السؤال: أرجو إبطال الرواية القائلة بأنّ أبا بكر صلّى بالناس في مرض رسول الله من كتب أهل السنّة ؟
الجواب : إنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) لم يأمر أبا بكر بالصلاة في تلك الأيّام الثلاثة قبل رحيله إلى الرفيق الأعلى ، ونستدلّ على مدّعانا بأُمور منها :
1-التناقض الشديد في الروايات ، فمرّة تطلب عائشة من النبيّ (صلى الله عليه وآله) أن يأمر عمر بالصلاة وليس أبا بكر ، ومرّة تطلب عائشة من حفصة ذلك ، وأُخرى أنّ أبا بكر طلب من عائشة أن تطلب ذلك وتقوله للنبيّ (صلى الله عليه وآله) ، وأُخرى يؤمر عمر بالصلاة ، فيسمع النبيّ (صلى الله عليه وآله) صوته ، فيغضب ويقول : " فأين أبو بكر ؟ يأبى الله ذلك والمسلمون " (1) ، وأُخرى يقدّم أبو بكر عمر ، فيجيبه عمر : بأنّك أحقّ بها ، ولا يذكر رفض النبيّ لصلاته ، وأُخرى يخرج النبيّ فينظر لهم ويبتسم ويرجع ، وأُخرى يذهب فيصلّي إماماً ، وأُخرى مأموماً خلف أبي بكر ، وهكذا ، فأيّها نصدّق ؟ وهو أمر واحد وحادثة واحدة ، وهذه الأحاديث لا يمكن الجمع بينها ، وكلّها صحيحة عندهم !!
وإجاباتهم عنها بتعدد الأمر والحادثة ، وهذا لا يتلائم ولا يصحّ مهما فعلوا وأوّلوا مع أكثر الروايات ، فمثلاً الرواية التي تذكر إمامة عمر للناس بالصلاة لم يكن أبو بكر موجوداً حينها ، والروايات التي تذكر طلب عائشة وحفصة إمامة عمر بدلاً من أبي بكر لا تذكر أنّ أبا بكر غير موجود ، بل تذكر وجوده وإمامته ، وطلبهن لإمامة عمر إن كان بعد إمامة عمر ، ورفض النبيّ لها ، فذلك لا يعقل ، لأنّ النبيّ أوضح رفضه ، ويكون طلبهن معصية واضحة ، وإن كان طلبهن له قبل إمامة عمر ، فقد بيّن النبيّ (صلى الله عليه وآله) في جوابه لهن : بأنّ الله يأبى ذلك والمؤمنون ، فكيف اجتهد عمر في مقابل النصّ ؟ وقام بإمامة الناس
____________
1- المحلّى 4 / 210 ، مسند أحمد 4 / 322 ، سنن أبي داود 2 / 405 .
|
الصفحة 191 |
|
بعد نصّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) على عدم قبول إمامته للصلاة بالناس .
2-إنكاره (صلى الله عليه وآله) على بعض نسائه وهو في تلك الحالة الشديدة إنكاراً لاذعاً ، وهذا يعني فداحة الفعل وخطورته ، وقوله (صلى الله عليه وآله) لهن : " إنّكن صواحب يوسف " (1) ، وهذا التشبيه قال عنه الباجي : " أراد أنّهن قد دعون إلى غير صواب ، كما دعين ، فهن من جنسهن " (2) .
وقال النووي : " قوله (صلى الله عليه وآله) : " صواحب يوسف " أي في تظاهرهن على ما يردن وإلحاحهن فيه ، كتظاهر امرأة العزيز ونسوتها على صرف يوسف (عليه السلام) عن رأيه في الاعتصام ... " (3) .
وإمّا قول من قال بأنّ وجه المشابهة في إظهار خلاف ما في الباطن أو لكثرة الإلحاح فقط ، فذلك الفعل لا يستحقّ هذا التشبيه وهذا التوبيخ ، وأخلاق النبيّ (صلى الله عليه وآله) أرفع من أن ينكر على نسائه ويشبههن بنساء عاصيات ، وهو على تلك الحال من عدم استطاعته الخروج للصلاة !! وخصوصاً فإنّ نواياهن وما في الباطن الذي كشفه النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، ولم تبح به إحداهن أبداً ، إنّما كان نية حسنة وليس منكراً أو معصية ، وإنّما هو أمر مشروع بل مستحبّ .
