یشوب مصطلح التربیة الجنسیة غموض كبیر، لا سیما عندما یرید البعض إدخاله إلى المناھج التعلیمیة، وقد حصل مثل ھذا ولا یزال في الأوساط الغربیة، حیث نتج عنه صراع أخلاقي حول طبیعة منھج التربیة الجنسیة، وموضوعاته، ومن یدرسھا،وكیف یُعرض، والسن المناسبة لعرض موضوعاته.
وتنتھي ھذه الأزمة بكل صراعاتھا في المجتمع المسلم، الذي یعیش الإسلام عقیدة ومنھج حیاة، حین جعل الإسلام التربیة الجنسیة میداناً ضروریاً للعبادة، فربط بینه وبین أداء الشعائر التعبدیة، فباب الطھارة في كتب الفقھاء لا یعدو أن یكون باباً في التربیة الجنسیة - إذا صحَّ التعبیر - فالاستنجاء، والاستجمار، وما یتعلق بقضاء الحاجة، والحیض والنفاس، والغسل من الجنابة، والوضوء، وأبواب ستر العورة،والعلاقات الزوجیة، وآداب الاستئذان وغیرھا كثیر، كل ذلك لا یعدو موضوعاتٍ في التربیة الجنسیة في الإسلام.
ھذه الموضوعات بكل تفصیلاتھا قائمة في حیاتنا التعلیمیة، سواء في مدراسنا، أوجامعاتنا، أو حلقات العلم والمحاضرات في المساجد، أو المنتدیات الثقافیة.
ومن ھنا فإن إثارة ھذا الموضوع من ھذه الوجھة ھو تحصیل حاصل في حیاتنا الثقافیة، وإن كان لا بد فمزید من التوسع في أبواب الفقه والحدیث التي تتحدث عن ھذه الموضوعات الخاصة لیس أكثر من ذلك.
أما إذا كان المقصود من التربیة الجنسیة ھو عرض صراعات الثقافة الجنسیة عند الغرب، ونظریاتھم المنحرفة والمشوشة، وما یتعلق بھا من مفاھیم التحرر، وكشف العورات، وما أمر الله تعالى بستره من أحوال العلاقات الخاصة، إضافة إلى الصورالفاضحة الممنوعة، وغیرھا من القضایا التي كانت ولا تزال موضع صراع عند الغرب أنفسھم فھذا ممنوع شرعاً، ولا علاقة له بالتربیة الجنسیة في الإسلام.
وأما الحدیث عن المنھج والمعلم، فإن التربیة الجنسیة لا تتعلق بمنھج معین، أو معلم معین، بل ھي مواد شرعیة فقھیة وحدیثیة یقولھا المنھج المدرسي ككل في مواده، وأنشطتھا الثقافیة والاجتماعیة، وتتولاه وسائل الإعلام من خلال الدروس العلمیة الشرعیة، ویتولاه إمام المسجد وواعظ الحي، فالكل یشارك في ھذا البناء الثقافي الإسلامي، وأما ربط التربیة الجنسیة - بصورة خاصة - بمنھج محدد معین، تُجمع فیھا ھذه المسائل الجنسیة فھذا من شأنه إثارة موضوعات لا تُحمد عقباھا، وكذلك تدریس ھذه القضایا الجنسیة من خلال مادة الأحیاء ھو الآخر لا یصلح؛ فإن كثیراً من إناث الحیوانات تقتل ذكورھا بعد الممارسة الجنسیة، بل تقتل بعض الحشرات والحیوانات صغارھا، وھذا لا یناسب الطبیعة الإنسانیة، ولا یصلح مثالاً لھا.
