عربي
Sunday 17th of November 2024
0
نفر 0

أدلّة القول بالتراخى :

   والجواب عنه : أنّ الفور لو لم يكن واجباً لم يكن وجه لعصيانه بالتأخير حتى الموت، وسلامة العاقبة ليس تحت الاختيار ليعتبر شرطاً في التكليف، أما الضمان فإنّه حكم وضعي، ولا بأس بأن يناط الحكم الوضعي بما لا يقع تحت الاختيار بخلاف الحكم التكليفي المتنازع فيه.

أدلّة القول بالتراخى :

واحتجّ القائلون بالتراخي بعدّة أدلّة وهي :

   أوّلاً : إنّ فريضة الحج نزلت سنة ست من الهجرة وقد حجّ النبي سنة عشر، وقد كان هو وأصحابه موسرين بما غنموه من الغنائم الكثيرة ولا عذر لهم، فلم يكن تأخيره للحج إلاّ لبيان جواز التأخير64.

   أما أنّ فريضة الحج نزلت سنة ست فلحديث كعب بن عجرة قال : آ«وقف عليّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) بالحديبيّة، ورأسي يتهافت قملاً، فقال : يؤذيك هوامّك  ؟ قلت : نعم، يا رسول الله . قال : فاحلق رأسك . قال : ففيّ نزلت هذه الآية :(فمن كان منكم مريضاً أوبه أذىً من رأسه ففدية..) إلى آخرها وبذلك يثبت أنّ قوله تعالى : (وَأَتِمّوُا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ للهِ) إلى آخرها نزلت سنة ست من الهجرة آ»65.

   ثانياً : جاء في حديث أنس عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) حينما جاءه رجل من أهل البادية فسأله قال : آ«يا محمّد أتانا رسولك فزعم لنا أنّك تزعم أنّ الله أرسلك، قال : صدق ، إلى أن قال : وزعم رسولك أنّ علينا حجّ البيت من استطاع إليه سبيلاً، قال : صدقآ» رواه مسلم في صحيحه في أوّل كتاب الايمان بهذه الحروف وروى البخاري أصله، وفي رواية البخاري آ«أنّ هذا الرجل ضمام بن ثعلبة، وقدوم ضمام بن ثعلبة على النبي(صلى الله عليه وآله) كان سنة خمس من الهجرة، قاله محمّد بن حبيب وآخرون، وقال غيره : سنة سبف وقال أبو عبيد : سنة تسع آ»66.

   وهذا الحديث يدل أيضاً على وجوب الحج قبل سنة عشر وقد أخّر رسول الله الحج إلى سنة عشر، فيدل على جواز التأخير وعدم وجوب الفور بالحج.

   ثالثاً : جاء في الأحاديث المستفيضة آ«إنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) أمر في حجَّة الوداع من لم يكن معه هدي، الاحرام بالحج ،ويجعله عمرة آ» وهذا صريح في جواز تأخير الحج مع التمكّن67.

   رابعاً : أنّ المكلّف إذا أخّر الحج بعد الاستطاعة من سنة إلى سنة أوأكثر، ثمّ فعله يسمى مؤدياً للحج لا قاضياًبإجماع المسلمين، ولو حرم التأخير لكان قضاءً لا أداءً68.

   خامساً : إذا تمكن المكلّف من الحج وأخره ثم فعله، لا ترد شهادته فيما بين تأخيره وفعله بالاتفاق، ولو حرم لردت لارتكابه المسيء69.

   وكلّ هذه الأدلّة التي تمسّك بها القائلون بالتراخي عليلة، والتوضيح كالتالي :

أمّا الدليل الأوّل، فالجواب عنه بوجهين :

   الأول : إنّه لم يثبت عندنا نزول فريضة الحج سنة ست، وقد روي أنها نزلت سنة عشر فلم يتخلّل بينها وبين حجّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) زمان تفوت معه الفوريَّة.

   وأما حديث كعب بن عجرة فلا دلالة فيه على زمان النزول، وإنّما الذي دل عليه الحديث قول كعب ان الآية نزلت فيه، ويمكن ان يريد بذلك أنّ الآية حينما نزلت وان كان نزولها متأخراً عن الحديبيّة بسنين نزلت فيه وفي امثاله ممّن يصابون بالعذر الذي أصيب به. وبعبارة أخرى; إنّ الظّرف لا يدلّ على خصوص الظرفيّة الزمانيّة بل يصحّ أن يراد به الظرفيّة المورديّة، بل لعل الظرف بمعنى المورد هو الظاهر في أكثر الروايات التي تحكى شأن النزول، وإن كانت الظرفيّة الموردية كثيراً ما تقترن بالظرفيّة الزمانيّة لكن لا ملازمة بينهما.

   الثاني : سلّمنا نزول أصل فريضة الحجّ قبل عام حجّة الوداع بسنة أوسنين، لكن تشريع أصل فريضة الحج لا يعني وجوبها الفعلي على المسلمين، بل يتوقف وجوبها الفعلي على تشريع تفاصيل مناسكه وأجزائه وأركانه، ولم يكن يمكن الاكتفاء في بيان تفاصيل مناسك الحجّ بتفسيرها النظري، لكثرة مناسكه ودقّة أحكامه وكثرة فروعه وأهميّة الآثار المترتبة عليه; بل كان من الضروري في تشريع تفاصيل مناسك الحج وتعليمها للمسلمين أن يقوم رسول الله(صلى الله عليه وآله) بتفسير الحج تفسيراً عملياً تطبيقيّاً، وذلك بأنْ يحجّ بنفسه صلوات الله عليه وآله، ومعه المسلمون عامّة ليتعلّموا أحكام الحج وفروعه الدقيقة الكثيرة من خلال المشاهدة العملية والمعايشة الميدانية.

