الانسان مدني بالطبع، لا يستغني عن افراد نوعه، والانس بهم والتعاون معهم على انجاز مهام الحياة، وكسب وسائل العيش.
وحيث كان افراد البشر متفاوتين في طاقاتهم وكفاءاتهم الجسمية والفكرية فيهم القوي والضعيف والذكي والغبي، والصالح والفاسد، وذلك ما يثير فيهم نوازع الاثرة والانانية والتنافس البغيض على المنافع والمصالح، مما يسبب بلبلة المجتمع ، وهدر حقوقه وكرامته.
لذلك كان لابد للامم من سلطة راعية ضابطة، ترعى شؤونهم وتحمي حقوقهم، وتشيع الامن والعدل والرخاء فيهم.
ومن هنا نشأت الحكومات وتطورت عبر العصور من صورها البدائية الاولى حتى بلغت طورها الحضاري الراهن. وكان للحكام أثر بليغ في حياة الأمم والشعوب وحالاتها رقياً أو تخلفاً، سعادة أو شقاءً، تبعاً لكفاءة الحكام وخصائصهم الكريمة أو الذميمة.
فالحاكم المثالي المخلص لامته هو: الذي يسوسها بالرفق والعدل والمساواة، ويحرص على اسعادها ورفع قيمتها المادية والمعنوية.
والحاكم المستبد الجائر هو: الذي يستعبد الأمة ويسترقها لاهوائه ومآربه ويعمد على اذلالها وتخلفها. وقد اوضحت آثار أهل البيت عليهم السلام أهمية الحكام وآثارهم الحسنة أو السيئة في حياة الأمة، فأثنت على العادلين المخلصين منهم، ونددت بالجائرين وانذرتهم بسوء المغبة والمصير.
فعن الصادق عن أبيه عليهما السلام قال: «قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: صنفان من امتي اذا صلحا صلحت امتي، وإذا فسدا فسدت. قيل يا رسول اللّه ومن هما؟ قال: الفقهاء والامراء»
وعن الصادق عن آبائه عليهم السلام عن النبي صلى اللّه عليه وآله «قال: تكلم النار يوم القيامة ثلاثة: أميراً وقارياً وذا ثروة من المال. فتقول للامير: يا من وهب اللّه له سلطاناً فلم يعدل، فتزدرده كما يزدرد الطير حب السمسم.
وتقول للقارئ: يامن تزين للناس وبارز اللّه بالمعاصي فتزدرده.وتقول للغني: يامن وهب اللّه له دنيا كثيرة واسعة فيضاً، وسأله الحقير اليسير فرضاً فأبى الا بخلاً فتزدرده»(1)
ولم يكتف أهل البيت عليهم السلام بالاعراب عن سخطهم على الظلم والظالمين ووعيدهم حتي اعتبروا انصارهم والضالعين في ركابهم شركاء معهم في الاثم والعقاب.
فعن الصادق عن أبيه عليهما السلام قال: «قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: اذا كان يوم القيامة نادى مناد. اين الظلمة واعوانهم، ومن لاق لهم دواة، أو ربط لهم كيساً، أو مد لهم مدة قلم؟ فاحشروهم معهم»(2)
والطغاة مهما تجبروا وعتوا على الناس، فانهم لا محالة مؤاخذون بما يستحقونه من عقاب عاجل أو آجل، فالمكر السيئ لا يحيق الا بأهله ولعنة التاريخ تلاحق الطواغيت وتمطرهم بوابل الذم واللعن وتنذرهم بسوء المغبّة والمصير، وفي التاريخ شواهد جمّة على ذلك.
منها ما حكاه الرواة عن ابن الزيات: إنه كان قد اتخذ في ايام وزارته تنوراً من حديد، واطراف مساميره محدودة الى داخل وهي قائمة مثل رؤوس المسال، وكان يعذّب فيه المصادرين وارباب الدواوين المطلوبين بالاموال، فكيف ما انقلب واحد منهم او تحرك من حرارة العقوبة تدخل المسامير في جسمه، فيجدون لذلك اشدّ الالم ولم يسبقه احد الى هذه المعاقبة.
فلما تولى المتوكل الخلافة اعتقل ابن الزيات، وامر بادخاله التنور وقيده بخمسة عشر رطلاً من الحديد، فأقام في التنوراربعين يوماً ثم مات(3)
ومنها: الحجاج بن يوسف الثقفي.فانه تأمّر عشرين سنة، و أحصي من قتله صبراً سوى من قُتل في عساكره وحروبه فوجد - مائة الف وعشرين الفاً - وفي حبسه خمسون الف رجل، وثلاثون الف إمرأة، منهنّ ستة عشر الفاً مجردة، وكان يحبس النساء والرجال في موضع واحد، ولم يكن للحبس ستر يستر الناس من الشمس في الصيف، ولا من المطر والبرد في الشتاء.