یجد أن التربیة الجنسیة كانت جزءاً من واقع الأمة في حیاة الإنسان في ذلك الوقت، لا تختص بدرس معین، ولا وقت معین، یأتي الرجل یسأل في المسألة الجنسیة، وتأتي المرأة تسأل دون أن یمنعھا من ذلك حیاء أو خجل،یجیب، وإذا لم تكن ھذه ھي التربیة الجنسیة، فلا أدري ما ھي التربیة الجنسیة ؟
الحكمة من تركیب الشھوة الجنسیة
تسیطر الشھوات المختلفة - كنوع من الابتلاء - على سلوك الإنسان، وتتحكم في كثیر من تصرُّفاته بدوافعھا العنیفة المتغلغلة في عمق جذور كیانه البشري، حتى إنه ربما لا یتحرك، ولا ینبعث إلا على مرادھا، وفي سبیل إشباعھا كحال الحیوان، وھنا یأتي المستنیر بنور الشرع لیضبط مسارھا، ویُلْجم اندفاعھا: فترفع المُكلَّف بحمید مسلكھا إلى درجات الصالحین الأبرار، وإلا حطَّتْه بخبث مخرجھا إلى دركات السافلین الأشرار.
ویأتي دافع الشھوة الجنسیة كأقدم الدوافع الشھویة، وأشدھا مضاءً، وأكثرھا تمكُّناً في عمق الكیان الإنساني؛ لیصبَّ عُصارة الجھد وغایة المُراد في غریزة حب البقاء -كبرى غرائز الأحیاء - بشقَّیھا العظیمین العمیقین: حفظ الذات، وحفظ النوع، بمعنى: أن النشاط الجنسي بالنسبة للإنسان، ولسائر الأجناس الحیوانیة مسألة بقاء أو فناء، فإذا توقف، أو أعیق: فإنه یھدد النوع بالفناء؛ لذا ارتبطت الممارسة الجنسیة بالقوة والعنف كدرعین واقیین للنشاط الجنسي من التوقف "، فإذا قصَّر الإنسان في إشباعھا: انقاد إلیھا منبعثاً لھا لقوة ما تحمله من العنف في ذاتھا لبقاء النسل، واستمرار النوع، كحال الطعام لم یجعل المولى قوام الإنسان منه إلى اختیاره، وإنما جعله غریزة تلح بقوة إلى الإشباع لحفظ الذات، والغریزة - كما ھو معلوم – سلوك فطري غیرمتكلَّف، یصدر عن الشخص تلقائیاً بلا تعلُّم، بغرض الاستمرار وعدم الانقطاع، ومن ھنا یظھر أن الھدف الأسمى من الغریزة الجنسیة وكل ما یلحق بھا .
وبناء على ھذا التصور قام نظام التزاوج بین ذكر وأنثى على أساس التواصل الجنسي كضرورة إنسانیة ملحة لاقتناص الولد، ضمن حدود الأسرة العضویة باعتبارھا لبنة في بناء الكیان الاجتماعي الكبیر.
ومن ھنا یُلحظ أن ما تتبنَّاه بعض الفئات والأمم: من استقذار مبدأ تركیب الشھوة الجنسیة كدافع أصیل مُسْتحسن: یخالف مبدأ الوجود الإنساني كحقیقة تفتقر إلى الشھوة الباعثة؛ إذ لا یمكن أن تتم عملیة الإخصاب البشري بین زوجین بغیر دافع الشھوة الملحة، التي تقتحم بطابع عنْفھا، وقوة اندفاعھا، وما أضْفيَ علیھا من مشاعرالمتعة واللذة: حواجز النفس الإنسانیة، وحدود الذات الفردیة؛ لتبلغ أقصى مظاھرالتداخل الإنساني في أكمل صوره الممكنة بین شخصین، كما قال العلیم الخبیر: (ھُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَھُنَّ …)( البقرة: 187)
ولھذا جعلت الشریعة الخاتمةھذه العلاقة الشھوانیة الضروریة في غایة الطُّھر؛ حتى لا یقع في النفس استحقاردافعھا، حیث باركتھا بذكر الله تعالى، ورتَّبت علیھا الأجر والثواب، وجعلتھا سنةخیر الخلق، بل إن عصارتھا الشھویة المتدفِّقة من الزوجین، والتي ینعقد منھا الولد:
طاھرة من النجاسة على الراجح، ومُسْتثناةٌ من كل ما یخرج من السبیلین، وما كان لله أن یخلق الإنسان من عصارة نجسة، فعُلِمَ بالضرورة: أن الشھوة الجنسیة أصلھا لیس من حظِّ الشیطان في شيء، وأنھا من مستحبات الشریعة، ومطلوبات الدین.