   وهذا ما قام به رسول الله(صلى الله عليه وآله) في حجّة الوداف ولم يكن من الممكن القيام بهذا الحج التشريعي قبل التطهير البيت، والبقاع التي يراد اقامة الحج فيها لله من رجس وجود المشركين، ولم يطهّر البيت والبقاع المباركة إلاّ في سنة تسع عند ما نزلت آية البراءة.

   فقد روى الشعبي عن محرز بن أبي هريرة عن أبي هريرة قال : كنت أنادي مع علي(عليه السلام) حين اذن المشركين، فكان إذا صحل صوته فيما ينادي دعوت مكانه قال : فقلت يا أبت أيّ شيء كنتم تقولون ؟ قال : كنا نقول : لايحج بعد عامنا هذا مشرك ولايطوفن بالبيت عريان، ولايدخل البيت إلاّ مؤمن، ومن كانت بينه وبين رسول الله(صلى الله عليه وآله) مدة فإنّ أجله إلى أربعة أشهر، فإذا انقضت الأربعة أشهر فإنّ الله بريء من المشركين ورسولُه70.

ورواه مع شيء من الاختلاف الدارمي في سننه71.

   وقد جاء في الكتاب العزيز قوله تعالى مخاطباً إبراهيم وولده اسماعيل(أن طهّرا بيتي للطائفين والعاكفين والرّكّع السّجود )72. ممّا يؤيد أنّ الحج الكامل متوقف على طهارة بيت الله من كل ما يدنس طهارته، والمشركون نجس حسبما ورد في الكتاب العزيز، فوجب تطهير بيت الله سبحانه منهم، مقدّمة لطواف الطائفين وصلاة المصلّين.

   إذن فقد حجّ رسول الله في أول سنة تمكن فيها من الحج من غير تأخير، وليس في حجّه(صلى الله عليه وآله) ما يقوم حُجّة للقول بالتراخي.

وأما الدليل الثاني : فالجواب عنه : أولاً : أنّه لم يثبت كون قدوم ضمام بن ثعلبة على النبيّ(صلى الله عليه وآله) سنة خمس أوسبف بل قيل : إنه كان سنة تسف وقد حجّ رسول الله سنة عشر، فلم يثبت تأخّر حجّ رسول الله عن أوّل عام الاستطاعة بعد التشريع.

وثانياً : ما ذكرناه في الوجه الثاني من الجواب على الدليل الأوّل يرد في الجواب على هذا الوجه أيضاً.

وأما الدليل الثالث : فجوابه واضح، فإنّ أمر رسول الله(صلى الله عليه وآله) من لم يكن معه هدي أن يجعل حجّه عمرة; لا دلالة فيه على جواز تأخير الحج، فضلاً عن صراحته في ذلك، بل الوجه في أمر رسول الله ـ كما يبدومن ظاهر الحديث ـ فقدان من لم يكن معه هدي لشرط الاستطاعة.

وأما الدليل الرابع :

فالجواب عنه : انّ الوجه في تسمية من أخّر الحج عن عام الاستطاعة ثم حج بعد ذلك مؤدياً للحجّ، أنّ الحج فيما بعد عام الاستطاعة أداء لفريضة الحج في وقتها بعد فوات الوقت الأول، فانّ الواجب هو أداء الحجّ في العام الأوّل من الاستطاعة فان عصى وجب عليه أداؤه في العام الثاني، وإلاّ ففي الثالث وهكذا، وليس ذلك من باب القضاء لأنّ معنى فوريّة الوجوب انحلال الواجب إلى عنصرين تعلّق بهما الأمر : الأول : ذات الواجب ووقته مدى العمر. والثاني : ايقاعه في الزمن الأوّل بعد الاستطاعة، وهذا الثاني ينطبق على كل عام أوّل بعد تعلّق التكليف وقبل الامتثال، فما لم يمتثل يبقى وجوب ايقاع الفريضة في أوّل عام باقياً متوجهاً إليه، فإذا أدّى الفريضة سقط الوجوب بكلا عنصريه لتحقق المطلوب.

وأمّا الدليل الخامس :

انّ الفرض المذكور في الدليل يتضمّن افتراض العزم على الأداء في المستقبل وفي هذا الفرض وان كان التأخير إثماً يعاقب عليه لو لم يجبر بالتوبة ولكن ليس كل إثم يوجب ردّ شهادة مرتكبة، فلا يتوقف قبول الشهادة على عدم ارتكاب الاثم مطلقاً، وإنّما الاثم المانع عن قبول الشهادة هو الاثم المقترن بالاصرار أوما يعدّ كبيرة موبقة وعد عليها بالنّار أوغير ذلك من القيود المعتبرة في الاثم الموجب لردّ الشهادة.

   وقد تحصل من مجموع ما ذكرناه أنّ الحق كون الحج واجباً فوريّاً يأثم من توفرت فيه شرايط الوجوب بتأخيره عن أول عام الاستطاعة بغير عذر.

 

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الحداثة والفكر الإسلامي المعاص
قيمة العمر
أدلّة القول بالتراخى :
الاعجاز العلمي واللغوي للبحر المسجور
الإيمان وعلامات المؤمن
حقوق الإخوان
صبر يوسف (عليه السّلام)
بأيّ حق ظلمتْ فاطمة
زيارة الامام جعفر الصادق (عليه السلام)
في شكر الله تعالى

 
user comment