عربي
Saturday 16th of November 2024
0
نفر 0

فقه الحجّ الاستدلالي المقارن

وجوب الحج وفوريته في دراسة استدلالية مقارنة

محسن الأراكي

ألحمد لله ربّ العالمين والصّلاة والسّلام على محمّد وآله الطّاهرين

   نتناول في بحثنا هذا فقه الحج على ضوء الاستدلال، مقارناً بين أهم المذاهب الفقهية وخاصة المذاهب الخمسة التي عليها مدار العمل بين الأكثرية الساحقة للمسلمين، وهي المذهب الجعفري، والحنفي، والحنبلي، والمالكي، والشافعي ، وعلى الله نتوكّل وبه نستعين.

   إنّ بحثنا عن فقه الحج يقع ضمن فصول :

الفصل الأول : وجوب الحج وما يتعلق به

   وجوب الحج اجمالاً مما اتّفقت عليه كلمة المسلمين بطوائفهم كافّة، ويعتبر من الضروريات التي لا حاجة فيها إلى إقامة الدليل، ومن طلب الدليل يكفيه بعد الاجماف دليل الكتاب وهو قوله تعالى : (ولله على الناس حجّ البيت من استطاع اليه سبيلاً)1 ومن السنة الأحاديث المتواترة تفصيلاً أواجمالاً مثل ما رواه الفريقان من أنّ الاسلام بني على خمس ـ منهاـ الحج2.

   ولا فرق في وجوبه بين الذكر والأنثى والخنثى لاطلاق أدلّة الوجوب وعدم ما يدل على التقييد.

ثمّ إنّ ههنا مسائل :

   المسألة الأُولى : لا يجب الحج بشرائطه إلاّ مرة واحدة في العمر، قام على ذلك اجماع المسلمين، قال في الجواهر : آ«ولا يجب باصل الشرع إلاّ مرة واحدة اجماعاً بقسميه من المسلمينآ»3 وقال ابن قدامة المقدسي : آ«وأجمعت الأُمّة على وجوب الحج على المستطيع في العمر مرة واحدةآ»4 ولم يخالف في ذلك إلاّ الصدوق في العلل فإنّه قال : آ«والذي اعتمده وافتي به أنّ الحج على أهل الجدة في كل عام فريضةآ»5 وقد استدل لذلك بما رواه باسناده عن أبي جرير القمي عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : آ«الحج فرض على أهل الجدة في كل عامآ»6 بروايتين أخريين ضعيفتي السند قريبتين إلى هذه الرواية في المضمون.

   ويكفي حجة عليه الاجماع الذي أشرنا إليه وبه يسقط الاستدلال بالرواية، لضرورة حملها على ما لا يخالف المجمع عليه أورفع اليد عنها، أضف إلى ما ورد في الروايات المستفيضة من التصريح بعدم وجوبه أكثر من مرة واحدة مثل ما رواه البرقي في الصحيح عن علي بن الحكم، عن هشام بن سالم عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : آ«ما كلّف الله العباد إلاّ ما يطيقون ـ إلى أن قال ـ وكلّفهم حجّة واحدة وهم يطيقون أكثر من ذلك. الحديثآ»7.

   وروى الصدوق باسناده عن الفضل بن شاذان عن الرضا(عليه السلام) قال : آ«إنما أمروا بحجّة واحدة لا أكثر من ذلكآ»8.

   وروى أيضاً باسناده عن محمد بن سنان : أنّ أبا الحسن الرضا(عليه السلام) كتب إليه فيما كتب من جواب مسائله : آ«علة فرض الحج مرة واحدة لأنّ الله تعالى وضع الفرائض على أدنى القوم قوة، فمن تلك الفرائض الحج المفروض واحداً، ثمّ رغّب أهل القوة على قدر طاقتهمآ»9.

   وهذه الروايات صريحة في عدم وجوب الأكثر من مرة واحدة، بخلاف الروايات التي استند إليها الصدوق في القول بالوجوب في كل عام، فإنّ غاية دلالتها الظّهور، وروايات المرّة أظهر منها دلالة، بل هي صريحة غير قابلة للحمل على معنى آخر.

   ويمكن حمل روايات الوجوب في كل عام على ارادة الوجوب على طريق البدل، وأنّ من وجب عليه الحجّ في السنة الأُولى فلم يفعل وجب في الثانية.