ثم لاقى جزاء طغيانه واجرامه خزياً ولعناً وعذاباً، وكانت عاقبة امره انه ابتلي بالآكلة في جوفه، وسلط اللّه عز وجل عليه الزمهرير،
فكانت الكوانين المتوقدة بالنار تجعل حوله، وتُدنى منه حتى تحرق جلده وهو لا يحسّ بها حتى هلك عليه لعائن اللّه.
حقوق الرعية على الحاكم:
والحاكم بصفته قائد الامة وحارسها الامين مسؤول عن رعايتها وصيانة حقوقها، وضمان امنها ورخائها، ودرء الاخطار والشرور عنها. واليك اهم تلك الحقوق:
أ - العدل: وهو أقدس واجبات الحكام، واجلّ فضائلهم، وأخلد مآثرهم، فهو اساس المُلك، وقوام حياة الرعية، ومصدر سعادتها وسلامها. وكثيراً ما يوجب تمرد الناس على اللّه تعالى، وتنكبهم عن طاعته ومنهاجه تسلط الطغاة عليهم واضطهادهم بألوان الظلامات كما شهدت بذلك احاديث اهل البيت عليهم السلام:
فعن الصادق عليه السلام عن آبائه عن علي بن ابي طالب عليه السلام قال: «قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: قال اللّه جل جلاله: أنا اللّه لا اله الا انا خلقت الملوك وقلوبهم بيدي، فأيما قوم اطاعوني جعلت قلوب الملوك عليهم رحمة، وأيما قوم عصوني جعلت قلوب الملوك عليهم سخطة، ألا لا تشغلوا انفسكم بسب الملوك، توبوا اليّ اعطف قلوبهم عليكم»(4)
وقد بحثت في القسم الأول من هذا الكتاب موضوع العدل وفضائله وانواعه فراجعه هناكب - الصلاح: ينزع غالب الناس الى تقليد الحكام والعظماء تشبهاً بهم ومحاكاة لهم، ورغبة في جاههم ومكانتهم.
ولهذا وجب اتصاف الحاكم بالصلاح وحسن الخلق وجمال السيرة والسلوك ليكون قدوة صالحة ونموذجاً رفيعاً تستلهمه الرعية وتسير على هديه ومنهاجه.
وانحراف الحاكم وسوء اخلاقه وافعاله يدفع غالب الرعية الى الانحراف وزجها في متاهات الغواية والضلال، فيعجز الحاكم آنذاك عن ضبطها وتقويمها
ونفسك فاحفظها من الغي والردى*** فمتى تغواها تغوي الذي بك يقتدي
وفي التأريخ شواهد جمّة على تأثر الشعوب بحكامها، وانطباعها باخلاقهم وسجاياهم حميدة كانت أو ذميمة كما قيل: - الناس على دين ملوكهم.
ب - الرفق:
ويجدر بالحاكم ان يسوس الرعية بالرفق وحسن الرعاية، ويتفادى سياسة العنف والارهاب، فليس شيء اضرّ بسمعة الحاكم وزعزعة كيانه من الاستبداد والطغيان.
ولبس شيء اضرّ بالرعية، وادعى الى اذلالها وتخلفها من أن تساس بالقسوة والاضطهاد.
فعن ابي جعفر عليه السلام قال: «قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله إنّ الرفق لم يوضع على شيء الا زانه، ولا نزع من شيء الا شانه»(5)
وقال الصادق عليه السلام: «من كان رفيقاً في امره نال ما يريد من الناس»(6)
وقال أمير المؤمنين عليه السلام في عهده الى مالك الاشتر: «وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم واللطف بهم، ولاتكوننّ سبعاً ضارياً تغتنم اكلهم، فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين، واما نظيرك في الخلق، يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتي على ايديهم في العمد والخطأ، فاعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب وترضى ان يعطيك اللّه من عفوه وصفحه، فإنك فوقهم، ووالي الأمر عليك فوقك، واللّه فوق من ولاك، وقد استكفاك امرهم وابتلاك بهم».وبديهي أن الرفق لا يجمل وقعه ولا يحمد صنيعه الا مع النبلاء الأخيار، أما الاشرار العابثون بأمن المجتمع وحرماته فانهم لا يستحقون الرفق ولا يليق بهم، اذ لا تجديهم الا القسوة الزاجرة والصرامة الرادعة عن غيّهم واجرامهم.
اذا انت أكرمت الكريم ملكته*** وإن انت أكرمت اللئيم تمردا
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا*** مضر كوضع السيف في موضع الندى
مظاهر الرفق:
وللرفق صور رائعة ومظاهر خلاّبة، تتجلى في أقوال الحاكم وأفعاله.