وبناء على ما تقدم: فإن أيَّ صورة من صور التَّجنِّي على مبْعث الشھوة الجنسیة:
بقطع سببھا بالدواء، أو بتر أعضائھا بالاعتداء كالخصاء للذكر، أو استئصال الرحم عند الأنثى، كل ذلك یدخل ضمن المذمَّة الشرعیة، والمؤاخذة القانونیة، سواء كان ذلك على النفس، أو الآخرین – في أي مرحلة من مراحل العمر – مھما كانت الحجج والمبررات؛ بل إن مبدأ الزھادة في الدنیا وملذاتھا، مع كونه من مستحبات الشریعة .
لا یستوعب في نطاقه الشھوة الجنسیة، ولا تدخل الزھادة فیھا ضمن محبوباته.
تعدیل المفاھیم الجنسیة المنحرفة
إن وقوع حالات من الانحراف الجنسي في سلوك بعض أفراد المجتمع المسلم لا یعدُّ أمراً مستغرباً حتى في أطھر وأرقى المجتمعات الإنسانیة، فما زال كثیر من الناس على مر العصور لا سیما من فئة الشباب یقعون في أخطاء سلوكیة منحرفة، مُنساقین إلیھا بدافع الشھوة الملح، مع اعتقادھم الراسخ، ویقینھم الكامل بأنھم أتوا حراماً، وخطأ یُوجب علیھم التوبة، ویُلحُّ علیھم بوخز الضمیر، وإنما تكمن المعضلة، وتعْظُم المشكلة عندما یصبح الانحراف الجنسي قضیة فكریة، ومنطقاً عقلیاً، تدعمه الحجة والبرھان، ولیس مجرَّد سلوك خاطئ یوشك أن یُقْلع عنھ صاحبه، ویتوب من تعاطیه.
إن أخطر ما مُنیت به الإنسانیة في القرن العشرین المیلادي: أفكار، وآراء الطبیب الیھودي " سیجمند فروید "، وما صاحبھا من مظاھر تحریر المرأة، وتوفیر عقاقیرمنع الحمل، والتطور التقني الحدیث بعد الحربین العالمیتین الأولى والثانیة، حیث انتقل عن طریقه كثیر من السلوكیات الجنسیة المنحرفة من كونھا شذوذات فردیة ضالة إلى ممارسات جماعیة منظمة، ومن كونھا انحرافات سلوكیة خاطئة إلى كونھا مبادئ فكریة ومذھبیة، حتى إن ضخامة تأثیره في القضایا النفسیة والجنسیة لا یبعد كثیراً عن حجم وضخامة تأثیر" أرسطو" في قضایا الفلسفة، حتى لا یكاد یخلو من ذكر آرائه كتاب نفسي أو جنسي، فقد خرج على الإنسانیة المعاصرة – مؤیَّداً بقوى الشر – بتفسیرات جنسیة محضة، محورھا البحث عن اللذة في مقابل معْضلة الكبت،حلل من خلالھا سلوك الإنسان العام عبر مراحل عمره المختلفة، فأقامھا على عقد طفولیة أسْطوریة، من نَشَاذ العقل الإنساني، مما تمجُّه العقول السویة، والفطرالسلیمة، فلاقى بسبب جراءته من عنت معارضیه، وألیم نقدھم، بقدر ما لاقى من دعم مؤیدیه، وتشجیعھم لآرائه.
وعلى الرغم من اعتقاد بعضھم بأفول أفكاره، وضعف تأثیرھا في میادین علم النفس المعاصر، فإن بعض الدراسات المیدانیة تشیر إلى أن " فروید" باعتباره شخصیة مؤثرة في علم النفس: لا یزال اسمه عالقاً في أذھان الناس، ویُعتبر في نظرھم الشخصیة الأولى في قائمة المختصین النفسیین.
