عمل الإمام (عليه السلام) بوصية جده وأبيه وحث المسلمين على التفقه في الدين، ومعرفة الأحكام الشرعية فقال لهم:
(تفقّهوا في دين الله، فإن الفقه مفتاح البصيرة، وتمام العبادة، والسبب إلى المنازل الرفيعة والرتب الجليلة في الدين والدنيا، وفضل الفقيه على العابد كفضل الشمس على الكواكب، ومن لم يتفقه في دينه لم يرض الله له عملاً..).
سأله بعض أصحابه عما يحتاج إليه من الأحكام الشرعية قائلاً: (هل يسع الناس ترك المسألة عما يحتاجون إليه؟
فقال (عليه السلام): (إن الناس لا يسعهم أن يتركوا ما يحتاجون إليه في أمور دينهم). وهذا بلا ريب أمر طبيعي وواقعي فالعلماء واجبهم الشرعي إرشاد الناس ونصحهم ليتفهموا أمور دينهم لأن المسلم الذي يموت ولم يتخذ مرجعاً دينياً يهتدي برسالته يموت موتة جاهلية. لذلك كان على المسلمين مجالسة العلماء.
مجالسة العلماء
من هنا وجدنا الإمام (عليه السلام) يأمر أصحابه بمجالسة العلماء الأفاضل للاستفادة من علومهم وآدابهم والاقتداء بسلوكهم فقال (عليه السلام): (محادثة العالم على الموابل خير من محادثة الجاهل على الزرابي)(1).
وبعد أن أشاد بفضل العلماء الذين هم أعلام الدين وورثة الأنبياء في حمل كتاب الله، عاد فحذر أصحابه منهم إذا استهوتهم الدنيا، واتبعوا السلطان، فإذا فعلوا ذلك فالحذر منهم واجب على الدين.
هذا عن واجبات العالم والآن ماذا عن واجبات المتعلم.
واجبات المسلم المتعلم
1ـ العمل: أعلن الإسلام دعوته الصريحة على العمل الحر والكسب الشريف. قال تعالى: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(2) وهذا هو التوازن الذي يتسم به المنهج الإسلامي، التوازن السليم بين مقتضيات الحياة في الأرض، من عمل وكد وكسب ونشاط. وبين عزلة الروح فترة عن هذا الجو وانقطاع القلب وتجرده للذكر.
وهي ضرورة لحياة القلب الذي لا يصلح بدونها للاتصال والتلقي والنهوض. بتكاليف الأمانة الكبرى. وذكر الله سبحانه وتعالى لابدّ منه أثناء ابتغاء المعاش، والشعور بالله فيه هو الذي يحول نشاط المعاش إلى عبادة. ولكنه ـ مع هذا ـ لابدّ من فترة للذكر الخالص، والانقطاع الكامل، والتجرد المحض كما توحي الآيتان المباركتان.
إن الإسلام دعا الناس كافة إلى العمل، وحثهم عليه ليكونوا ايجابيين في حياتهم يتمتعون بالجد والنشاط ليفيدوا ويستفيدوا، وكره لهم الحياة السلبية والوقوف عند عمل لا يؤدي إلا إلى عرقلة الاقتصاد وشيوع الفقر والحاجة في البلاد.
وكتب الحديث استفاضت بما أثر عن النبي (صلّى الله عليه وآله) الأكرم وعن أوصيائه المعصومين، والحث على العمل وإضفاء الصفات الكريمة عليه فقالوا: العمل شرف، والعمل جهاد والعمل تضحية والعمل عبادة.
وأهل البيت (عليهم السلام) كانوا يزاولون العمل بأنفسهم ليقتدي بهم سائر المسلمين. فالإمام جعفر الصادق (عليه السلام) كان يعمل في بعض بساتينه حدث أبو عمر الشيباني قال: رأيت أبا عبد الله (عليه السلام) وبيده مسحاة وعليه إزار غليظ والعرق يتصبب منه، فقلت له:
(جعلت فداك أعطني أكفك) فقال (عليه السلام): (إني أحب أن يتأذى الرجل بحر الشمس في طلب المعيشة)(3).
