التقية : اسم لاتقى يتقي ، والتاء بدل عن الواو كما في التهمة والتخمة.
والمراد هنا : التحفظ عن ضرر الغير بموافقته في قول أو فعل مخالف للحق ..
والكلام تارة يقع في حكمها التكليفي ، وأخرى في حكمها الوضعي.
والكلام في الثاني تارة من جهة الآثار الوضعية المترتبة على الفعل المخالف للحق ، وأنها تترتب على الصادر تقية كما تترتب على الصادر اختيارا ، أم وقوعه تقية يوجب رفع تلك الآثار ، وأخرى في أن الفعل المخالف للحق هل تترتب عليه آثار الحق بمجرد الاذن فيها من قبل الشارع أم لا ؟
ثم الكلام في آثار الحق الواقعي قد يقع في خصوص الاعادة والقضاء إذا كان الفعل الصادر تقية من العبادات ، وقد يقع في الآثار الاخر ، كرفع الوضوء الصادر تقية للحدث بالنسبة إلى جميع الصلوات ، وإفادة المعاملة الواقعة تقية الآثار المترتبة على المعاملة الصحيحة.
فالكلام في مقامات أربعة :
أما الكلام في حكمها التكليفي (1) :
فهو أن التقية تنقسم إلى الاحكام الخمسة :
فالواجب منها : ما كان لدفع الضرر الواجب فعلا ، وأمثلته كثيرة.
والمستحب : ما كان فيه التحرز عن معارض الضرر : بأن يكون تركه مفضيا تدريجا إلى حصول الضرر ، كترك المداراة مع العامة وهجرهم في المعاشرة في بلادهم ، فإنه ينجر غالبا إلى حصول المباينة الموجب لتضرره منهم.
والمباح : ما كان التحرز عن الضرر وفعله مساويا في نظر الشارع ، كالتقية في إظهار كلمة الكفر على ما ذكره جمع من الاصحاب ، ويدل عليه الخبر الوارد في رجلين أخذا بالكوفة وأمرا بسب أمير المؤمنين صلوات الله عليه (2).
والمكروه : ما كان تركها وتحمل الضرر أولى من فعله ، كما ذكر ذلك بعضهم في إظهار كلمة الكفر ، وأن الاولى تركها ممن يقتدي به الناس ، إعلاء لكلمة الاسلام ، والمراد بالمكروه حينئذ ما يكون ضده أفضل.
والمحرم منه : ما كان في الدماء.
وذكر الشهيد قدس سره (3) في قواعده :
أن المستحب : إذا كان لا يخاف ضررا عاجلا ويتوهم ضررا آجلا أو ضررا سهلا ، أو كان تقية في المستحب ، كالترتيب في تسبيح الزهراء صلوات الله عليها وترك بعض فصول الاذان.
والمكروه : التقية في المستحب حيث لا ضرر عاجلا ولا آجلا ، ويخاف منه الالتباس على عوام المذهب.
والحرام : التقية حيث يؤمن الضرر عاجلا وآجلا ، أو في قتل مسلم.
والمباح : التقية في بعض المباحات التي ترجحها العامة ولا يصل (4) بتركها ضرر (5) ، انتهى.
وفي بعض ما ذكره قدس سره تأمل.
ثم الواجب منها يبيح كل محظور من فعل الواجب وترك المحرم.
والاصل في ذلك : أدلة نفي الضرر (6) ، وحديث رفع عن أمتي تسعة أشياء ، ومنها : « ما اضطروا إليه » (7) ، مضافا إلى عمومات التقية ، مثل قوله في الخبر : « إن التقية واسعة ، ليس شيء من التقية إلا وصاحبها مأجور » (8) ، وغير ذلك من الاخبار المتفرقة في خصوص الموارد. (9).
وجميع هذه الادلة حاكمة على أدلة الواجبات والمحرمات ، فلا يعارض بها شيء منها حتى يلتمس الترجيح ويرجع إلى الاصول بعد فقده ، كما زعمه بعض في بعض موارد هذه المسألة.
الشيخ مرتضى الانصاري
--------------------------------------------------
الهوامش:
1 ـ هذا هو المقام الاول.
2 ـ وهو الخبر الذي رواه ثقة الاسلام الكليني رحمه الله بسنده عن عبد الله بن عطاء قال : قلت لابي جعفر عليه السلام : رجلان من أهل الكوفة اخذا ، فقيل لهما : ابرئا من أمير المؤمنين ، فبرئ واحد منهما وأبى الآخر ، فخلي سبيل الذي بريء وقتل الآخر ، فقال : « أما الذي بريء فرجل فقيه في دينه ، وأما الذي لم يبرأ فرجل تعجل إلى الجنة » الكافي 2 / 175 حديث 21.
3 ـ هو : الشيخ شمس الدين أبو عبد الله محمد بن مكي العاملي الجزيني ، ويعرف بالشهيد على الاطلاق أو الشهيد الاول ، عالم نحرير ، فضله أشهر من أن يذكر ونبله أعظم من أن ينكر ، له عدة مؤلفات قيمة ، منها : القواعد والفوائد ، وهو مختصر مشتمل على ضوابط كلية أصولية وفرعية يستنبط منها الاحكام الشرعية ، استشهد مظلوما سنة 786.
لؤلؤة البحرين : 143 ، الذريعة 17 / 193.
4 ـ في المصدر : ولا يحصل.
5 ـ القواعد والفوائد 2 / 157 و 158 ، باختلاف.
6 ـ مثل قوله عليه السلام : « لا ضرر ولا ضرار » كما ورد في عدة روايات ، انظر : الكافي 5 / 280 حديث 4 و 292 حديث 2 و 293 حديث 6 و 294 حديث 8 ، الفقيه 3 / 45 حديث 154 حديث 154 و 59 حديث 208 و 147 حديث 648 ، التهذيب 7 / 146 حديث 651 و 164 حديث 727 ، دعائم الاسلام 2 / 499 حديث 1781 و 504 حديث 1805.
7 ـ روى هذا الحديث الشيخ الصدوق بسنده عن أبي عبد الله عليه السلام قال : « قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : رفع عن أمتي تسعة : الخطأ ، والنسيان ، وما اكرهوا عليه ، وما لا يعلمون ، وما لا يطيقون ، وما اضطروا إليه ، والحسد ، والطيرة ، والتفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة » الخصال 2 / 417 حديث 9 من باب التسعة.
8 ـ الكافي 3 / 380 حديث 7 ، التهذيب 3 / 51 حديث 177.
9 ـ راجع : وسائل الشيعة 11 / 459 ـ 483 ، من باب 24 إلى باب 32 من أبواب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.
source : tebyan