والمعروف لدى الجميع ، بأنّ صويحبات يوسف لم يكن منهن خلاف على يوسف ، ولا مراجعة له أو إلحاح في شيء ، وإنّما افتتن بأسرهن بحبّه ، وأرادت كلّ واحدة منهن مثل ما أرادت صاحبتها فأشبهن حالهن ، ولهذا التفسير شاهد يدلّ عليه ، وهو عن ابن عباس قال : " لمّا مرض رسول الله (صلى الله عليه وآله) مرضه الذي مات فيه ، كان في بيت عائشة ، فقال : " أدعو لي علياً " ، قالت عائشة : ندعو لك أبا بكر ، قال : " أدعوه " ، قالت حفصة : يا رسول الله ندعو لك عمر ، قال : " أدعوه " ، قالت أُمّ الفضل : يا رسول الله ندعو
____________
1- صحيح البخاري 1 / 162 .
2- تنوير الحوالك : 188 .
3- المجموع شرح المهذّب 4 / 242 .
|
الصفحة 192 |
|
لك العباس ، قال : " أدعوه " ، فلمّا اجتمعوا رفع رأسه ، فلم ير علياً فسكت .
فقال عمر : قوموا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فجاء بلال يؤذّنه بالصلاة ، فقال : " مروا أبا بكر يصلّي بالناس " ، فقالت عائشة : إنّ أبا بكر رجل حصر ، ومتى لا يراك الناس يبكون ، فلو أمرت عمر يصلّي بالناس ، فخرج أبو بكر فصلّى بالناس ، ووجد النبيّ (صلى الله عليه وآله) من نفسه خفّة ، فخرج يهادى بين رجلين ، ورجلاه تخطّان في الأرض ... ومات في مرضه ذاك (عليه السلام) " (1) .
فهذا النصّ للحديث يدلّ قطعاً على حال قوله (صلى الله عليه وآله) لهن : " إنّكن صواحب يوسف " ، فطلبه (صلى الله عليه وآله) علياً ، وعدم طاعته في ذلك ، وأنّ كلّ واحدة منهن أرادت ما تحبّ وتريد ، لا ما يريده رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، أي كلّ واحدة أرادت لنفسها ما أرادت الأُخرى ، وهذا ما صدر من صواحب يوسف .
أمّا ما أوّله أكثرهم من أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) أراد صاحبة يوسف لا الصواحب ، وكذلك قال : " إنّكن " وأراد عائشة ، فهو تحريف واضح ، وخلاف للظاهر ، بل يشهد على بطلانه شاهد واضح ، وهو قول حفصة لعائشة بعد هذا القول من النبيّ : والله ما كنت لأصيبَ منك خيراً .
وقال نفس هؤلاء المؤوّلين : لعلّها تذكّرت من عائشة أيضاً مسألة المغافير ، فهذا القول ألا يعني شمولها بقول النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، وهل فهمت حفصة منه الإلحاح البريء من الطلب ؟ أم التظاهر وطلب الفضل والاختصاص بخلاف إرادة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) وصرفه عنها إلى ما يُرِدن .
3-إنكاره (صلى الله عليه وآله) لتلك الصلاة ، والاهتمام ببيان ذلك بوسائل متعدّدة على ما كان يعانيه (صلى الله عليه وآله) من ثقل ومرض ، فمرّة يسمع عمر يصلّي فيقول : " فأين أبو بكر ؟ يأبى الله ذلك والمسلمون " ، ومرّة يسمع أبا بكر يصلّي ، فيخرج
____________
1- مسند أحمد 1 / 356 ، سنن ابن ماجة 1 / 391 ، شرح معاني الآثار 1 / 405 ، المعجم الكبير 12 / 89 ، تاريخ مدينة دمشق 8 / 18 .
|
الصفحة 193 |
|
يهادى بين رجلين ، ورجلاه تخطّان في الأرض ، ويقولون : وجد في نفسه خفّة فأي خفّة هذه التي لا يستطيع معها لا المشي ولا الوقوف ؟ بل جلس وعزل أبا بكر عن إمامته وبيّن رفضه بسوء حالته وجلوسه مع قوله (صلى الله عليه وآله) : " إنّما جعل الإمام ليؤتم به ، فإذا صلّى قائماً فصلّوا قياماً وإن يصلّي جالساً فصلّوا جلوساً ، ولا تقوموا وهو جالس ... " (1) .
وتأوّلوا ذلك أيضاً وقالوا : إنّه منسوخ بفعل النبيّ (صلى الله عليه وآله) الأخير في مرضه ، فهلا بيّن النبيّ (صلى الله عليه وآله) ذلك النسخ ، أو فهمه أحد الصحابة ، بل ثبت أنّ أسيد بن حضير ، وجابر بن عبد الله الأنصاري صلّيا بجماعة ، وهم قعود مرضى ، وأمروا جماعتيهما بالجلوس ، واثبتوا الحديث الذي سردناه في وجوب صلاة المأمومين جلوساً أن صلّى الإمام جالساً ، فأيّ بيان بعد هذا يبيّنه النبيّ (صلى الله عليه وآله) برفضه لإمامة أبي بكر وإبطال صلاته ، كما فعل مع عمر .