وقد سار الإمام الكاظم مسيرة أبيه (عليه السلام) فكان يعمل بنفسه لإعاشة عائلته، روى الحسن بن علي بن أبي حمزة قال: رأيت أبا الحسن موسى بن جعفر يعمل في ارض له، وقداستنقعت قدماه في العرق فقلت له: (جعلت فداك، أين الرجال؟) فقال (عليه السلام):
(عمل باليد من هو خير مني ومن أبي في أرضه، فبهر الحسن وانطلق يقول: من هو؟ فقال (عليه السلام):
رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين وآبائي كلهم قد عملوا بأيديهم وهو من عمل النبيين والمرسلين والصالحين)(4).
وبذلك أعطى الإمام (عليه السلام) درساً مفيداً عن الإسلام فهو دين العمل والجد ولا علاقة بين العمل والمنزلة الاجتماعية للفرد مهما علت منزلته فهو مأمور بالعمل من أجل نفسه ومن أجل عائلته. وتقديراً لحقوق العامل قال أمير المؤمنين (ادفعوا اجر العامل قبل أن يجف عرقه).
نعود إلى ما كنا بصدده (الفقه الديني) هذه قبسات وضاءة من أحاديث الإمام (عليه السلام) من العقيدة.
معنى الله
روى الكليني عن عدة من أصحابنا، عن احمد بن محمد البرقي، عن القاسم بن يحيى، عن جده الحسن بن راشد، عن أبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: سئل عن معنى الله فقال: استولى على ما دق وجلّ(5).
وفي رسالة وجهها إليه الفتح بن عبد الله يسأله عن توحيد الله عزّ وجلّ فأجابه (عليه السلام) بعد البسملة: (الحمد لله الملهم عباده حمده، وفاطرهم على معرفة ربوبيته، الدال على وجوده بخلقه، المستشهد بآياته على قدرته)(6).
أراد (عليه السلام) أن الله استشهد على قدرته الباهرة بآياته العظيمة، كخلق السماوات والأرض والشمس والقمر، ويعبر عنها بالآيات الأفقية وبخلق الأرواح والعقول والنفوس وإدراكاتها وتسمى بالآيات النفسية وهي تدل على عظيم قدرته تعالى.
صفات الله
وتابع (عليه السلام): (الممتنعة من الصفات ذاته، ومن الأبصار رؤيته).
أشار (عليه السلام) إلى أن صفات الله عين ذاته تعالى، وليست عارضة عليه كعروضها على الممكن، وقد أقيمت الأدلة الوافرة في علم الكلام على ذلك. وإن الأبصار تمتنع عن رؤيته تعالى وفيه إيماء لطيف على عدم امتناع إدراك البصائر والقلوب من رؤيته، ولكنها تراه بنور المعرفة وحقيقة الإيمان كما قال (عليه السلام): (ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان).
(ومن الأوهام الإحاطة به، لا أمد لكونه، ولا غاية لبقائه)(7).
أراد (عليه السلام) أن الله يحيط بما سواه فكيف يحيط به شيء من الأوهام التي لا تتعلق إلا بالمعاني الجزئية المحدودة.
وإنه تعالى فوق الآجال والأزمنة فلا أمد له، فإن الزمان مخلوق له، وإن بقاءه تعالى قائم بذاته وليس بصفة عارضة.
النهي عن التشبيه
وعن الحسن بن عبد الرحمن الحماني قال: قلت لأبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام): إن فلاناً زعم أن الله جسم ليس كمثله شيء، عالم، سميع، بصير، قادر، متكلم، ناطق، والكلام والقدرة والعلم يجري مجرى واحد، ليس شيء منها مخلوقاً.
فقال (عليه السلام): قاتله الله أما علم أن الجسم محدود والكلام غير المتكلم معاذ الله وأبرأ إلى الله من هذا القول، لا جسم ولا صورة ولا تحديد وكل شيء سواه مخلوق، إنما تكون الأشياء بإرادته ومشيئته من غير كلام ولا تردد في نفس ولا نطق بلسان. إن الله لا يشبهه شيء(8).
