احتفى العالم الحقوقي هذا الاسبوع باليوم العالمي لحقوق الانسان الذي يصادف العاشر من ديسمبر من كل عام، واستحضرت ذاكرة النشطاء ما حدث قبل 64 عاما عندما اقرت الدول الاعضاء بالامم المتحدة الاعلان العالمي لحقوق الانسان.
يومها اعتقد الكثيرون ان هذا الاعلان سيؤدي تدريجيا الى انهاء الانتهاكات الحقوقية التي عانى العالم منها خصوصا خلال الحرب العالمية الثانية. فالموقعون عليها دول يفترض ان تلتزم بتعهداتها الدولية، ومنها ما ينظم انماط سلوكها الداخلي مع شعوبها.
وبدءا بمجلس حقوق الانسان التابع للامم المتحدة، مرورا بالمنظمات الحقوقية غير الحكومية، وصولا الى النشطاء، توالت الخطابات الرسمية والبيانات التي تؤكد ضرورة احترام البشر وحقوقهم، وتطالب بوقف الانتهاكات. لم يكن هناك جديد في هذه الخطابات التي اعتاد المجتمع الدولي اصدارها على مدى العقود الستة الاخيرة. ولا شك ان مسؤولي مجلس حقوق الانسان سعوا لايهام العالم بان تشكيل المجلس قبل بضعة اعوام يمثل 'طفرة' في العمل الحقوقي والاهتمام الدولي به، وانه تعبير عن 'تصاعد الاهتمام' بانسانية البشر وضمان ما تستلزمه تلك الانسانية. ومن جانبها سعت الحكومات للتسابق على ترويج ادعاءاتها باحترام حقوق مواطنيها.
هذا برغم اكتظاظ السجون باصحاب الرأي المخالف للدولة في اغلبها، واستمرار عمل المنظمات الحقوقية خصوصا منظمة العفو الدولية ومنظمة هيومن رايتس ووتش والفيدرالية الدولية لحقوق الانسان ومنظمة المادة 19 ومنظمة فروت لاين، ومنظمة آيفكس. وحتى المنظمة العربية لحقوق الانسان لم تطرح ما يبعث على الامل بامكان تطوير المنظومة الحقوقية التي طالما تشدق العالم بها، وروجتها الدول الكبرى التي اصبحت هي الاخرى محل تساؤلات حول مدى التزامها باحترام تلك المنظومة.
وثمة حقائق ذات صلة بقضايا حقوق الانسان تستدعي ذكرى اليوم العالمي استحضارها ليتسم السجال حولها بقدر من الموضوعية والحياد:
اولها حقيقة مرة مفادها غياب الالتزام الحقيقي من قبل كافة دول العالم بتلك الحقوق، مع الاعتراف بوجود مستويات من التزام تلك الدول بتطبيق المعايير الدولية في التعامل مع تلك الحقوق. فالالتزام اللفظي انما هو محاولة لترويج مقولات سياسية والتعتيم على حقيقة مواقف الدول حيال الانظمة التي تنتهك تلك الحقوق خصوصا اذا كانت تعتبر 'صديقة' او 'حليفة'. بل ان الدول 'الديمقراطية' نفسها تتجاوز معايير حقوق الانسان، ويمارس بعضها انتهاكات كبيرة لتلك الحقوق، فالولايات المتحدة نفسها اتهمت بممارسة التعذيب بحق سجناء غوانتنامو. وشجبت تقارير الامم المتحدة على مدى الاعوام العشرة الاخيرة استخدام اساليب التحقيق الامريكية التي استخدمت التعذيب مع المعتقلين في غوانتنامو وابوغريب وقاعدة بغرام، ومنها 'الايهام بالغرق'. وبعد سقوط نظام القذافي اتهم العديد من الليبيين الذين اعتقلوا سابقا على ايدي القوات الامريكية بعد حوادث 11 سبتمبر، الولايات المتحدة بتعذيبهم، ووصف بعضهم صندوقا صغيرا قالوا ان مسؤولي وكالة الاستخبارات المركزية الامريكية (سي آي أيه) كانوا يضعون المعتقلين فيه كنوع من التعذيب للحصول على الاعترافات او للانتقام. كما ان عددا من المواطنين البريطانيين ادعوا انهم عذبوا في معتقلات سرية بحضور محققين بريطانيين. ورفعت قضايا عديدة ضد اجهزة الاستخبارات البريطانية ادعى اصحابها تعرضهم للتعذيب، وان تلك الاجهزة اما تواطأت في تعذيبهم او غضت الطرف عما كان يحدث لهم. وهناك الآن عدد من 'الخبراء' البريطانيين الذين 'يشرفون' على اجهزة الشرطة والامن في البحرين بدعوى 'اصلاحها' او 'تدريبها'. ومن هؤلاء السير دانيال بيت لحم (المستشار السابق لوزارة الخارجية البريطانية) والسير جيفري جاول، استاذ علم القانون بجامعة يونيفرسيتي كولج في لندن، وجون ييتس، نائب رئيس شرطة لندن السابق. ولكن بدلا من تراجع انتهاكات حقوق الانسان، تصاعدت واصبحت تمارس علنا، وبدا ان جودهم لا يهدف لوقف الانتهاكات والتعذيب بقدر ما هو وسيلة لمساعدة النظام على الافلات من العقاب والرقابة الدوليين، واستئصال الثورة باستهداف نشطائها باساليب أقل اثارة بحيث لا تثير الاهتمام الدولي.