إن من الضروري – ضمن الحیاة الإسلامیة المعاصرة – حمایة الناشئة من الضلال الجنسي، من خلال تعدیل المفاھیم الشاذة في أذھانھم، وإحلال المفاھیم الصحیحة محلھا؛ لتبقى القضیة الجنسیة ضمن إطارھا المحدود، تُعطي عطاءھا الإیجابي باعتبارھا جانباً من جوانب شخصیة الإنسان، دون أن تتعدَّى حدودھا لتصبح محور السلوك الإنساني بأبعاده المختلفة.
مشكلة الشباب العاطفیة
یشكو المربون من الآباء والأمھات والمعلمین والمعلمات من الھیجان العاطفي عندالشباب من الجنسین، ولا سیما عند الذكور، فما أن یدخل أحدھم سن البلوغ حتى یتحول إلى شخص آخر، قد امتلأ بالعنف والإثارة والغلیان، وكثیراً ما یصاحب ھذه المشاعر المتحركة مواقف من التمرد الأسري، والخروج عن الأنظمة المدرسیة، ومخالفة الكبار من المربین.
إن حجماً ضخماً من المیول العاطفیة تنبعث مع سن البلوغ عند الجنسین، تحمل معھا شحنات قویة من الانفعالات، ممزوجة بقدر كبیر من الإثارة الشھوانیة التي لا تجد لھا متنفَّساً طبیعیاً مشروعاً تتصرّف فیھ، وقد كان من المفروض أن تجد ھذه الشحنات العاطفیة موقعھا الطبیعي في الجنس الآخر عن طریق الزواج المشروع، فیستھلك البالغ والبالغة شحناتھما العاطفیة فیما بینھما دون كبتٍ أو حرمان، إلا أن الظروف الاقتصادیة والاجتماعیة، وطبیعة النظام التعلیمي حالت دون تحقیق حاجات البالغین من الشباب والشابات، لیعیشوا فترات من الحرمان العاطفي تطول إلى أكثرمن عشر سنوات، مما ینعكس على نفوسھم بمشاعر القسوة والألم والیأس، فیعبرون عن مشاعرھم المحبطة بصور من الانفعالات الحادة والتمرد، وربما الإھمال وعدم المبالاة.
إن الشاب یمرُّ بنوعین من البلوغ:
الأول: البلوغ الجنسي الذي یدخل به عالم التكلیف، ویصبح به قادراً على التناسل، وھذا عادة ما یكون في الخامسة عشرة عند الجنسین.
وأما البلوغ الثاني: فھو البلوغ الاقتصادي الذي یدخل به الشّاب عالم الكبار، ویصبح قادراً على القیام بنفسه، والإنفاق على أسرته الخاصة، وھذا النوع من البلوغ خاص بالذكور لأنھم المكلفون شرعاً بالإنفاق.
والأصل الطبیعي في المجتمعات السابقة والریفیة المعاصرة أن الشاب ما أن یبلغ الحلم إلا وقد تیسَّر له الزواج، فالشاب في المجتمعات البدائیة والریفیة مُنتج، قادرعلى الكسب من طفولته، قد حصل على جمیع المھارات المتاحة له في بیئته، والتي
تؤھله للكسب، والقیام بنفسه، والإنفاق على أسرته، فیخرج الشاب الریفي من عالم الطفولة إلى عالم الكبار دون المعاناة التي یحكیھا الباحثون النفسیون عن المراھقة وأزماتھا، مما یعانیھ أبناء المدن الحضاریة ویقاسونه من متطلبات الانتقال من عالم الطفولة إلى عالم الكبار، حیث یحتاجون إلى عشر سنوات على الأقل بعد البلوغ الجنسي لیتأھلوا لعالم الكبار.
وھنا تكمن الأزمة في البعد الزمني الفاصل بین نوعي البلوغ، مما أفرز مرحلةجدیدة في عمر الشباب، ما بین الخامسة عشرة إلى الخامسة والعشرین تقریباً، لا یعرف الشاب فیھا ھویتھ، فلا ھو طفل صغیر، ولا ھو شخص كبیر، یحمل في نفسه أشواق وآمال الكبار، إلا أنه لا یزال محتاجاً إلى رعایة أسرته في كل شؤونه الخاصة والعامة، لا یستطیع الاعتماد على نفسه، فلم یعنِ له البلوغ الجنسي شیئاً سوى أنه مكلف شرعاً، أما واقعه فھو لا یعدو أن یكون طفلاً كبیراً.