النهي عن الحركة
روى محمد بن أبي عبد الله عن الحسن بن راشد، عن يعقوب بن جعفر، عن أبي إبراهيم موسى بن جعفر (عليه السلام) أنه قال:
(لا أقول: إنه قائم فأزيله عن مكانه، ولا أحدّه بمكان يكون فيه، ولا أحدّه أن يتحرّك في شيء من الأركان والجوارح، ولا أحدّه بلفظ شق فم، ولكن كما قال الله تبارك وتعالى: (كُنْ فَيَكُونُ) بمشيئته من غير تردد في نفس، حمداً فرداً، لم يحتج إلى شريك يذكر له ملكه ولا يفتح له أبواب علمه)(9).
الإرادة والتقدير والمشيئة
روى علي بن محمد بن عبد الله، عن احمد بن أبي عبد الله، عن أبيه، عن محمد بن سليمان الديلمي، عن علي بن إبراهيم الهاشمي قال: سمعت أبا الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) يقول: لا يكون الشيء إلا ما شاء الله وأراد وقدر وقضى، قلت: ما معنى شاء؟ قال: ابتداء الفعل، قلت: ما معنى قدر؟ قال: تقدر الشيء من طوله وعرضه، قلت: ما معنى قضى؟ قال: إذا قضى أمضاه، فذلك الذي لا مردّ له(10).
ـ روى أبو جعفر الطوسي عن صفوان بن يحيى قال: قلت لأبي الحسن (عليه السلام) أخبرني عن الإرادة من الله عزّ وجلّ ومن الخلق؟ فقال: الإرادة من الله تعالى أحداثه الفعل لا غير ذلك، لأنه جلّ اسمه لا يهم ولا تفكر(11).
علم الله تبارك وتعالى
سئل الإمام (عليه السلام) عن علم الله تعالى بسؤال جاء فيه: هل أن الله كان يعلم الأشياء، قبل أن خلق الأشياء وكوّنها، أو أنه لم يعلم ذلك حتى خلقها وأراد خلقها وتكوينها، فعلم ما خلق عندما خلق وما كوّن عندما كوّن؟ فأجاب (عليه السلام) موقعاً بخطه: (لم يزل الله عالماً بالأشياء قبل أن يخلق الأشياء كعلمه بالأشياء بعدما خلق الأشياء)(12).
وكتب إليه محمد بن حمزة رسالة يسأله فيها عن علم الله وهذا نصها:
(إن مواليك اختلفوا في العلم، فقال بعضهم: لم يزل الله عالماً قبل فعل الأشياء، وقال بعضهم: لم يزل الله عالماً لأن معنى يعلم يفعل فإن أثبتنا العلم فقد أثبتنا في الأزل معه شيئاً، فإن رأيت جعلني الله فداك أن تعلمني من ذلك ما أقف عليه ولا أجوزه).
فكتب (عليه السلام) إليه: (لم يزل الله عالماً تبارك وتعالى ذكره)(13).
وكما نرى كان جوابه (عليه السلام) عن هذه المسألة مجملاً نظراً لقصر فهم السائل عن إدراك الجواب. لأن هذه المسألة من أشكل المسائل الفلسفية وقد وقع الاختلاف فيها بين أعاظم الفلاسفة القدامى.
فالمشائيون تبعاً لمعلمهم أرسطوطاليس ذهبوا إلى أن علمه تعالى بالأشياء متقدم عليها. والإشراقيون تبعاً لمعلمهم أفلاطون ذهبوا إلى أن علم الله عزّ وجلّ بالأشياء مقارن لإيجاد الشيء. وقد استدل الفريقان بأدلة كثيرة فيها لون من الغموض والإبهام، لسنا الآن في صددها.
وروى الصدوق عن الكاهلي قال: كتبت إلى أبي الحسن (عليه السلام) في دعاء: (الحمد لله منتهى علمه) فكتب إليّ: لا تقولن منتهى علمه، ولكن قل منتهى رضاه(14).
