الثقافة کلمة عریقة فی اللغة العربیة أصلا، فهی تعنی صقل النفس والمنطق والفطانة، وفی القاموس المحیط: ثقف ثقفا وثقافة، صار حاذقا خفیفا فطنا، وثقفه تثقیفا سواه، وهی تعنی تثقیف الرمح، أی تسویته وتقویمه. واستعملت الثقافة فی العصر الحدیث للدلالة على الرقی الفکری والأدبی والاجتماعی للأفراد والجماعات. والثقافة لیست مجموعة من الأفکار فحسب، ولکنها نظریة فی السلوک بما یرسم طریق الحیاة إجمالا، وبما یتمثل فیه الطابع العام الذی ینطبع علیه شعب من الشعوب، وهی الوجوه الممیزة لمقومات الأمة التی تمیز بها عن غیرها من الجماعات بما تقوم به من العقائد والقیم واللغة والمبادئ، والسلوک والمقدسات والقوانین والتجارب. وفی الجملة فإن الثقافة هی الکل المرکب الذی یتضمن المعارف والعقائد والفنون والأخلاق والقوانین والعادات.
فإنه یمکن استخدام کلمة "ثقافة" فی التعبیر عن أحد المعانى الثلاثة الأساسیة التالیة:
• التذوق المتمیز للفنون الجمیلة والعلوم الإنسانیة، وهو ما یعرف أیضا بالثقافة عالیة المستوى.
• نمط متکامل من المعرفة البشریة، والاعتقاد، والسلوک الذی یعتمد على القدرة على التفکیر الرمزی والتعلم الاجتماعی.
• مجموعة من الاتجاهات المشترکة، والقیم، والأهداف، والممارسات التی تمیز مؤسسة أو منظمة أو جماعة ما.
عندما ظهر هذا المفهوم لأول مرة فی أوروبا فی القرنى الثامن عشر والتاسع عشر، کان یشیر فیما یشیر إلیه إلى عملیة الاستصلاح أو تحسین المستوى، کما هو الحال فی عملیة الزراعة أوالبستنة.أما فی القرن التاسع عشر، أصبح یشیر بصورة واضحة إلى تحسین أو تعدیل المهارات الفردیة للإنسان، لا سیما من خلال التعلیم والتربیة، ومن ثم إلى تحقیق قدر من التنمیة العقلیة والروحیة للإنسان والتوصل إلى رخاء قومى وقیم علیا. إلى أن جاء منتصف القرن التاسع عشر، وقام بعض العلماء باستخدام مصطلح "الثقافة" للإشارة إلى قدرة الإنسان البشریة على مستوى العالم.
وبحلول القرن العشرین، برز مصطلح "الثقافة" للعیان لیصبح مفهوما أساسیا فی علم الانثروبولوجیا، لیشمل بذلک کل الظواهر البشریة التی لا تعد کنتائج لعلم الوراثة البشریة بصفة أساسیة. وعلى وجه التحدید، فإن مصطلح "الثقافة" قد یشمل تفسیرین فی الأنثروبولوجیا :
التفسیر الأول: نبوغ القدرة الإنسانیة لحد یجعلها تصنف وتبین الخبرات والتجارب بطریقة رمزیة، ومن ثم التصرف على هذا الأساس بطریقة إبداعیة وخلاقة.
التفسیر الثانی: فیشیر إلى الطرق المتباینة للعدید من الناس الذین یعیشون فی أرجاء مختلفة من العالم والتی توضح وتصنف بدورها خبراتهم، والتی تؤثر بشکل کبیر على تمیز تصرفاتهم بالإبداع الوقت ذاته. وفى أعقاب الحرب العالمیة الثانیة، صار لهذا المفهوم قدر من الأهمیة ولکن بمعانى مختلفة بعض الشئ فی بعض التخصصات الأخرى مثل علم الاجتماع، والأبحاث الثقافیة، وعلم النفس التنظیمی، وأخیرا الأبحاث المتعلقة بعلم الإدارة.
فی غضون القرن التاسع عشر، کان لأنصار الحرکة الإنسانیة الکلاسیکیة ومنهم الشاعر والکاتب الإنجلیزى ماثیو آرنولد (1822-1888) Matthew Arnold مفهوما آخر لکلمة "الثقافة" حیث استخدموا هذا المصطلح للإشارة إلى الصورة المثلى فی دماثة الخلق، أو بصورة أخرى الوصول إلى "أفضل ما توصل إلیه البشر من طرق للتفکیر قیلت أو اعتقد فیها فی ذلک الوقت ".ویعتبر مفهوم "الثقافة" قریب الشبه من مفهوم "بیلدونج" "bildung" باللغة الألمانیة والذی یعنى أن:".. الثقافة تهدف بدورها إلى تحقیق غایة الکمال عن طریق التعرف على أفضل ما تم الوصول إلیه فکرا وقولا فی کل ما یهمنا بصورة أساسیة على مستوى العالم کله فی ذلک الوقت.
