منذ فجر التاريخ حتى اليوم آمن الشيعة بأن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) قد وهبهم الله العلم والحكمة وفصل الخطاب، كما وهب أنبياءه الكرام ورسله العظام. و(ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء) وأكد هذا العلم المؤرخون والرواة فقالوا: كان أئمة أهل البيت يملكون طاقات هائلة من العلوم والمعارف لم يملك مثلها أحد من الناس، وقد فاقوا بمواهبهم جميع العلماء الذين عاصروهم والأدلة على ذلك متوفرة وكثيرة. يكفي أن نذكر سيد العترة الطاهرة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي أعلن من على منبر الكوفة: (سلوني قبل أن تفقدوني، سلوني عن طرق السماء فإني أعلم بها من طرق الأرض) فعلومه (عليه السلام) قد تجاوزت شؤون هذا الكوكب الذي يعيش عليه الإنسان إلى شؤون الكواكب والفضاء.
علي صاحب نهج البلاغة أثرى كتاب عالمي عرفته الإنسانية بعد القرآن الكريم وباب مدينة علم الرسول (صلّى الله عليه وآله) ووصيه فاق جميع علماء الدنيا في مواهبه وعلومه.
وعلى هذا الطراز من سعة العلم وغزارة المعرفة كان سائر الأئمة الطاهرين من بعده. وقد اعترف ابن خلدون بهذه الظاهرة لأئمة أهل البيت (عليهم السلام) فقال: (وإذا كانت الكرامة تقع لغيرهم فما ظنك بهم علماً وديناً، وآثاراً من النبوة، وعناية بالأصل الكريم تشهد لفروعه الطيبة، والشريعة قد قررت أن البشر محجوبون عن الغيب إلا من أطلعه الله عليه من عنده في ولاية، وقد وقع لجعفر وأمثاله من أهل البيت كثير من ذلك مستندهم فيه والله اعلم الكشف بما كانوا من الولاية، فهم أولى الناس بهذه الرتب الشريفة والكرامات الموهوبة)(1).
أما علم الفقه فقد أخذ معظمه من الإمامين الإمام الباقر وولده الإمام الصادق (عليهما السلام) وقد حفلت موسوعات الفقه بالروايات الكثيرة التي أثرت عنهما، ومازالت يرجع إليها فقهاء الإمامية في استنباطهم الأحكام الشرعية، وفي إصدارهم الفتاوى.
لقد جهد الإمام الباقر وولده الإمام الصادق (عليهما السلام) على نشر الفقه الإسلامي وشرحه وتبيانه بصورة إيجابية تفصيلية في زمن كان المجتمع الإسلامي غارقاً في الأحداث السياسية المؤلمة والثورات الداخلية الدامية. مما جعل الحكومات تهمل الشؤون الدينية إهمالاً تاماً، وتعد الشعوب الإسلامية تفقه من أمور دينها لا الكثير ولا القليل. فالحكام والعلماء والشعب لم يعد لديهم المعرفة في أمور الدين، حتى في العبادات باتوا يتأرجحون ولا يجزموا في أمور دينهم من صوم وحج وصلاة وغير ذلك من ذلك ما روي أن ابن عباس خطب في نهاية شهر رمضان على منبر البصرة فقال:(اخرجوا صدقة صومكم).
فكان الناس لا يعلمون كيف ذلك. فقال: من هنا من أهل المدينة قوموا إلى إخوانكم فعلموهم، فإنهم لا يعلمون من زكاة الفطرة الواجبة شيئاً (2).
والحقيقة أنه في عصر بني أمية كان الحكام لا يهتمون بأمور الدين بل كان همهم الوحيد تثبيت دعائم الحكم والبذخ والترف والحياة الدنيا ولم يكن يعرف من هذه الشؤون الدينية إلا أهل المدينة وحدهم (3) فالدور المشرق في ذلك الزمن المظلم والظالم كان للإمام الباقر والإمام الصادق (عليهما السلام) فقد عمدا إلى نشر الفقه الإسلامي وبيان أحكام الشريعة الإسلامية فكان لهم الفضل الجليل في العالم الإسلامي ولولاهما لخسر المسلمون أعظم ثروة دينية لهم. فكان والحالة هذه أن أسرع أبناء الصحابة ورؤساء المذاهب الإسلامية كأبي حنيفة ومالك وغيرهما إلى الأخذ من علوم الإمامين وكان لمدرستهما الفضل في حفظ الثروة الدينية من الضياع، وللإمام الباقر الدور المشرق في المحافظة على نضارة الإسلام. يقول مصطفى عبد الرزاق: (من المعقول أن يكون النزوع إلى تدوين الفقه كان أسرع إلى الشيعة لأن اعتقادهم العصمة في أئمتهم فكان حرياً إلى تدوين أقضيتهم وفتاواهم)(4).
