الرسائل تظل مثل الخطب مرتبطة - في الغالب- بالمناخ الاجتماعي الذي يستتلي كتابة الرسالة او الرد على الرسالة بخاصة فيما يتصل بالمناخ السياسي، ومادام الحسين (عليه السلام) قد عاصر كلاً من معاوية ويزيد، حينئذ فان مرحلة معاصرته لمعاوية تستدعي جانباً من المراسلة بينهما نظراً للفارق الكبير بينهما من حيث وجهات النظر، كما ان معاصرته ليزيد واستتباع ذلك معركة الطف، لابد ان تستتبع ايضاً نوعاً من المراسلات السياسية او العسكرية المرتبطة بمناخ المعركة. ويمكننا تقديم نموذج من رسائله (عليه السلام) الى معاوية، فيما يتضمن هذا النموذج: خصائص (فن الرسالة).. والنموذج الذي نقدمه هو (جواب) لرسالة بعث بها معاوية الى الحسين (عليه السلام) تتصل بالبيعة وملابساتها،... وقد اجابه (عليه السلام) بكتاب ننتخب منه ما نستهدف ابرازه فنياً بخاصة عنصر (التضمين الفني) للآيات والاحاديث والظواهر التاريخية... جاء في الرسالة: «... او لست بقاتل عمرو بن الحمق الذي اخلقت وجهه العبادة، فقتلته من بعد ما اعطيته العهود: ما لو فهمته العصم نزلت من سقف الجبال؟ او لست المدعي زياداً من الاسلام، فزعمت انه ابن ابي سفيان، وقد قضى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ان الولد للفراش وللعاهر الحجر، ثم سلطته على اهل الاسلام: يقتلهم ويقطع ايديهم وارجلهم من خلاف، ويصلبهم على جذوع النخل؟ او لست قاتل الحضرمي الذي كتب اليك فيه زياد انه على دين علي (عليه السلام)، ودين على (عليه السلام) هو دين ابن عمه (صلى الله عليه وآله) الذي اجلسك مجلسك الذي انت فيه، ولولا ذلك كان افضل شرفك وشرف آبائك تجشم الرحلتين: رحلة الشتاء والصيف؟... واعلم ان لله كتاباً لا يغادر صغيرة ولا كبيرة الا احصاها، واعلم ان الله ليس بناس لك قتلك بالظنة واخذك بالتهمة وامارتك صبياً يشرب الشراب ويلعب بالكلاب، ما اراك الا قد اوبقت نفسك، واهلكت دينك واضعت الرعية، والسلام».(٤) الملاحظ، أن هذه الرسالة تحتشد بعنصر (التضمين الفني) للآيات والاحاديث والظواهر التأريخية، كما انها تنطوي على عناصر صورية وايقاعية: اقل حجماً مما لحظناها في خطبه (عليه السلام)... والسر الفني في ذلك، اي: ظاهرة التضمين وتضخم حجمها: ثم ظاهرة الايقاع والصورة وضمور حجمها، ان الامام (عليه السلام) - كما كررنا- يمارس صياغة الخطبة او الرسالة وفقاً للمناخ الاجتماعي من جانب، ووفقاً لمتطلبات الفن من جانب آخر... فبالنسبة لتضخم حجم (التضمين) يمكننا ان ننسب ذلك لطبيعة الرسالة التي وجهها معاوية الى الحسين (عليه السلام) بحيث فرض مضمون الرسالة: ان يرد الحسين (عليه السلام) عليها بما يناسب المضمون المتقدم، فكان لابد من الركون الى القرآن الكريم وحديث الرسول (صلى الله عليه وآله) للرد،... لذلك كانت (التضمينات) للقتل، وقطع الايدي والارجل والصلب حيث وردت آية كريمة بمضمونها متناسبة مع عمليات القتل والقطع والصلب، الا ان الامام (عليه السلام) قد استخدمها - وهذا واحد من عناصر الفن- بنحو مضاد، لان الآية الكريمة اوردت ذلك بالنسبة للكافرين، في حين ان الامام (عليه السلام) قد استثمرها ليوضح ان عملية القتل والقطع والصلب قد مورست حيال المؤمنين، وهذا من اهم خصائص الفن الذي يصوغ الحقائق من خلال عنصر التضاذ الفني، حيث ان طبيعة الممارسة الاجتماعية فرضت مثل هذا المنحى الفني في عنصر (التضاد)... وهذا فيما يتصل بعنصر (التضمين)... اما ما يتصل بعنصر الصورة والايقاع فالملاحظ ضمور هذين العنصرين بعكس ما لحظناه في نماذج الخطب. والسر في ذلك أن (الرسالة) شخصية لم توجه الا الى شخص معين، فيما لا تستلزم تأجيجاً لعاطفة اجتماعية مثل: الحث على المعارك بقدر ما تستهدف توصيل الحقيقة بوضوح سافر، وهو ما يتناسب مع اللغة المباشرة الخالية من الصورة والايقاع الا عند المتطلبات الضرورية،... ولذلك لم يقدم (عليه السلام) في هذه الرسالة الا صورتين او اكثر فرضتهما طبيعة الموقف، منها: صورة «ما لو فهمته العصم نزلت من سقف الجبال» والعصم هي وعول الجبل، وهذه الصورة (الفرضية) تعني: أن تيس الجبل لو فهم العهود التي اعطاها معاوية لعمرو بن الحمق بعدم قتله لنزل من رأس الجبال... بمعنى ان خطورة العهد الذي اعطاه معاوية، لو كان الوعل يفهمه لما فرط في ذلك ولنزل من مكانه في الجبل: انكاراً لهذا النقض للعهد... اذن: جاءت هذه (الصورة الفرضية) وهي احداث علاقة بين طرفين على نحو الافتراض والتقدير - اي على تقدير ان التيس لو يملك وعياً لنزل من اعلى الجبل، احتجاجاً على نقض العهد- جاءت هذه الصورة الفنية متناسبة مع طبيعة الخطورة التي ينطوي عليها نقض العهد،... لكن، ما عدا ذلك لم يصغ الامام (عليه السلام) صوراً اخرى لعدم استدعاء الموقف لمثل هذه الصور... ومهما يكن، فأن الرسائل عند الامام (عليه السلام) طبعتها خصائص تتناسب مع فن الرسالة ومتطلباتها، بمثل ما لحظنا ذلك في (خطبه) التي طبعتها أيضاً خصائص تتناسب مع فن الخطبة بالنحو الذي لحظناه... والامر نفسه فيما يتصل بفن آخر عند الامام (عليه السلام)، الا وهو فن: ******* (٤) جمهرة الرسائل: ج ۲، ص ٦۳-٦٤.
source : irib