ثانيها: تم الحديث كثيرا عن 'ازدواجية المعايير' في تعامل الدول الغربية مع العالم. فهي تتغاضى عن ممارسات الدول التي تتمتع بعلاقة طيبة معها، بينما تستعمل الموضوع الحقوقي لاستهداف الانظمة 'غير الصديقة'. انها سياسة جديدة قديمة مؤسسة على المصالح، ومنفصلة عن المبادىء. فيتم الترويج ضد نظام 'غير صديق' لانه ينتهك حقوق مواطنيه، ولكن يتم التغاضي عن ممارسات الانظمة الحليفة. فمثلا يندر ان يوجه الغربيون، خصوصا الامريكيين و البريطانيين، اي شجب علني لحكومات دول مجلس التعاون الخليجي. ففي السعودية اليوم اكثر من عشرة آلاف سجين سياسي، اغلبهم بدون محاكمات، وبعضهم لم يسمح لعائلته بمقابلته منذ فترة طويلة. وقد مضى على سجن بعضهم اكثر من عشرة اعوام. ولكن هذه الحقائق لا تحظى باهتمام الغربيين الذين يطمعون في الحصول على المزيد من النفط والعقود العسكرية من السعودية. كما ان البحرين هي الاخرى تتمتع بحصانة من هذه الدول، وقد عوملت ثورتها بشكل مختلف عن بقية الثورات العربية الاخرى. فالخليج يحظى برعاية خاصة لاسباب عديدة من بينها توفره على اموال نفطية هائلة، وجواره لايران، الدولة الاقليمية الكبرى التي تتسم علاقاتها مع الغرب بالتوتر المتواصل، والرغبة في توفير حماية سياسية لتلك الدول لمنع وصول رياح ثورات التغيير اليها، للحفاظ عليها حليفا استراتيجيا للغربيين. ان من ابشع ملامح النظام السياسي المهيمن على عالم اليوم ظاهرة ازدواجية المعايير ومعها انماط الفساد المالي والاداري والسياسي، وغياب العدالة في تصنيف الدول واستغلال رجحان ميزان القوى لصالح طرف من اجل الضغط على اطراف اخرى. وبرغم جهود المنظمات الحقوقية العالمية لاصلاح هذا الخلل في العلاقات الدولية وانعكاساته على القيم الاخلاقية ومباديء حقوق الانسان، فما تزال حقوق الانسان كمنظومة غير قادرة على التحول الى قوة دافعة للتغيير نظرا لتراجع مواقف الدول التي تحمست لها عندما طرحت في الاربعينات من القرن الماضي، ولم يسجل صعود كبير في مجال احترام حقوق الانسان في العالم العربي والاسلامي بسبب اصرار الدول ذات العلاقة على دعم الانظمة القائمة وعدم اثارة الانتهاكات لتحاشي ما يزعج تلك الانظمة.