وبصورة عملیة، فإن مفهوم الثقافة یشیر إلى کل ما هو مثالی أو یجتمع علیة القوم أو الصفوة وکل ما هو وثیق الصلة بمثل هذه الأمور مثل فن الرسم والنحت، الموسیقى الکلاسیکیة، فن الطبخ المتمیز والأزیاء الراقیة، والخلق الکریم(1).
أن التعریفات المعاصرة للثقافة تندرج تحت ثلاثة تصنیفات أو مزیج من الثلاثة التالیة:
1. عملیة تنمیة للنواحى الفکریة والروحیة والجمالیة .
2.طریقة معیشیة معینة فی حیاة شعب من الشعوب، أو ممیزة لفترة من الفترات أو مجموعة من المجموعات.
3. جمیع الأعمال والممارسات الخاصة بالنشاط الفکری والفنی بصفة خاصة.
کما ارتبطت هذه الممارسات بأنماط الحیاة البدویة، فإن کلمة "ثقافة" اتسمت بکل ما تعنیه کلمة "حضارة" (مشتقة من الکلمة اللاتینیة سیفیتاس civitas، بمعنى مدینة)ویعد الاهتمام بالفلکلور الشعبی هو من أهم ما یمیز الحرکة الرومانسیة. وهو ما أدى بدوره إلى تعریف کلمة "ثقافة" بین العامة من غیر النخب. وهذا التمییز یشبه ذلک التمییز الموجود بین علیة القوم من الطبقة الاجتماعیة الحاکمة وعامة الناس. وبعبارة أخرى، فإن فکرة "الثقافة" التی نشأت فی أوروبا إبان القرنین الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر عکست بدورها حالة من عدم المساواة داخل المجتمعات الأوروبیة.
یرى ماثیو آرنولد Matthew Arnold تناقضا بین کلا من مفهومى "الثقافة" و"الفوضى السیاسیة"؛ مقلدا فی ذلک عدد من الفلاسفة الآخرین مثل توماس هوبس Thomas Hobbes وجان جاک روسوو Jean-Jacques Rousseau الذین رؤوا تناقضا بین مفهوم "الثقافة" و"حالة الإنسان الطبیعیة"وبالنسبة إلى هوبز وروسوو فیرى کلا منهما أن سکان أمریکا الأصلیین من الهنود الحمر والذین تعرضوا للغزو من قبل الأوروبیین بدایة من القرن السادس عشر کانوا یعیشون بدافع الغریزة أو الفطرة، وقد تم التعبیر عن هذا من خلال التناقض بین "المتمدنین " و"غیر المتمدنین".ووفقا لهذه الطریقة فی التفکیر، فیمکن للمرء أن یصنف بعض الدول والشعوب على أنها أکثر تحضرا من غیرها، وأن یصنف بعض الناس على أنهم أکثر ثقافة من غیرهم. ومن ثم أدى هذا التناقض إلى توصل کلا من هربرت سبنسر Herbert Spencer إلى نظریته الداروینیة الاجتماعیة Social Darwinism، ولویس هنرى مورغان Lewis Henry Morgan إلى نظریته التطور الثقافى.وعلى هذا النحو، فقد أشار بعض النقاد إلى أن التمییز بین الثقافات المتحضرة والمتخلفة یعزى فی واقع الأمر إلى وجود حالة من الصراع بین الصفوة من الأوروبیین وغیرهم ممن هم ینتمون إلى طبقة اجتماعیة أدنى، هذا وأرجع بعض النقاد الفجوة بین الشعوب المتحضرة وغیرهم من الشعوب الغیر متحضرة إلى الصراع القائم بین کلا من الإمبراطوریة البریطانیة من جهة وبین رعایاها من جهة أخرى.
یعتبر عالم الإنثربولوجیا البریطانی ادوارد تایلور Edward Tylor واحدا من أول العلماء الناطقین بالإنجلیزیة ممن استخدموا مصطلح الثقافة بالمعنى الواسع والعالمى
هذا وقد وافق بعض من نقاد القرن التاسع عشر، ممن اعقبوا روسو، على هذا الاختلاف بین ثقافة ما عرف بالأعلى والأدنى، ولکنهم فی الوقت ذاته أقروا بأن محاولة التعدیل والتکلف فی صیاغة قالب من الثقافة عالیة المستوى على أنه افساد بل ومحاولة تعدیل فی غیر موضعه والذی من شأنه جلب المفسدة والتشوه لفطرة الله التی فطر الناس علیها.ویعتبر هؤلاء النقاد أن الموسیقى الشعبیة أو ما یعرف بالفلکلور (والتی تنتجها أفراد الطبقة العاملة) تعبیرا صادقا عن شکل من أشکال الحیاة الطبیعیة، فی حین تبدو الموسیقى الکلاسیکیة سطحیة ومنحلة. وبنفس القدر، تصور وجهة النظر هذه الشعوب الأهلیة على أنها "نبلاء بدائیون" حیث یعیشون حیاة فطریة غیر معقدة لا تشوبها شائبة، ولم تعبث بها أیدى أنظمة الغرب الفاسدة الطبقیة الرأسمالیة.