أ - فعليه ان يكون عف اللسان، مهذب القول، مجانباً للبذاء.
ب - وان يكون عطوفاً على الرعية يتحسس بآلامها ومآسيها. فاذا داهمها خطر، وحاق بها بلاء سارع لنجدتها ومواساتها والتخفيف من بؤسها وعنائها.
ج - وان يتفادى ارهاق الرعية بالأتاوات الباهضة، والضرائب الفادحة الباعثة على شقائها وعنتها.
آثار الرفق:
للرفق خصائص وآثار طيبة تفيء على الحاكم والمحكوم بالخير والوئام. فهو مدعاة حب الرعية للراعي واخلاصها له وتفانيها في سبيله.
كما هو عاصم للرعية عن الملق والنفاق الناجمين من رهبة الحاكم المتجبر والخوف من بطشة وفتكه. وقد مدح اللّه رسوله الاعظم بالرفق والعطف فقال تعالى:
«فبما رحمة من اللّه لنت لهم، ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك» (7)
د - اختبار الاعوان:
لا يستطيع الحاكم مهما أوتي من قدرة وكفاءة ان يستقل بسياسة الرعية، ويضطلع بمهام الحكم وادارة جهازه، فهو لا يستغني عن أعوان يؤازرونه على تحقيق أهدافه وانجاز أعماله.
ولهؤلاء الأعوان اثر كبير وخطير في توجيه الحاكم وتكييف اخلاقه وآرائه حسبما تتصف به من خلال وميول رفيعة أو وضيعة.لذلك كان على الحاكم ان يختار بطانته واعوانه من ذوي الكفاءة والنزاهة والصلاح، لتمحضه النصيحة، وتؤازره على اسعاد الرعية وتحقيق آمالها وامانيها، دونما نزوع الى إثرة او محاباة تضر بصالح الرعية وتجحف بحقوقها.
هـ - محاسبة العمال والموظفين: كثيراً ما يزهو الموظف بمنصبه ونفوذه، ويستحوذ عليه الغرور فيتحدى الناس، ويتعالى عليهم، ويمتهن كرامتهم ويهمل اعمالهم ولا ينجزها الا بدافع من الطمع او المحاباة، الخوف او الرجاء مما يعرقل مهماتهم ويستثير سخطهم وحنقهم على جهاز الحكم. لهذا يجب على الحاكم مراقبة الموظفين ومحاسبتهم على اعمالهم ومكافأة المحسن منهم على احسانه، ومعاقبة المسيء على اساءته، ليؤدي كل فرد منهم واجبة نحو المجتمع، وليستشعر الناس مفاهيم العزة والكرامة والرخاء.
وبذلك تتسق شؤون الرعية، ويسودها العدل، وتنجو من مآسي الملق والتزلف الى الموظفين بالرشا والوان الشفاعات.
و - إسعاد الرعية:
والحاكم بوصفه قائد الأمة وراعيها الامين، فهو مسؤول عن رعايتها والعناية بها، والحرص على اسعادها ورقيّها مادياً وادبياً. وذلك: بتفقد شؤون الرعية، ورعاية مصالحها وضمان حقوقها واشاعة الامن والعدل والرخاء فيها، وتصعيد مستوياتها العلمية والصحية والاجتماعية والاخلاقية والعمرانية: بنشر العلم وتحسين طرق الوقاية والعلاج وتهذيب الاخلاق والاهتمام بالتنمية الصناعية والزراعية والتجارية، بالاساليب العلمية الحديثة واستغلال الموارد الطبيعية، وتشجيع المواهب والطاقات على الابداع في تلك المجالات على افضل وجه ممكن.
وبذلك تتوطد دعائم الملك، وتعلو امجاد الأمم، وتتوثق اواصر الودّ والاخلاص بين الحاكم والمحكوم، ويتبوأ الحاكم عرش القلوب. ويحظى بخلود الذكر وطيب الثناء.
وقد عرضت في حقوق المجتمع الاسلامي طرفاً من حقوق افراده تندرج في حقوق الرعية على الحاكم، باعتباره المسؤول الأول عن رعايتها وصيانة حقوقها، وضمان امنها ورخائها.
المصادر :
1- البحار. كتاب العشرة. ص 209 عن الخصال
2- البحار. كتاب العشرة ص 218 عن ثواب الاعمال للصدوق.
3- سفينة البحار ج 1 ص 574.
4- البحار. كتاب العشرة ص 210 عن امالي الشيخ الصدوق.
5- الوافي ج 3 ص 86 عن الكافي.
6- الوافي ج 3 ص 87 عن الكافي.
7- آل عمران: 159
source : rasekhoon