   وهذا ما قام به الشيخ الطوسي، وإن كان الأقوي حملها على ما حملها عليه صاحب الوسائل من ارادة الوجوب الكفائي، وأنّ من الواجب على المسلمين كفاية أن يحجّوا بيت الله الحرام في كل عام، وأنه لا يجوز لهم ترك الحجّ بما يؤدّي إلى تعطيل بيت الله الحرام ولو لسنة واحدة، وقد وردت روايات متعدّدة ـ فيها روايات صحيحة السند ـ تؤكد هذا المضمون :

   فقد روى الكليني في الصحيح عن الحسين الأحمسي عن أبي عبدالله(عليه السلام)قال : آ« لو ترك النّاس الحج لما نوظروا العذاب، أوقال : لنزل عليهم العذابآ»10.

   وفي رواية أخرى عن حماد عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : كان علي صلوات الله عليه يقول لولده : آ« يا بني أنظروا بيت ربكم فلا يخلّون منكم فلا تناظروا آ»11.

   وفي الصحيح أيضاً عن عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : آ«لو عطّل النّاس الحجّ لوجب على الامام أن يجبرهم على الحجّ إن شاؤوا وإن أبوا، فإنّ هذا البيت انما وضع للحج آ»12.

   وفي صحيحة أُخرى عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : آ«لو أنّ النّاس تركوا الحج لكان على الوالي أن يجبرهم على ذلك، وعلى المقام عنده، ولو تركوا زيارة النبيّ(صلى الله عليه وآله)لكان على الوالي أن يجبرهم على ذلك وعلى المقام عنده، فإن لم يكن لهم أموال أنفق عليهم من بيت مال المسلمينآ»13.

   وهذه الروايات كالصريحة في الدلالة على وجوب الحج كفاية في كل عام، فتكون قرينة على صرف روايات الوجوب في كل عام بعد تعارضها مع روايات المرة إلى ارادة الوجوب الكفائي، وبذلك يتمّ الجمع بين المتعارضين.

   وقد اعترض صاحب الجواهر(قدس سره) على القول بالوجوب الكفائي المذكور آ« بأنه خلاف الاجماف وأنّ النصوص الدالة على أنّ الامام يجبر المسلمين على الحج إن تركوه خارجة عما نحن فيه من الوجوب كفاية على خصوص أهل الجدة المستلزم لكون من يفعله من حج في السنة السابقة منهم مؤدياً لواجب، ولو كان مع من لم يحج منهم، وقد صرحت النصوص بأنّ ما عدا المرة تطوّع آ»14.

   والجواب عنه : إنّ مقتضى الجمع بين روايات الوجوب في كل عام، وروايات الوجوب مرة واحدة، بروايات حرمة تعطيل بيت الله الحرام عن الحجيج، حمل روايات الوجوب مرة على صورة عدم لزوم التعطيل وحمل روايات الوجوب في كل عام على صورة لزوم التعطيل ويكون حاصل الجمع حينئذ : أنّ الحج لا يجب على أهل الجدة أكثر من مرة واحدة في العمر، لكن بشرط عدم لزوم التعطيل، فإن لزم التعطيل وجب عليهم الحج مرة أخرى حتى لا يلزم التعطيل، وكلما لزم من عدم حج أهل الجدة تعطيل بيت الله الحرام لزم عليهم أن يحجّوا وإن كانوا قد أتوا بحجة الاسلام قبل ذلك.

   وليس في هذا شيء يخالف الاجماف فليس القول بوجوب الحج في كل عام على أهل الجدة مطلقاً، ليلزم منه في الأحوال العادية أن يكون من حج أولاً من أهل الجدة اذا حج مرةً أخرى مؤدياً للواجب الكفائي; رغم أنّ النصوص صرحت بأنّ ما عدا المرة تطوّف فإنّ هذه النصوص ناظرة إلى القضيّة الخارجيّة والاحوال المتعارفة خارجاً، والتي يتقاطر فيها الحجيج إلى بيت الله الحرام من كل حد وصوب، وأمّا نصوص وجوب الحج على أهل الجدة في كل عام فإنما تنظر إلى القضيّة الحقيقية إلى أصل وجوب الحج بشكل عام، فهي تنظر إلى الفريضة بطبيعتها; وعلى نحو القضيّة الحقيقيّة.