وفی عام 1870، قام إدوارد تایلور Edward Tylor )(1832-1917)) بتطبیق أفکار الثقافة الأعلى فی مقابل الثقافة الأدنى فی محاولة من شأنها اقتراح نظریة التطور الدینى. طبقا لهذه النظریة، یتطور الدین لدى الفرد من شکل الشرک المتعدد إلى شکل التوحید المطلق. أعاد تایلور فی هذه العملیة تعریف الثقافة بأنها مجموعة متنوعة من الأنشطة الممیزة لجمیع المجتمعات البشریة. وبذلک مهدت وجهة النظر هذه الطریق لفهم الثقافة الحدیثة.(2)
حرکة الرومانسیة الألمانیة
وضع الفیلسوف الألمانی إیمانویل کانط Immanuel Kant)(1724-1804)) تعریفا فردیا لمفهوم "التنویر" وهو مفهوم مماثل لمفهوم بیلدانج bildung السابق ذکره.: فکلمة التنویر تعنى " خروج الإنسان من حالة عدم النضج والتی تکبده کثیرا من العناء." وأشار کانط بأن هذا النضج لا یتأتی من حالة عدم الفهم، ولکن یتأتى من حالة نقص فی الشجاعة على التفکیر بشکل مستقل.، کما نادى کانط بما أسماه سابیر أوود Sapere aude فی محاولة منه لدفع هذه الحالة من الجبن العقلى بقوله " کن شجاعا لتکن حکیما".
هذا وأشار بعض المعلمین الألمان - کرد فعل لما ذکره کانط - مثل جوهان جوتفراید هیردر Johann Gottfried Herder، (1744-1803) بأن الإبداع البشری، والذی لا یمکن التنبؤ به ویمکن بطبیعة الحال أن یأخذ أشکالا متنوعة للغایة، لا یقل أهمیة عن عقلانیة الإنسان بأى حال من الأحوال. وعلاوة على ذلک، عرض هیردر Herder صیغة مقترحة من البیلدانج: فهذا المفهوم بالنسبة إلیه یعد بمثابة مجموع الخبرات والتی توفر للفرد الهویة المتماسکة، والشعور بالمصیر المشترک."
أما فی عام 1795، دعى العالم اللغوی والفیلسوف الکبیر ویلهلم فون هومبولدت Wilhelm von Humboldt)(1767-1835)) لفکر من الانثروبولوجیا والتی من شأنها تجمیع اهتمامات کلا من کانط وهیردر معا. فإبان العصر الرومانسى، وضع العلماء الألمان، وبخاصة هؤلاء الذین یهتمون بالحرکات القومیة - مثل النضال القومی لتوحید "ألمانیا" من کونها مجموعة إمارات مختلفة، والصراعات العرقیة للأقلیات الوثنیة ضد الامبراطوریة النمساویة الهنغاریة - مفهوما أکثر شمولا للثقافة بوصفها وجهة نظر عالمیة.ووفقا لهذه المدرسة الفکریة، کان لکل جماعة عرقیة نظرة عالمیة متمیزة تتعارض مع وجهات النظر العالمیة لدى المجموعات الأخرى. وعلى الرغم من شمولیة وجهة النظر هذه بالمقارنة بما کان معروفا فی الفترات السابقة، إلا أن هذا الاتجاه لا یزال یسمح لثقافة التمییز بین کل من "المتحضر" و"البدائی" أو ما یعرف باسم "الثقافات "القبلیة".
وفی عام 1860 نادى أدولف باستیان (Adolf Bastian) (1826-1905) بفکرة "الوحدة النفسیة للبشریة". فقد اقترح بأن المقارنة العلمیة لکافة المجتمعات البشریة من شأنها أن تکشف الستار عن أن وجهات النظر العالمیة المتمیزة تتکون من العناصر الأساسیة نفسها. ووفقا لما یراه باستیان، تتشارک کل المجتمعات البشریة فی مجموعة من "الأفکار الأساسیة" والثقافات المختلفة، أو "الثقافات الشعبیة" المختلفة وهی بمثابة تعدیلات عامة للأفکار الأساسیة. ومهدت وجهة النظر تلک الطریق إلى مزید من الفهم العصرى لمفهوم کلمة ثقافة. ونشأ فرانس بواس Franz Boas )(1858-1942)) على نفس وجهة النظر تلک، لیس هذا فحسب وإنما أحضرها معه عندما غادر ألمانیا فی اتجاهه إلى الولایات المتحدة.(3)
المصادر :
1- آرنولد، ماثیو. 1869. الثقافة والفوضى
2- مکلینن McClenon، صفحة 528 -529
3- أدولف باستیان، موسوعة بریتانیکا
source : rasekhoon