فقد نقل : أنّهم تفرّقوا عن عمر لمّا سمعوا النبيّ (صلى الله عليه وآله) ينكر إمامته ، ونقلوا : أنّ أبا بكر قد أعاد صلاتهم لمّا رجع عن السفح ، الخ .
ويشهد لكلامنا قول السندي عند شرحه حديث مرض النبيّ (صلى الله عليه وآله) وصلاته : " واستدلّ الجمهور بهذا الحديث على نسخ حديث إذا صلّى جالساً فصلّوا جلوساً ... وهذا يفيد الاضطراب في هذه الواقعة ، ولعلّ سبب ذلك عظم المصيبة، فعلى هذا فالحكم بنسخ ذلك الحكم الثابت بهذه الواقعة المضطربة لا يخلو عن خفاء ، والله تعالى أعلم " (2) .
4-بعض الروايات تصرّح وبعضها تشير إلى أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) لم يصدر عنه أمر لأحد معيّن للصلاة بالناس ، فصلاة عمر بالناس بأمر عبد الله بن زمعة لا
____________
1- مسند أحمد 3 / 300 ، صحيح البخاري 1 / 169 ، سنن أبي داود 1 / 144 ، السنن الكبرى للبيهقي 3 / 79 ، المصنّف لابن أبي شيبة 2 / 224 ، السنن الكبرى للنسائي 1 / 292 ، مسند أبي يعلى 7 / 470 .
2- حاشية السندي على النسائي 2 / 100 .
|
الصفحة 194 |
|
بأمر النبيّ ، وإنّما قال له (صلى الله عليه وآله) : " مر الناس فليصلّوا " (1) ، وكذلك الرواية الأُخرى التي يرويها أحمد عن أنس قال : لمّا مرض رسول الله (صلى الله عليه وآله) مرضه الذي توفّى فيه ، أتاه بلال يؤذّنه بالصلاة ، فقال بعد مرّتين : " يا بلال قد بلّغت ، فمن شاء فليصل ، ومن شاء فليدع " (2) ، فجعل روحي فداه بعد تبليغه وإنكاره عليهم ما عقدوه من جماعة بإمامة أبي بكر أو عمر المشيئة لهم بالصلاة ، أو عدم الصلاة ، كما قال تعالى : { وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ } (3) .
ويدلّ على إنكاره(صلى الله عليه وآله) لفعلهم وإصراره عليه رواية البخاري عن أنس : " إنّ المسلمين بينما هم في الفجر يوم الاثنين ، وأبو بكر يصلّي بهم ، ففاجأهم النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، وقد كشف ستر حجرة عائشة ، فنظر إليهم وهم صفوف ، فتبسّم يضحك ، فنكص أبو بكر على عقبيه ، وظنّ أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) يريد أن يخرج إلى الصلاة ، وهمّ المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم فرحاً بالنبيّ (صلى الله عليه وآله) حين رأوه ، فأشار بيده أن أتمّوا، ثمّ دخل الحجرة ، وأرخى الستر، وتوفّي ذلك اليوم " (4) .
ويتّضح منها : أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) كان في حالة صحّية أفضل من تلك ، وأنّه قام لوحده ورفع الستر ووجه مستنير ، فلماذا لم يخرج ويصلّي جماعة ؟ وقد صلّى قبلها وهو يهادى بين رجلين ، ورجلاه تخطّان في الأرض ؟! فإن كان هناك حريص على الجماعة كما تزعمون ، فيجب أن يكون هنا أحرص كما هو واضح ، وإن كان بتلك الحالة يقصد التنبيه إلى إنكاره إمامة أبي بكر للناس ، فهنا الدلالة أوضح ، لأنّه يستطيع الصلاة معهم ولم يصل .
____________
1- مسند أحمد 6 / 34 ، الطبقات الكبرى 2 / 220 ، تاريخ مدينة دمشق 30 / 263 ، سبل الهدى والرشاد 11 / 175 .
2- مسند أحمد 3 / 202 ، مجمع الزوائد 5 / 181 ، مسند أبي يعلى 6 / 264 ، شرح نهج البلاغة 6 / 44 ، كنز العمّال 7 / 262 .
3- الكهف : 29 .
4- صحيح البخاري 2 / 60 .
|
الصفحة 195 |
|