ثالثها: ان تلك الحقوق لم تعد 'مطلقة' بل اصبحت 'نسبية'، بمعنى ان بامكان الدول الصديقة ممارسة الانتهاكات بدعاوى مختلفة من بينها 'الحفاظ على الامن والاستقرار'، 'وجود ثقافة أخرى وفلسفة حقوقية مختلفة'، و 'مستلزمات خاصة لضمان التطوير والتنمية'. وغيرها من الدعاوى المؤسسة على التمييز في المواقف وعدم انسجام المعايير. ومع الاعتراف بوجود قدر من التباين ومجالات الاختلاف، الا ان القيم الاساسية للحقوق ثابتة في الاديان والثقافات، فالتعذيب لا تقره شرعة سماوية او ارضية، كما لا يجوز التمييز على اسس اللون او العرق او الدين او اي اعتبار آخر. ويتوافق البشر على ضرورة اقامة العدل بين الناس والمعاملة المتساوية في ما بينهم. ولا يختلفون في قضايا الحريات الفردية بشرط ان لا تنتهك حريات الآخرين او حقوقهم، ولا تؤدي الى اثارة الشقاق الاجتماعي او الاضطراب المجتمعي. هذه قيم عامة لا يختلف بشأنها عامة البشر. المشكلة ان الانظمة الشمولية ترى فيها تهديدا لوجودها. والحاكم المستبد لا يمكن ان يقبل بحرية الآخرين في التعبير الحر عن الرأي او انتقاد سياساته. كما ان غياب مبدأ الشراكة السياسية في بعض البلدان يحاصر الحريات العامة التي يرى فيها تهديدا للحكم المطلق. وعندما تكون انظمة الحكم غير مؤسسة على مبدأ الخيار الشعبي الحر، يرى القائمون عليها في الحريات العامة مدخلا لتهديدها قد يؤدي الى سقوطها. فهذه الانظمة تحمل في كياناتها بذور فنائها من جهة، وتحرك اصحابها لمحاربة كل ما يمكن ان يدعو للتغيير او الاصلاح. فحقوق الانسان ليست نسبية، الا بلحاظ الاختلاف بين منطلقات الحرية والاستبداد، الاختيار والتعيين، الانتخاب او الاجبار. مع ذلك لا يتردد حكام 'الدول الديمقراطية' في تقديم تلك الذرائع وترديد مقولات انظمة الاستبداد لتبرير مواقفهم المتقاعسة عن الدفاع عن الحقوق المنقوصة او المسلوبة.
رابعها: ان منظومة حقوق الانسان اصبحت اسيرة لنظام سياسي دولي يقدس اصحاب الشأن السياسي ويجاملهم على حساب الثوابت الانسانية الاخرى، ويحميهم من العقوبة اذا انتهكوا تلك الحقوق. فكما ان القوانين المحلية لانظمة القمع و الاستبداد آليات توفر للمعذبين والجلادين فرصة الافلات من العقاب، فالواضح ان ما يسمى 'الحصانة الدبلوماسية' اصبح درعا واقيا يحمي زعماء الدول ووزراءها من طائلة القانون. فلا يمكن اعتقال رأس الدولة التي تعذب مواطنيها، ولا انجاله او وزراءه. لقد اصبح الافلات من العقاب ظاهرة خطيرة وسببا رئيسا لاصرار انظمة القمع على انتهاك حقوق الانسان وممارسة التعذيب بدون خشية او قلق. وما لم يحرم الزعماء والمسؤولون السياسيون من هذه الحصانة فسيظل الحديث عن حقوق الانسان بهرجة اعلامية تزين النظام السياسي العالمي ولكنها لا تفيد ضحايا القمع السلطوي. مطلوب من الجهات الدولية المعنية بحقوق الانسان ضمن اطر الامم المتحدة اعتماد تشريعات جديدة تلغي حصانة اي زعيم او مسؤول عندما يتقدم ضحاياه بشكاوى موثوقة ضده تتهمه بالتعذيب مثلا او القتل خا رج اطار القانون. وبدون وجود جهات قضائية دولية مستقلة مخولة بالنظر في هذه القضايا، وبدون اجبار الدول على توقيع الاتفاقات المختصة بحقوق الانسان، فستظل منظومة حقوق الانسان محصورة بمفاهيم لا تحقق العدل للضحايا ولا القصاص من مرتكبي جرائم الانتهاك.