   ثمّ إنّ مقتضى الروايات الدالة على حرمة تعطيل بيت الله عن الحجيج الوجوب الكفائي على المسلمين عامة، وإنما قيّد الوجوب الكفائي بخصوص أهل الجدة، للأدلة الدالة على التقييد، كقوله تعالى : (من استطاع اليه سبيلاً...)

   وغير ذلك كالرواية التي دلّت على أنّ الحج فرض على أهل الجدة في كل عام ، وأمّا في صورة عدم وجود المستطيف فقد دلّت الرواية على أنّ من واجب الامام بذل المال للناس ليستطيعوا فيحجّوا. وهذا يدل على توجه وجوب آخر على الحاكم الإسلامي; يلزمه إقامة هذا الشعار الإلهي العظيم، وهذا من واجبات الحاكم الإسلامي وهو خارج عن موضوع بحثنا هنا.

   هذا، ونختم الكلام في هذا الموضوع بما دل على عدم وجوب الحج أكثر من مرة من صحيح مسلم باسناده عن أبي هريرة قال : خطبنا رسول الله(صلى الله عليه وآله) فقال : آ«أيها النّاس قد فرض الله عليكم الحج فحجّوا، فقال رجل : أكلّ عام يا رسول الله ؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً، فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله) : لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم، ثمّ قال : ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه آ»15.

   المسألة الثانية : تجب العمرة على المستطيع كالحج في العمر مرة واحدة، بلا خلاف بين أصحابنا بل ادّعى في التذكرة عليه الاجماف وقال السيد الخوئي(رحمه الله)كما جاء في تقرير بحثه : آ«لا خلاف بين الفقهاء في وجوب العمرة على كل مكلّف بشرائط وجوب الحج وجوباً مستقلاً كالحج في العمر مرة واحدة، وقد ادعى صاحب الجواهر الاجماع بقسميه على ذلك آ»16.

   وقال العلاّمة في التذكرة : آ« وبه قال علي، وعمر، وابن عباس، وزيد بن ثابت، وابن عمر، وسعيد بن المسيّب، وسعيد بن جبير، وعطا، وطاووس، ومجاهد، والحسن البصري، وابن سيرين، والشعبي، والثوري، واسحق، والشافعي في الجديد، وأحمد في إحدى الروايتين آ»17.

   وقال آخرون : آ«إنّ العمرة ليست واجبة، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وأبو ثور، وحكاه ابن المنذر وغيره عن النخعيآ»18، قيل : آ«وروي عن ابن مسعود 19، وبه قال الشافعي في القديم، وأحمد في الرواية الثانيةآ»20.

   دليلنا : بعد الاجماف من الكتاب قوله تعالى :(وَأَتِمّوُا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ)21.   فإنّ المراد بالاتمام : الأداء أوالإتيان الكامل غير المنقوص والأمر يدل على الوجوب فتكون الآية دليلاً على وجوب كل من الحج والعمرة.

   وقد روى في الصحيح عن أبي عبدالله الصادق(عليه السلام) في قوله تعالى :(وَأَتِمّوُا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ) قال : آ«يعني بتمامهما : أداءَ هماآ»22.

   وقد ذكر الزمخشري في الكشاف23 في معنى الآية : ايتوا بهما تامين كاملين بمناسكهما وشرائطهما لوجه الله من غير توان ولا نقصان يقع منكم فيهما. ثمّ قال : فان قلت : هل فيه دليل على وجوب العمرة ؟ قلت : ما هو إلاّ أمر باتمامهما ولا دليل في ذلك على كونهما واجبين أوتطوّعين، فقد يؤمر باتمام الواجب والتطوّع جميعاً. إلاّ أن نقول : الأمر باتمامهما أمر بأدائمهما، بدليل قراءة من قرأ : وأقيموا الحج والعمرة، والأمر للوجوب في أصله إلاّ أن يدلّ دليل على خلاف الوجوب كما دل في قوله ـ فاصطادوا، فانتشروا ونحو ذلك ـ فيقال لك، فقد دلّ الدليل على نفي الوجوب، وهو ما روي أنه قيلآ«يا رسول الله العمرة واجبة مثل الحج ؟ قال : لا، وان تعتمر خير لكآ» وعنه : آ«الحج جهاد والعمرة تطوّعآ».

