بسم الله الرحمن الرحيم
الإمام التقي محمد بن علي الجواد عليهما السلام اعتلى بمراهب شخصيته العظيمة القلوب والعقول، فكل من التقى به لا يفارقه إلا والإعجاب والخضوع يتسابق بين يديه. ومن معالم عظمته وسمو شخصيته ما المحت إليه الروايات والأقوال التالية: 1 ـ عن الرضا من أهل البيت (عليهم السلام) قال في وصفه (عليه السلام) (واله لا تمضي الأيام والليالي حتى يرزقني الله ولداًَ ذكراً يفرّق به بين الحق والباطل))[1]. وقال عنه بعد ولادته: (هذا المولود الذي لم يولدا مولود أعظم بركة على شيعتنا منه)[2]. 2 ـ وعن علي بن جعفر (عم أبيه)، قال محمد بن الحسن بن عمار: دخل أبو جعفر محمد بن علي الرضا (عليه السلام) مسجد الرسول (صلى الله وعليه وآله) فوثب علي بن جعفر بلا حذاء ولا رداء، فقبل يديه وعظمه، فقال له أبو جعفر: يا عم إجلس رحمك الله، فقال:/ يا سيدي كيف أجلس وأنت قائم؟! فلما رجع عل بن جعفر الى مجلسه جعل أصحابه يوبخونه ويقولون: أنت عمّ أبيه، وأنت تفعل به هذا الفعل؟! فقال: اسكتوا، إذا كان الله عز وجل ـ وقبض على لحيته ـ لم يؤهل هذه الشيبة وأهل هذا الفتى ووضعه حيث وضعه، انكروا فضله؟! نعوذ بالله مما تقولون! بل أنا له عبد)[3]. 3 ـ قال الشيخ المفيد، وكان المأمون قد شفق بأبي جعفر عليه السلام لما رأى من فضله مع صغر سنه وبلوغه في العلم والحكمة والأدب وكمال العقل ما لم يساوه فيه أحد من مشايخ أهل الزمان، فزوجه أبنته أم الفضل وحملها معه إلى المدينة وكان متوفراً على إكرامه وتعظيمه وإجلال قدره[4]. 4 ـ قال عنه الشيخ كمال الدين محمد بن طلحة الشافعي المتوفي (652 هـ): (وإن كان صغير السن فهو كبير القدر رفيع الذكر ... وقال أيضاً: مناقب أبي جعفر محمد الجواد ما اتسعت حلبات مجالها ولا امتدت أوقاف آجالها بل قضت عليه الأقدار الإلهية بقلة بقائه في الدنيا بحكمها وسجالها ففك في الدنيا مقامه[5]. 5 ـ وأدلى علي بن عيسى الأربلي المتوفي سنة (693 هـ) في حقه بكلمات تكشف عن مدى عمق إيمانه به، فقال: (مجده عالي المراتب، ومكانته الرفيعة، سمو على الكواكب، ومنصبه يشرف على المناصب ... له الى المعالي سمو والى الشرف رواح وغدوّ وفي السيادة إغراق وغلو، وعلى هام المساك ارتفاع وعلوّ، ومن كل رذيلة بعد والى كل فضيلة دفوّ... الى ان يقول: في شأن أهل البيت: وما تركوا غاية إلا انتهوا إليها سابقين ولا مرتبة سؤدد إلا أرتقوها آمنين من اللاحقين وهذا حق اليقين بل عين اليقين)[6]. 6 ـ قال الذهبي: (كان محمد يلقب بالجواد وبالقانع والمرتضى، وكان من سروات آل بيت النبي (صلى الله وعليه وآله) وكان أحد الموصوفين بالسخاء فلذلك لقب بالجواد ...[7] 7 ـ قال الشيخ عبد الله بن محمد بن عامر الشبراوي الشافعي المتوفي سنة (1154 هـ) في الإمام الجواد (عليه السلام): (التاسع من الأئمة محمد الجواد ـ وذكر نسبه وولادته ـ ثم قال: وكراماته رضي الله عنه كثيرة ومناقبه شهيرة، ثم ذكر بعض مناقبه وختم حديثه بقوله: وهذا من بعض كراماته الجليلة ومناقبه الجميلة[8]. هذه بعض النصوص التي تمثل إعجاب معاصروه (عليه السلام) ومن جاء بعدهم في القرون اللاحقه بشخصيته الفذة التي هي حكاية عن شخصية آبائه الكرام عليهم السلام جميعاً. معالم شخصيته اما مظاهر شخصيته التي ملكت القلوب والعقول يمكن ان تحكيها لنا أحواله التالية: أ ـ تكلمه في المهد: فقد ذكر المؤرخون أنه (عليه السلام) تشهد الشهادتين لما ولد