خامسها: ان المشروع الديمقراطي اصبح لا ينفك عن منظومة حقوق الانسان. ولذلك تتلاشى مصداقية دعاة الديمقراطية اذا لم يدافعوا عن حقوق الانسان، ولم يضربوا بيد من حديد على منتهكيها. ومن آفات المنظومتين محاولات تطويعهما لما تفرضه 'الحاجة' الآنية، الامر الذي يضعف الالتزام بهما، ويشجع الانظمة التي لا تؤمن بهما على التمرد والتشبت بمواقعها. فلا يمكن اقامة نظام ديمقراطي الا باحترام الحريات العامة والتخلي عن كافة ما يمكن تصنيفه ضمن انتهاكات حقوق الانسان. وبمعنى آخر، فان النظام الاستبدادي لا يمكن ان يحترم تلك الحقوق، ولا يستطيع ان يحكم الا بممارسة الاضطهاد والقمع وتكميم الافواه. ولذلك يستحيل اصلاح تلك الانظمة لسبب بسيط: ان سماحها بالحريات العامة واحترام حقوق الانسان والعمل بمتقضيات المواثيق الدولية التي تنظمها يؤدي حتما الى مواجهة مع المنتهكين والمعذبين والقتلة العاملين ضمن الاجهزة الرسمية. ولا تستطيع تلك الاجهزة ممارسة الانتهاكات الا باوامر من السلطات العليا، وبالتالي فسوف يلتف حبل المشنقة على رقبة رأس النظام لانه هو الآمر والناهي وهو صاحب القرارات والاوامر التي تنظم عمل الاجهزة المختلفة، الا اذا كانت تلك الاعمال فردية ولا تمثل نمطا ثابتا. وفي اطار ثورات الربيع العربي، فان من يسعى لاصلاح انظمة مارست القمع والاضطهاد عقودا انما يضيع وقته وجهده بدون ان تتوفر فرص تحقيق مبتغاه. فانظمة الاستبداد لا تنحصر بشخص الرئيس او الملك، بل ان اجهزتها مصممة لمنع الحريات العامة واستهداف البشر وحماية الديكتاتور وعصابته، وبالتالي لا يمكن اصلاحها الا باحداث تغيير في فلسفة الحكم ومنظومته واقتلاع رموزه. وتمثل الحالة المصرية نموذجا لاستحكام اجهزة الاستبداد، كالمحكمة الدستورية والمجلس العسكري، ولا يمكن تحييدها الا بتغييرها واعادة بناء الهوية الايديولوجية والثقافية والنفسية لمنظومة الحكم كلها.
اذا كان الهدف من الاحتفاء باليوم العالمي لحقوق الانسان استذكاره وطرح التصريحات المهذبة بشأنه فقد تحقق ذلك، لكن المهم ان يكون ذلك اليوم مناسبة لاحداث تغيير جذري في منظور حقوق الانسان، وذلك بالاصرار على عدم تسييسها من قبل القوى 'الديمقراطية' التي تحول اهتمامها بها الى دعاية لا تحقق الكثير للضحايا والمظلومين في انحاء الارض. المهم كذلك ان يكون لدى الاجهزة الدولية المخولة بملفات حقوق الانسان انياب قاطعة تؤهلهم لضمان وقف الانتهاكات اينما تحصل وتجعلها قادرة على اختراق 'الحصانة الدبلوماسية' التي توفر حاليا لأكبر الجلادين ومن يقتل مواطنيه بدون محاكمة. ان الجمود على منظومة حقوق الانسان وآلياتها الحالية لن يخلق مجتمعا انسانيا متحررا من الظلم وانتهاك حقوق البشر. وعلى الصعيد العربي مطلوب من الانظمة التي وصلت الحكم مؤخرا وتعتبر نفسها احدى ثمار الثورة وتجسيدا لارادة شعوبها، تبني مشاريع حقوقية فاعلة، والاستعداد لمواجهة تحديات هذه القضية، والجهر بعزمها على الدفاع عن ضحايا القمع السلطوي بكافة الوسائل القانونية المتاحة، مطلوب منها مثلا انشاء محكمة عربية خاصة يتظلم امامها اي مواطن عربي انتهكت حقوقه او أسيئت معاملته. ان من الضروري اقتلاع تلك الانتهاكات من الجذور والا فستستطيع قوى الثورة المضادة شن هجوم مضاد لاستعادة المبادرة في الصراع بين الاستبداد والحرية. واخيرا فما هو مطلوب حقا يتمثل بتغيير ما في النفوس من تردد ازاء موضوعة حقوق الانسان، وتعميق الاصرار على ملاحقة مرتكبي الجرائم ضد الانسانية ومنها التعذيب والابادة والقتل خارج اطار القانون ومصادرة حريات المواطنين بدعاوى شتى تافهة. اذا تحقق ذلك فستنعم الانسانية بحياة تتجه تدريجيا نحو احترام الانسان وحقوقه وانسانيته.
source : abna24