليَّ فكتبتها بخطّي، وعلّمني تأويلها وتفسيرها وناسخها ومنسوخها ومحكمها ومتشابهها، ودعا الله عزّ وجلّ أن يعلّمني فهمها، فما نسيت آيةً من كتاب الله عزّ وجلّ ولا علماً أملاه عليّ فكتبته وما ترك شيئاً علّمه الله عز وجل من حلال وحرام ولا أمر ولا نهي وما كان أو يكون من طاعة أو معصية إلاّ علّمنيه وحفظته، فلم أنس منه حرفاً واحداً[11].
__________________________________
[8] الفهرست لابن النديم: 30.
[9] المناقب لابن شهرآشوب: 2 / 41.
[10] كتاب سليم بن قيس: 32، طـ . مؤسّسة البعثة.
[11] كفاية الطالب للكنجي: 199، والاتقان للسيوطي: 2 / 187، وبحار الأنوار: 92 / 99.
source : www.sibtayn.com