وعنه بإسناده عن الحسن بن يزيد بن عبد الأعلى، عن العبد الصالح موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: علم الله لا يوصف منه بأين، ولا يوصف العلم من الله بكيف، ولا يفرد العلم من الله ولا يبان الله منه، وليس بين الله وبين علمه حدّ(15).
جوامع التوحيد
قال الصدوق: حدثنا أبي عن علي بن محمد بن قتيبة عن الفضل بن شاذان عن محمد بن أبي عمير، قال: دخلت على سيدي موسى بن جعفر (عليهما السلام) فقلت له: يا ابن رسول الله علمني التوحيد. فقال: يا أبا أحمد لا تتجاوز في التوحيد ما ذكره الله تعالى ذكره في كتابه فتهلك.
واعلم أن الله تعالى واحد أحد، صمد، لم يلد فيورث، ولم يولد فيشارك، ولم يتخذ صاحبة ولا ولداً ولا شريكاً، وإنه الحي الذي لا يموت، والقادر الذي لا يعجز، والقاهر الذي لا يغلب، والحليم الذي لا يعجل، والدائم الذي لا يبيد، والباقي الذي لا يفنى، والثابت الذي لا يزول، والغنى الذي لا يفقر، والعزيز الذي لا يذل. والعالم الذي لا يجهل، والعدل الذي لا يجور، والجواد الذي لا يبخل، وإنه لا تقدره العقول، ولا تقع عليه الأوهام، ولا تحيط به الأقطار، ولا يحويه مكان، ولا تدركه الأبصار وهو اللطيف الخبير، وليس كمثله شيء وهو السميع البصير. ما يكون من نجوى ثلاثة إلا وهو رابعهم ولا خمسة إلا وهو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا وهو معهم أينما كانوا. وهو الأول الذي لا شيء بعده، وهو القديم وما سواه مخلوق محدث تعالى عن صفات المخلوقين علواً كبيراً(16).
العدل
قال الصدوق: حدثنا محمد بن احمد الشيباني.. عن الإمام علي بن محمد عن أبيه محمد بن علي عن أبيه الرضا علي بن موسى (عليهم السلام) قال: خرج أبو حنيفة ذات يوم من عند الصادق (عليه السلام)، فاستقبله موسى بن جعفر (عليهما السلام) فقال له: يا غلام ممن المعصية؟
قال: لا تخلو من ثلاث: إما أن تكون من الله عزّ وجلّ، وليست منه فلا ينبغي للكريم أن يعذّب عبده بما لا يكتسبه، وإما أن تكون من الله عزّ وجلّ ومن العبد، وليس كذلك فلا ينبغي للشريك القوي أن يظلم الشريك الضعيف، وإما أن تكون من العبد وهي منه، فإن عاقبه الله فبذنبه وإن عفا عنه فبكرمه وجوده(17).
هل الله تعالى شيء؟
قال الصدوق: حدّثنا جعفر بن محمد بن مسرور، قال: حدّثنا محمد بن جعفر بن بطة، قال: عن محمد بن عيسى بن عبيد، قال:
قال لي أبو الحسن (عليه السلام): ما تقول إذا قيل لك: أخبرني عن الله عزّ وجلّ شيء أم لا؟ قال فقلت له: قد أثبت الله عزّ وجلّ نفسه شيئاً يقول: (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) فأقول: إنه شيء لا كالأشياء، إذ في نفي الشيئية عن إبطاله ونفيه، قال لي: صدقت وأصبت، ثم قال لي الرضا (عليه السلام) للناس في التوحيد ثلاثة مذاهب: نفي، وتشبيه، وإثبات بغير تشبيه، فمذهب النفي لا يجوز، ومذهب التشبيه لا يجوز لأن الله تبارك وتعالى لا يشبهه شيء، والسبيل في الطريقة الثالثة إثبات بلا تشبيه(18).