وبذلك ساهم الشيعة في بناء فقه الصرح الإسلامي وثرواته الدينية.
من غرر حواراته
مع رجل قدري:
ابتلي المسلمون في ذلك الوقت برجل من القدرية أفسد عليهم دينهم، ولم يقدروا على رد تخرصاته وإبطال مزاعمه، فرأى عبد الملك أن لا طريق لإفحامه والرد عليه إلا الإمام محمد الباقر (عليه السلام) فكتب إلى عامله على يثرب رسالة يطلب فيها إحضار الإمام إلى دمشق، والتلطف معه. عرض حاكم يثرب على الإمام (عليه السلام) رسالة عبد الملك، فاعتذر الإمام (عليه السلام) عن السفر لأنه شيخ لا طاقة له على عناء السفر، لكنه أناب عنه ولده الإمام جعفر الصادق للقيام بهذه المهمة. سافر الإمام الصادق (عليه السلام) إلى دمشق فلما حضر عند عبد الملك قال له: قد أعيانا هذا القدري، وإني أحب أن أجمع بينك وبينه، فإنه لم يدع أحداً إلا وخصمه، وأمر بإحضاره فلما حضر عنده أمره الإمام الصادق (عليه السلام) بقراءة الفاتحة، فبهر القدري، وأخذ بقراءتها، فلما بلغ قوله: (إياك نعبد وإياك نستعين) قال له الإمام (عليه السلام):
(من نستعين؟ وما حاجتك إلى المعرفة إن كان الأمر إليك) وبان العجز على القدري، ولم يطق جواباً، وواصل الإمام حديثه في إبطال مزاعمه ورد شبهه.
مع قسيس:
ومرة كان الإمام الباقر (عليه السلام) في الشام فالتقى مع قسيس من كبار علماء النصارى وجرت بينهما مناظرة اعترف القسيس بعجزه وعدم استطاعته على مناظرة الإمام والرد عليه. قال أبو بصير: قال أبو جعفر (عليه السلام): مررت بالشام، وأنا متوجه إلى بعض خلفاء بني أمية فإذا قوم يمرون، فقلت: أين تريدون؟ قالوا: إلى عالم لم نر مثله، يخبرنا بمصلحة شأننا، قال: فتبعتهم حتى دخلوا بهواً عظيماً فيه خلق كثير، فلم ألبث أن خرج شيخ كبير متوكئ على رجلين، قد سقطت حاجباه على عينيه، وقد شدهما فلما استقر به المجلس نظر إلي وقال:
من أنت أم من الأمة المرحومة؟
من الأمة المرحومة.
أمن علمائها أم من جهالها؟
لست من جهالها.
أنتم الذين تزعمون أنكم تذهبون إلى الجنة فتأكلون وتشربون ولا تحدثون؟!!
نعم.
هات على هذا برهاناً.
نعم، الجنين يأكل في بطن أمه من طعامها، ويشرب من شرابها ولا يحدث.
ألست زعمت أنك لست من علمائها؟
إنما قلت لك: لست من جهالها.
أخبرني عن ساعة ليست من النهار وليست من الليل؟
هذه ساعة من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، لا تعدها ليلاً ولا تعدها نهاراً وفيها تفيق المرضى.
بهر القسيس وراح يقول للإمام:
ألست زعمت أنك لست من علمائها؟
إنما قلت لك: لست من جهالها.
والله لأسألك عن مسألة ترتطم فيها.
هات ما عندك.
أخبرني عن رجلين ولدا في ساعة واحدة، وماتا في ساعة واحدة؟ عاش أحدهما مائة وخمسين عاماً وعاش الآخر خمسين عاماً؟
ذلك عزير وعزيرة. عاش أحدهما خمسين عاماً ثم أماته الله مائة عام، فقيل له كم لبثت؟ قال: يوماً أو بعض يوم، وعاش الآخر مائة وخمسين عاماً، ثم ماتا جميعاً. عندها صاح القسيس بأصحابه، والله لا أكلمكم، ولا ترون لي وجهاً اثني عشر شهراً (5).
وسبب حنقه منهم لأنه ظن أنهم عمدوا إلى إدخال الإمام (عليه السلام) عليه لامتحانه وفضيحته، ونهض الإمام أبو جعفر (عليه السلام) وأخذت الشام تتحدث عن قدراته العلمية ووفرة اطلاعه على جميع المعارف في عصره.
مع قادة الاعتزال:
التقى الإمام الباقر (عليه السلام) مع قادة المعتزلة وجرت بينه وبين كبار علمائها عدة مناظرات نذكر منها مناظرته:
مع الحسن البصري:
وفد الحسن البصري إلى يثرب فتشرف بمقابلة الإمام أبي جعفر (عليه السلام) فقال الإمام:
جئت لأسألك عن أشياء من كتاب الله؟
ألست فقيه البصرة؟
قد يقال ذلك.