وانه حمد الله تعالى وصلى على الرسول الأكرم (صلى الله وعليه وآله) والأئمة في اليوم الثالث[9]. ب ـ إتيانه الحكم صبي فقد أصبح خليفة الله تعالى في خلقه وإماماً لهم ولا يزال حديث السن الأمر الذي كان له أصداء ومخاوف وشبهات، وقد ورد في ذلك روايات حجة عنه (عليه السلام) يبين فيها هذا الأمر ويرد على الشاكين والمشككين. ج ـ علمه (عليه السلام) كان له الإحاطة التامة بكل ما للناس من النواحي السياسية والإدارية وأدرى أهل زمانه بشؤون الشريعة وأحكام الدين، وقد دل الإمام الجواد (عليه السلام) بنفسه على ذلك لما خاص في مختلف العلوم، وسأله العلماء والفقهاء عن أعقد المسائل الشرعية والعلمية فأجاب عنها بكل دقة وأحاطة، مما زاد في انتشار مذهب أهل البيت (عليهم السلام) وذهب كثير من العلماء الى القول بالإمامة. هـ ـ معجزاته وكراماته (عليه السلام) رغم ان الإمام كان معجزة بذاته، حيث تصدى لإمامة الأمة الإسلامية وهو صبي لم يبلغ السابعة، إلا ان الباري عز وجل أجرى على يديه كرامات عديدة في مواطن ومناسبات مختلفة، حتى يقيم بها الحجة على العباد ويقطع ألسنة المشككين. وهي كثيرة قد يطول المقام بنقلها، ولكن إليك ما نقله أبو هاشم الجعفري حيث يقول: (دخلت على أبي جعفر الثاني (عليه السلام) ومعي ثلاث رقاع غير معنونة واشتبهت على فاغتمت لذلك، فتناول إحداهن وقال: هذه رقعة ريان بن شبيب ثم تناول الثانية فقال: هذه رقعة محمد بن حمزة، وتناول الثالثة، وقال هذه رقعة فلان، فبهت، فنظر إلي وتبسم (عليه السلام)[10]. و ـ مكارم أخلاقه (عليه السلام) مع ما كان بغدقه المأمون على الإمام (عليه السلام) من أموال بلغت المليون درهم مضافاً الى الحقوق الشرعية، فإن الإمام (عليه السلام) ما أنفق منها شيئاً في أموره الخاصة وكانت للفقراء والمعوزين والمحرومين، وذات مرة رأى الحسين المكاري موكب الإمام محاطاً بها من العظمة مما جعله يظن حب الإمام لهذه الحياة ولا يعود الى يثرب مدينة الرسول فانطلق الإمام نحوه وقال له: (يا حسين خبز الشعير وملح الجريش في حرم جدي رسول الله (صلى الله وعليه وآله) أحب إليّ مما تران فيه)[11]. فكان (عليه السلام) أندى الناس كفا وأكثرهم سخاءً، وجاء لقبه الجواد، لكرمه وجوده وإحسانه، وقد ذكر المؤرخون في ذلك قصصاً كثيرة. في بعضها شمل كرمه حتى الحيوانات في الصحراء، وهكذا في إحسانه الى الناس ومواستهم، كيف لا يكون كذلك وهو خليفة الله في خلقه، وهو من تلك السلالة التي ما عاشت لنفسها قط، بل للآخرين ومن حملوا راية التوحيد والولاية. فقد مثل الإمام الجواد أروع صور الفضيلة والكلمات على وجه الأرض، فلم يرَ الناس في عصره من يضارعه في علمه وتقواه وورعه وشدة تحرجه في الدين، وبذلك يكون نسخة لا تاتي لها، فملك العواطف وأحتل القلوب واخلص له الناس بأعلى درجات الإخلاص. فكان لكل ذلك أثره في ثبات الشيعة وزيارة إيمانهم وتعيينهم بصحة ما ذهبت إليه واعتقدت به من ان الإمام لاب أن يكون أعلم أهل زمانه وأفضلهم في كل كمال. [1] ـ الكافي، ج1 ص320، ح6. [2] ـ الكافي، ج1، ص309، ح8. [3] ـ الكافي، ج1، ص322، ح12. [4] ـ الإرشاد، ص281. [5] ـ الفصول المهمة في معرفة الأئمة ص1035. [6] ـ كشف الغمة 3، ص163. [7] ـ تاريخ الإسلام 15، 385. [8] ـ الاتحاف وبحب الاشراف، ص168. [9] ـ راجع مستدرك عوام العلوم، 23: ص151 ـ 152. [10] ـ الثاقب في المناقب: 519. [11] ـ مدينة المعاجز، 7: 376.