إن ھذه الأزمة المعاصرة التي أفرزتھا طبیعة الحیاة الحضاریة لا بد من وقفة جادة معھا، یشترك فیھا المجتمع بكل مؤسساته لیعمل بجد على قصر المسافة الزمنیة بین البلوغین الجنسي والاقتصادي، والسعي في تأھیل الشباب للقیام بأنفسھم، فھم قد تأھلوا شرعاً بالتكالیف الدینیة الكبرى، فلن یضیرھم أن یقوموا بالتكالیف الاقتصادیة والاجتماعیة حین یتعاون المجتمع ویراعي حاجاتھم، ویقیم مؤسساته لا سیما
التعلیمیة لتوافق حاجات الشباب، وما لم یسع المجتمع لحل ھذه الأزمة بصورة جذریة فإن مزیداً من المعاناة والاضطراب سیكون نصیبه، وقد لاحظ الباحثون أن غالب أزمات الشباب وانحرافاتھم تحصل في الفترة من الخامسة عشرة إلى الخامسة والعشرین، وھي الفترة التي تفصل بین نوعي البلوغ الجنسي والاقتصادي.
دور الحدود الشرعیة في ضبط السلوك الجنسي
إن من أھم واجبات النظام الاجتماعي: ضبط العلاقات الجنسیة؛ لأن الغریزة بشدتھا وإلحاحھا تھدد في كل لحظة بانحرافھا؛ لكونھا تحمل في طبیعتھا مبدأ زیغھا وضلالھا، بما تحمله من الاندفاع والعنف والقوة، والطبیعة الإنسانیة في العموم تأبى في سلوكھا مراتب الكمال، خاصة عند وفْرة الشباب، واكْتمال الشھوة، وضعف لیعجب من الشاب لیست له صبوة "؛ لأنه في الوازع الدیني، وإنما یخضع لضابط القوة والسلطة التأدیبیة الرادعة. ومن ھنا جاء دور العقوبات الشرعیة والتأدیبات التعزیریة لتُعزِّزبقوتھا توجه المجتمع الأخلاقي، وتُساعد الأفراد – بصورة مباشرة وغیر مباشرة –على ضبط غرائزھم، وإحْكام نوازعھم، حتى یبقى نشاط الغریزة الجنسیة في مساره المشروع، یُحقق الھدف من مبدأ تركیب الشھوة.
وقد عاشت الأمة الإسلامیة في رحمة شریعتھا دھراً من الزمن لا تعرف الفواحش الجنسیة ومعاناتھا الصحیة إلا بالقدر الطبیعي الذي لا تنفك عنھ أطھر المجتمعات الإسلامیة، وذلك عندما كان أفراد المجتمع یعیشون بالفعل الآثار التربویة، والمنافع الحیویة التي تُحییھا رھبة الحدود الشرعیة في نفوسھم، فالإنسان "إذا نظر إلى اللذات، وإلى ما یترتب علیھا من الحدود والعقوبات العاجلة والآجلة: نفر منھا بطبعه
لرجحان مفاسدھا"، بل إن المجتمع الأوروبي رغم تحریف شریعته، وضلال منھجه .
انتفع – إلى حد كبیر – بتطبیق العقوبات القانونیة في ضبط سلوك الأفراد وإحكام شھواتھم، وما تجرَّأ الناس عندھم على الفواحش، وانتھاك الأعراض بھذه الصورة المفزعة، والعود من جدید إلى الجریمة بعد استیفاء العقوبة إلا بعد الثورة الفرنسیة حین فُرِّغ القانون من أسباب قوته، وسطوة سلطانه، وعلى ضوء ھذه الآثار الإیجابیة حدٌ یُعمل به في الأرض .
