إذا كانت المستحبّات سياجاً للواجبات، بحيث إنّ الإنسان المؤمن إذا حافظ عليها، وأتى بها مهتمّاً بالقيام بما استطاع منها، فإنّه بطريق أولى لن يقصّر في أداء الواجبات، كذلك فإنّ المكروهات سياج المحرّمات، وبالتالي إذا هتك الإنسان المؤمن ستر المكروه، ولم يبالِ بفعله فلربّما تزلّ قدمه أحياناً، فيبادر إلى ارتكاب بعض المحرّمات.
ومن المسائل الخطيرة والابتلائيّة عند بعض المؤمنين، كما هو مشاهد في زماننا الحاضر، حضورُهم ووضع أنفسهم في مواضع وأماكن وحالات لا ينبغي لهم الحضور فيها، تارةً من ناحية شخصيّة، وأخرى بما يحمله من عنوانٍ ومسؤوليّة، وقد عبّرت الروايات الشريفة عنها بمواضع التهمة، وها هو أمير المؤمنين عليه السلام يوصي ولده الإمام الحسن عليه السلام بقوله: "إيّاك ومواطن التهمة والمجلس المظنون به السوء"(1)، وربّما يعود السبب في توقّي مواضع الشبهة والتهمة إلى أمور منها:
1- الانجرار للمعصية:
إنّ هذه الأماكن قد تدفع هذا الإنسان، بسبب وجود الشبهات والمحرّمات أحياناً، إلى الوقوع فيما لا يُحمد عقباه، وبالتالي فلا يلومنّ إلّا نفسه.
2- اتهامه بالمعصية:
أنّها مدعاة لاتهامه من قبل من يراه وشيوع ذلك بين الناس، وحينئذٍ لن ينفع التسويغ والاعتذار.
فعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "اتقوا مواقف الريب، ولا يقض أحدكم مع أمّه في الطريق؛ فإنّه ليس كلّ أحدٍ يعرفها"(2).
وما ذلك إلّا لدفع التهمة والقيل والقال، فيرحم نفسه ويرحم غيره، بعدم استغابته والإساءة إليه وفضحه.
وفي الخبر عن رسول الله صلى الله عليه واله قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقفنّ مواقف التهمة"(3).
3- سوء الظنّ به:
إنّ هذا الحضور سيؤدّي إلى إساءة الظّن به، ولو من الناحية القلبيّة فقط، من دون أن يبرز إلى الخارج بالكلام، ولا سيّما الغِيبة وغيرها.
عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "من وضع نفسه مواضع التهمة فلا يلومنّ من أساء الظنّ به"(4).
وهنا لا بدّ من الإشارة، إلى أنّ الإنسان المؤمن العاقل، لا بدّ له من أن يصبغ كلّ أفعاله وأعماله بالصبغة الإلهيّة، أي أن تكون كلّ أحواله الظاهريّة والباطنيّة، موافقة للشرع المقدّس، وما أمر به الله عزّ وجلّ ورسوله وأولي الأمر سلام الله عليهم.
وبعبارة أخرى أن تكون أفعاله نابعة من التقوى، الّتي تحمي الإنسان وتحصّنه من الوقوع في الشبهات؛ لأنّه إذا نظر من منظار التقوى، فسوف يقيس كلّ فعلٍ أو عملٍ ينوي القيام به بميزان رضا الله وغضبه، ومن ثَمَّ يقدم أو لا يقدم عليه.
عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "إنّ من صرّحت له العبر عمّا بين يديه من المَثلات حجزته التقوى عن تقحّم الشبهات"(5)، والشرط الأساس لحصول مثل هذه التقوى، هو التفقّه في الدين، وتعلّم أحكام الحلال والحرام، وسلوك طريق الإحتياط، فإنّ به النجاة.
مواضع التهمة
نشير ههنا إلى بعض مواضع التهمة الّتي ينبغي الحذر منها أو الدخول فيها، وهي:
1- الأماكن المحرّمة:
وهي من أوضح مصاديق التهمة للأخ المؤمن إذا وُجد فيها، كنوادي السهر وأماكن الدعارة والمسابح المختلطة، الّتي لا يُتورّع فيها عن ارتكاب الحرام...
2- الأماكن المختلطة:
كالأعراس الّتي لا يُراعى فيها حرمة الاستماع إلى الغناء، والموسيقى، والنظر المحرّم.
3- الجلوس في الطرقات:
وهي من العادات القبيحة عند بعض الأفراد، وقد تلازم النظر المحرّم إلى الفتيات، وتسبّب الحرج لبعض الأخوات بالمرور من ذلك الطريق.
وقد نهانا أهل البيت عليهم السلام عن الجلوس في الطرقات، كما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام قبيل وفاته أنّه قال عليه السلام: "إيّاك والجلوس في الطرقات"(6).
وروي عن رسول الله صلى الله عليه واله أنّه قال لأصحابه: "إيّاكم والجلوس في الطرقات، فقالوا يا رسول الله ما لنا من مجالسنا بدّ؛ نتحدّث فيها، فقال صلى الله عليه واله: إذا أبيتم إلّا المجلس فأعطوا الطريق حقّها.
قالوا: وما حقّ الطريق يا رسول الله؟
قال صلى الله عليه واله: "غضّ البصر، وكفّ الأذى، وردّ السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر..."(7).
4- زيارة الأشخاص المشبوهين:
الّذين تدور حولهم بعض علامات الاستفهام، لا سيّما مع انفلات الوضع الأمنيّ ووجود شبكات العملاء والمخبرين.
5- صحبة الأشرار والفسّاق:
ولا سيّما شارب الخمر ومتعاطي المخدّرات.
عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "صحبة الأشرار تكسب الشرّ، كالريح إذا مرّت بالنتن حملت نتناً"(8).
وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "لا تصحب الفاجر فإنّه يعلّمك من فجوره"(9).
الخلوة بالأجنبيّة
من أوضح المصاديق البارزة لمواضع التهمة وجلب إساءة الظنّ بالأخ المؤمن، وما يؤدّي به للوقوع بالحرام أمران:
أ- الخلوة بالأجنبيّة:
أي الجلوس مع إمرأة محرّمة عليه في مكان مشبوه، وقد ورد النهي المؤكّد عن ذلك في أقوال الأئمة عليهم السلام والعلماء، لما في ذلك من المفاسد ولا أقلّها النظر المحرّم وفوران الشهوة والتلذّذ.
ففي دعائم الإسلام: "عن رسول الله صلى الله عليه واله أنّه نهى عن محادثة النساء يعني غير ذوات الأرحام وقال: "لا يخلونّ رجل بإمرأة، فما من رجلٍ خلا بإمرأة إلّا كان الشيطان ثالثهما".
وعن جعفر بن محمّد عليه السلام قال: "حديث النساء من مصائد الشيطان".
ب -العقد على المشهورة بالزنا:
وهذه من المصائب الّتي قد يُبتلَى بها البعض، ولها مفاسد أخلاقيّة وصحيّة واجتماعيّة.
إذ إنّ بعض الشباب يسعى وراء شهوته فيفتّش عن هذه وتلك، ويسأل عن هذه وتلك، فيقع في النظر المحرّم والسؤال المحرّم المستتبع للأذى. وقد تصل به الحال إلى إرضاء شهوته مع أوسخ النساء وأحقرهنّ وأرذلهنّ، وهي المشهورة
بالزنا. وقد يؤدّي به إلى الوقوع في الزنا المحرّم والعياذ بالله، وهذا ما يسيء إلى المذهب وإلى الخطّ والنهج. سيّما إذا كان هذا الإنسان المؤمن يشكّل رمزاً أو شعاراً للخطّ أو للمذهب، أو يحمل مسؤوليّة، وبذلك يسيء إلى أهل البيت عليهم السلام ويجلب لهم الشنعة، والعياذ بالله.
خلاصة
- إنّ من صفات المؤمن عدم وضع نفسه في مواضع الشبهة والتهمة وما شابه .
- لقد نبّه الإسلام العزيز إلى تجنّب مواضع الشبهة والتهمة، وذلك لعدّة أسباب:
أ- إنّ مثل هذه المواضع قد يدفع بالإنسان للوقوع في الحرمة والمنكر.
ب- تكوّن انطباعاً سيّئاً عند الناس حول حضور الإنسان في هكذا مواضع، فضلاً عن إساءة الظنّ به.
- من مصاديق مواضع التهمة والشبهة، أماكن ارتكاب المحرّمات والمنكر وعدم مراعاة الضوابط الشرعيّة، فضلاً عن الجلوس في الطرقات وصحبة الأشرار، ومن أبرزها الخلوة بالأجنبيّة .
الزهد في الدنيا
من خطبة لأمير المؤمنين يعظ فيها ويزهّد في الدنيا، قال عليه السلام: "نحمده على ما أخذ وأعطى وعلى ما أبلى وابتلى. الباطن لكلّ خفيّة، والحاضر لكلّ سريرةٍ، العالِم بما تكِنّ الصدور وما تخون العيون ونشهد أن لا إله غيره وأنّ محمّداً صلى الله عليه واله نجيبه وبعيثه. شهادةً يوافق فيها السّر الإعلانَ والقلب اللسانَ...
فإنّه والله الجِدّ لا اللعب والحقّ لا الكذب، وما هو إلّا الموت أسمع داعيه وأعجل حاويه، فلا يغرنّك سواد الناس من نفسك، وقد رأيت من كان قبلك ممّن جمع المال، وحذر الإقلال، وأمِن العواقب، طول أمل واستبعاد أجل، كيف نزل به الموت فأزعجه عن وطنه وأخذه من مأمنه محمولاً على أعواد المنايا يتعاطى به الرجال الرجالَ، حملاً على المناكب وإمساكاً بالأنامل، أما رأيتم الّذين يأملون بعيداً ويبنون مشيداً ويجمعون كثيراً كيف أصبحت بيوتهم قبوراً وما جمعوا بوراً وصارت أموالهم للوارثين، وأزواجهم لقومٍ آخرين، لا في حسنة فيزيدون، ولا من سيّئة يستعتبون. فمن أشعر التقوى قلبه برز مهله (أي التقدّم في الخير) وفاز عمله، فاهتبلوا هبلها (أي اطلبوا خيرها) واعملوا للجنّة عملها، فإنّ الدنيا لم تخلق لكم دار مقام بل خلقت لكم مجازاً لتزوّدوا منها الأعمال إلى دار القرار، فكونوا منها على أوفازٍ (أي كونوا منها على استعجال) وقرّبوا الظهور لِلزيالِ (أي فراق الدنيا)"(10).
المصادر :
1- وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج12، ص37
2- وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج12، ص37
3- مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج8، ص340
4- وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج12، ص37
5- نهج البلاغة، ج1، ص47
6- بحار الأنوار، المجلسي، ج72، ص465
7- نيل الأوطار، ج6، ص59
8- غرر الحكم، الآمدي، ص431
9- بحار الأنوار، المجلسي، ج71، ص191
10- نهج البلاغة، الخطبة 132، ص189
source : .www.rasekhoon.net