   ويرد عليه : أنّ الأمر للوجوب كما ذكر وما استشهد به على نفي ارادة الوجوب لا يحتج به لقصوره دلالة وسنداً، ولمعارضتة بأحاديث أُخرى رواها أصحاب السنن، والمعارض أقوى سنداً ودلالة، وعلى فرض التكافؤ يتساقط الدليلان المتعارضان وتبقى الآية حجة على الوجوب.

   أمّا قصور الشاهد ـ على نفي الوجوب ـ دلالة، فلأن النفي في الحديث الأوّل نفي لمثليّة العمرة للحج في الوجوب، فلا تدلّ على نفي أصل الوجوب وأما الحديث الثاني فليس فيه ما يدل على نفي الوجوب غير التعبير بالتطوّف وهو غير صريح في نفي الوجوب، بل ولا أقوى ظهوراً في نفي الوجوب من ظهور الأمر في الآية في الوجوب. فلو سلّمنا ظهور التطوّع في المندوب لزمنا رفع اليد عن هذا الظهور بظهور الآية في الوجوب، لأنّ الآية ذكرت الحجّ إلى جانب العمرة ولا شك في وجوب الحج، ولا يستعمل اللفظ الواحد في معنيين باستعمال واحد، لامتناع ذلك، فذكر الحج بنفسه قرينة قطعيّة على ارادة الوجوب من الأمر بالاتمام، فيكون الأمر دالاً على وجوب العمرة أيضاً.

   والحاصل أن القرينة الموجبة لرفع اليد عن ظهور ذي القرينة لا بُدّ أن تكون

أقوى دلالة من ذي القرينة، وفيما نحن فيه ليس الأمر كذلك، فانّ دلالة ذي القرينة ـ وهي الآية على وجوب العمرة ـ أقوى من دلالة القرينة وهو الحديث المذكور على نفي الوجوب.

   وأما قصور الشاهد سنداً فقد روى البيهقي الحديث الأوّل باسناده عن الحجاج بن أرطأة عن محمّد بن المنكدر عن جابر أنّ النبي(صلى الله عليه وآله) سئل عن العمرة أواجبة ؟ قال : آ« لا وان تعتمر خير لك آ» قال البيهقي : كذا رواه الحجاج بن أرطأة مرفوعاً وقد أخبرنا أبو عبدالله الحاف1 ثمّ ذكر اسناده إلى يحيى بن أيوب قال : أخبرني ابن جريح والحجاج بن ارطأة عن محمّد بن المنكدر عن جابر بن عبدالله(رضي الله عنه) انه سئل عن العمرة أواجبة فريضة كفريضة الحج ؟ قال : لا وان تعتمر خير لك ـ ثم قال البيهقي ـ  : هذا وهو المحفوظ عن جابر موقوف غير مرفوع وروى عن جابر مرفوعاً بخلاف ذلك، وكلاهما ضعيف .

وقد ذكر البيهقي طرق الرواية المذكورة كلّها وقد بيّن أنها جميعاً بين منقطع وضعيف وموقوف24 وقال النووي في شرحه للمهذب : وأما قول الترمذي : إنّ هذا حديث حسن صحيح فغير مقبول، ولا يغتر بكلام الترمذي في هذا فقد اتفق الحفاظ على أنه حديث ضعيف. ثم قال : ودليل ضعفه أن مداره على الحجاج بن أرطأة لا يعرف إلاّ من جهته، والترمذي إنما رواه من جهته، والحجاج ضعيف ومدلّس باتفاق الحفا1 وقد قال في حديثه عن محمد بن المنكدر، والمدلّس اذا قال في روايته : عن، لا يحتج بها بلا خلاف. ثم قال : ولأن جمهور العلماء على تضعيف الحجاج بسبب آخر غير التدليس25.

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

زيارة الامام جعفر الصادق (عليه السلام)
في شكر الله تعالى
آثار التوفيق ومعناه
في الدعاء
اهمية النکاح
الحسنة و الحسنى
حرمة المسكن وحمايته في القانون الداخلي والدولي
إقامة المأتم
تفسيره للقرآن
السيّدة زينب عليها السّلام ودورها في الدفاع عن ...

 
user comment