وقد ابتُلیت الأمة الإسلامیة في تاریخھا الحدیث – منذ زمن الاستعمار – بما ابتُلیت به أوروبا قبل قرنین من الخلخلة الاجتماعیة والفكریة؛ حیث استُبدلت القوانین الوضعیة بالشریعة الإسلامیة في غالب الدول، وانحسر تطبیق الشریعة إلا في جوانب من أحكام الأسرة والأحوال الشخصیة، فتبدَّل بالتالي كثیر من الثوابت الأخلاقیة، فوجد المنافقون – في ھذا الوضع الاجتماعي المختل – فُرصة لنشر الفواحش في بلاد المسلمین، والولوغ في الأعراض المحرمة، تحت حمایة القانون، بعیداً عن سطوة الشریعة وضوابطھا، حتى إن الدعارة المنظمة كانت ولا تزال في بعض البلاد الإسلامیة موضع اھتمام أجھزة الدولة وإشرافھا.
وإن الناظر في الشریعة الإسلامیة یجد اعتناءھا بالمنھیات أكبر من اعتنائھا بالمأمورات؛فإن المشقة تسمح بترك بعض الواجبات كالقیام في الصلاة المفروضة، أو الصیام في رمضان ونحو ذلك، في حین لا تسامح الشریعة في الإقدام على المعاصي، ولا سیما الكبائر حتى للمكره، مھما عظمت علیه المشقة، كالمكره على الزنى، أو القتل، “
وھذا یدل على أن المسامحة في ترك الواجب أوسع من المسامحة في فعل المحرم، وإن بلغ العذر نھایته "، والواقع من حال ھذه القوانین عدم اعتنائھا بما اعتنت به الشریعة الإسلامیة، بل تخالفھا في وجھتھا مخالفة كاملة.
ومع أخذ دول العالم بما فیھا غالب الدول الإسلامیة بھذه القوانین، والعمل بھا فإن الواقع الأخلاقي یشھد بأنھا لم تحمِ عرضاً، ولم تؤدب فاسقاً، ولم تردع مجرماً، ولم تمنع فاحشة، بل ھي في شأن الزنا – بصورة خاصة – على العكس من ذلك، وكأن بقیامھا على مبدأ التراضي بین الطرفین تُعلِّم الرجال، وتقول لھم: " احتالوا على رضا النساء، فإن رضین بالجریمة فلا جریمة، فكأنھا تعلمھم أن براعة الرجل الفاسق إنما ھي في الحیلة على المرأة، وإیقاظ الفطرة في نفسھا، فینصرف كل فاجر إلى إبداع ھذه الأسالیب التي تطلق تلك الفطرة من حیائھا، وتخرجھا من عفتھا، تطبیقاً للقانون "، فإذا عُلم: أن الإناث – كما ھو حالھا في كل أجناس الحیوان – " أقلُّ جلداً،
وأسھل انخداعاً، وأسرع غروراً "؛ فإن الاحتیال علیھن في مثل ھذه المسائل الغرائزیة أمر ممكن؛ بل ھو من أیسر ما یكون على الفاسق الماكر مع المغررة الساذجة.
إن مما ینبغي أن یُعرف: أن قضیة العقوبات الجنسیة عند الغربیین قضیة صراع نفسي بین انفلات إنسان أوروبا الحدیث من جھة، وبین تعسُّف نظام الكنیسة التاریخي من جھة أخرى، فبقدر إفراط الكنیسة القدیمة في التحریمات والعقوبات، كان في المقابل تفریط المشرِّع الحدیث في الإباحیات والتأدیبات، فھو صراع أوروبي بالدرجة الأولى، لا یعرفه المسلمون عبر تاریخھم الطویل؛ لأنھم إنما یستمدون
شرعتھم من المصدر المعصوم، الذي لا یجري علیه الخطأ، فما أمرھم بشيء، أونھاھم عنه إلا وفیه بالضرورة مصلحة عاجلة أو آجلة.