هل بالبصرة أحد تأخذ عنه؟
لا.
فجميع أهل البصرة يأخذون عنك؟
نعم.
لقد تقلدت عظيماً من الأمر، بلغني عنك أمر فما أدري أكذلك أنت أم يكذب عليك؟
ما هو؟
زعموا أنك تقول: إن الله خلق العباد ففوض إليهم أمورهم.
وأطرق الحسن البصري برأسه إلى الأرض وحار في الجواب، فبادره الإمام قائلاً:
أرأيت من قال له الله في كتابه: إنك آمن هل عليه خوف بعد القول منه؟
لا.
إني أعرض عليك آية، وأنهي إليك خطاباً، ولا أحسبك إلا وقد فسرته على غير وجهه، فإن كنت فعلت ذلك فقد هلكت، وأهلكت.
ما هو؟
أرأيت حيث يقول الله: (وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير، سيروا فيها ليالي وأياماً آمنين)(6).
بلغني أنك أفتيت الناس فقلت: هي مكة.
قال الحسن البصري: بلى.
وأخذ الإمام يستدل على ما ذهب إليه في تفسير الآية حتى بهت الحسن البصري وحار في الجواب، ثم نهاه عن القول بالتفويض وبين فساده)(7).
مع عمرو بن عبيد (المعتزلة):
هو شيخ المعتزلة وزعيمها الروحي، التقى بالإمام أبي جعفر (عليه السلام) وكان قد قصد امتحانه واختباره فوجه له السؤال التالي:
جعلت فداك ما معنى قوله تعالى: (أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما)(8).
قال (عليه السلام): كانت السماء رتقاً لا تنزل القطر، وكانت الأرض فتقاً لا تخرج النبات.
وأفحم عمرو ولم يطق جواباً وخرج من المجلس ثم عاد إليه، وقال للإمام: جعلت فداك، أخبرني عن قوله تعالى: (ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى)(9) ما معنى غضب الله؟
قال (عليه السلام): غضب الله عقابه، ومن قال: إن الله يغيره شيء فقد كفر (10).
مع عمرو الماصر (المرجئة):
كان عمرو بن قيس ممن ذهب إلى الإرجاء. وقد قصد مع رفيق له الإمام (عليه السلام). انبرى عمرو يسأل الإمام قائلاً: (إنا لا نخرج أهل دعوتنا، وأهل ملتنا من الإيمان في المعاصي والذنوب)فرد عليه الإمام مزاعمه الفاسدة قائلاً:
(يا بن قيس: أما رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقد قال: (لا يزني الزاني وهو مؤمن ولا يسرق السارق وهو مؤمن) فاذهب أنت وأصحابك حيث شئت)(11) ما ذهب إليه المرجئة يتنافى مع الإيمان، لأن الإيمان قوة رادعة للنفس تصونها من ارتكاب الذنوب، ومن يقترفها لا عهد له بواقع الإيمان.
مع نافع الأزرق (الخوارج):
نافع الأزرق هو من أعلام الخوارج وفد على الإمام الباقر (عليه السلام) يسأله عن بعض المسائل الدينية، والإمام يجيبه عنها. وبعد أن فرغ من أسئلته قال له الإمام (عليه السلام):
قل لهذه المارقة بم استحلتم فراق أمير المؤمنين (عليه السلام) وقد سفكتم دماءكم بين يديه في طاعته، والقربة إلى الله في نصرته؟ وسيقولون لك:إنه قد حكم في دين الله، فقل لهم: قد حكم الله في شريعة نبيه رجلين من خلقه فقال: (فابعثوا حكماً من أهله، وحكماً من أهلها إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما)(12) وحكم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) سعد بن معاذ في بني قريظة منحكم فيهم بما أمضاه الله عز وجل، أو ما علمتم أن أمير المؤمنين (عليه السلام) إنما أمر الحكمين أن يحكما بالقرآن، واشترط عليهما أن يتجاوزا أحكام القرآن من أحكام الرجال، وقال حين قالوا له: (قد حكمت على نفسك، من حكم عليك فقال: ما حكمت مخلوقاً، وإنما حكمت كتاب الله، فأين تجد المارقة تضليل من أمر الحكمين بالقرآن واشترط رد ما خالفه لولا ارتكابهم في بدعتهم البهتان) وبهر نافع بهذا الكلام السديد، وطفق يقول: (هذا والله كلام ما مر بمسمعي قط، ولا خطر ببالي، وهو الحق إن شاء الله)(13).
source : sibtayn