وعلى الرغم من تفریط القوانین الحدیثة في الأخذ بالشریعة في غالب الدول الإسلامیة فقد بقي للجانب الروحي عند المسلمین دوره في كفِّھم عن كثیر من الموبقات والانحرافات الأخلاقیة والسلوكیة؛ ففي الوقت الذي تشیر فیه التقاریرالعالمیة إلى أفریقیا باعتبارھا تحتل المرتبة الثانیة في انتشار مرض الإیدز: تأتي الدول العربیة في شمال أفریقیا ضمن أقل الدول انتشاراً لھذا المرض مقارنة بباقي دول أفریقیا في الجملة، ولیس ھذا إلا بفضل الدین الإسلامي، الذي یحرم الفواحش والانحرافات الجنسیة، فلو تعاضد القانون مع ھذه الوجھة الروحیة الإسلامیة لكان الأثر على سلوك الناس أبلغ وأفضل. إن نظام الحدود في الشریعة الإسلامیة یعتبر كل اتصال جنسي – أیاً كانت صفته أومبرراته – خارج نطاق الزواج الصحیح، أو ملك الیمین جریمة من أعظم الجرائم، یستحق صاحبھا العقوبة المقررة في حقه بغض النظر عن كونه ذكراً أو أنثى، حراً أو مملوكاً، متزوجاً أو عزباً، مسلماً أو كافراً، مادام مختاراً بالغاً عاقلاً، عالماً بالتحریم، فإذا ثبتت الجریمة لدى الحاكم المسلم بالإقرار، أو الحَبَل، أو الشھادة ،حرمت الشفاعة والرأفة حینئذ، ووجب الحدُّ، ردعاً للجاني عن العود، وتطھیراً للمسلم العاصي من دنس الخطیئة، وزجراً لغیره عن مثلھا.
ومع كل ھذا فإن إقامة الحدود في الشریعة الإسلامیة لیست ھدفاً في حدِّ ذاتھا، بل ھي وسیلة للإصلاح فإن حصل مراد الشارع الحكیم من الصلاح والاستقامة بالتوبة والإقلاع، وَجَبَ لمثل ھذا السِّتْر والعفو؛ إذ لیس من طبع الشارع تقصُّد التشھیر والإیلام والنكایة، بقدر قصده الصلاح والإصلاح، ومع ھذا فإن الشریعة الإسلامیة بكلیاتھا وجزئیاتھا یُكمِّل ویُعضِّد بعضھا بعضاً، فلا تعمل عملھا التربوي المثمر في ظل التناقض الاجتماعي، والتخُّیر التطبیقي، وإنما تعمل بإیجابیة كوحدة متكاملة مترابطة تربي الناس على العقیدة والأخلاق، وتحفظھم من أسباب الفتنة والضیاع، وترتفع بھم إلى مستوى كرامة الإنسان المؤمن، فمن قعدت به ھمَّتُھه – بعد ذلك – عن أدنى مراتب الكمال الواجب: كان العقاب الزاجر، والتأدیب الرادع – في غیر شطط أو تجنٍّ – وسیلة المجتمع لإصلاح حاله، وضبط سلوكه، وإعادته مستقیماً إلى ركْب الجماعة من جدید.
إن من واجب المجتمعات الإنسانیة المعاصرة أن تنظر لنفسھا أمام ھذه الثورة الجنسیة العارمة، التي أخذت تتخطى جمیع الحواجز الخلقیة، وتتعدى كل القوانین الوضعیة، وتتحدَّى أعنف الأمراض السرِّیة لتصل في نھایة الأمر إلى أن یكون الجنس ھو الھم الأكبر المسیطر على حیاة الإنسان، فیمارسه بلا ضوابط خلقیة، ولا التزامات اجتماعیة؛ بحیث تفقد العلاقات الجنسیة جوانبھا الأساسیة الضروریة النفسیة، والإبداعیة، والروحیة، والعقلیة، التي تشترك مع الأعصاب والھرمونات في العملیة الجنسیة، لتتحول إلى أداء بیولوجي خالص، یشبه – إلى حد كبیر – سلوك الحیوان الجنسي، فینطلق إنسان العصر المسعور لیفرغ طاقته الجنسیة بأي صورة من الصور، وفي أي موضع وزمان، كما یفرِّغ مثانته من البول، وھذا الوضع إیذان بالھلاك العام للأمم والمجتمعات، والدمار الشامل لمنجزات الإنسان وحضارت
المصدر :
راسخون
source : rasekhoon