ليس كمثله شيء
قال الصدوق: أبي ومحمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد قالا: حدثنا محمد بن يحيى العطار؛ وأحمد بن إدريس عن بعض أصحابنا، عن طاهر بن حاتم بن ماهويه قال: كتبت إلى الطيب يعني أبا الحسن موسى (عليه السلام): ما الذي لا تجزئ معرفة الخالق بدونه فكتب:
ليس كمثله شيء ولم يزل سميعاً وعليماً وبصيراً، وهو الفعال لما يريد(19).
نفي الزمان والمكان
قال الصدوق: حدثنا علي بن الحسين بن الصلت، قال: حدثنا محمد بن احمد بن علي بن الصلت عن عمه أبي طالب عبد الله بن الصلت، عن يونس بن عبد الرحمن، قال: قلت لأبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) لأي علة عرج الله بنبيه (صلّى الله عليه وآله) إلى السماء، ومنها إلى سدرة المنتهى، ومنها إلى حجب النور، وخاطبه وناجاه هناك والله لا يوصف بمكان.
فقال (عليه السلام): إن الله تبارك وتعالى لا يوصف بمكان، ولا يجري عليه زمان، ولكنه عزّ وجلّ أراد أن يشرّف به ملائكته وسكان سماواته، ويكرّمهم بمشاهدته ويريه من عجائب عظمته ما يخبر به بعد هبوطه، وليس ذلك على ما يقول المشبّهون، سبحان الله وتعالى عما يشركون(20) إن الله تبارك وتعالى كان ولم يزل بلا زمان ولا مكان وهو الآن كما كان، لا يخلو منه مكان ولا يشغل به مكان، ولا يحل في مكان وليس بينه وبين خلقه حجاب.
الإرادة التكوينية والإرادة التشريعية
قال الإمام الكاظم (عليه السلام): إن لله إرادتين ومشيئتين: إرادة حتم، وإرادة عزم. ينهى وهو يشاء، ويأمر وهو لا يشاء، أو رأيت أنه نهى آدم وزوجته أن يأكلا من الشجرة، وشاء ذلك، ولو لم يشأ أن يأكلا لما غلبت مشيئتهما مشيئة الله تعالى.
وأمر إبراهيم أن يذبح ابنه إسماعيل ولم يشأ أن يذبحه ولو شاء لما غلبت مشيئة إبراهيم مشيئة الله تعالى(21).
وبيان مراده (عليه السلام) إن الإرادة تنقسم إلى الإرادة التكوينية الحقيقية، وإلى الإرادة التشريعية الاعتبارية، فإرادة الإنسان التي تتعلق بفعل نفسه إرادة تكوينية تؤثر في أعضائه إلى إيجاد الفعل ويستحيل معها تخلف الأعضاء عن المطاوعة إلا لمانع. وأما الإرادة التي تتعلق بفعل الغير كما إذا أمر بشيء أو نهى عنه فإن هذه الإرادة ليست تكوينية بل هي تشريعية لأنها لا تؤثر إيجاد الفعل أو تركه من الغير بل تتوقف على الإرادة التكوينية له.
وأما إرادة الله التكوينية فهي التي تتعلق بالشيء، ولابد من إيجاده ويستحيل فيها التخلف، وأما إرادته التشريعية فهي التي تتعلق بالفعل من حيث أنه حسن وصالح، وأما نهي الله لآدم عن الأكل من الشجرة وقد شاء ذلك وأمره تعالى لإبراهيم بالذبح لابنه إسماعيل وقد شاء ذلك فإن النهي والأمر فيهما تشريعيان، كما أن المراد بالمشيئة هي المشيئة التكوينية، وقد صرحت الرواية بأن إبراهيم قد أمر بذبح ولده إسحاق دون إسماعيل، وهو مخالف لما تضافرت به الأخبار الواردة عن أئمة الهدى (عليهم السلام) بأن الذي جعل قرباناً للبيت الحرام هو إسماعيل دون إسحاق.
وهنا يتوضع دور الإمام موسى (عليه السلام) في الدفاع عن العقيدة الإسلامية وإبطال حجج الملحدين وأفكارهم المزيفة وتفنيده لشبههم.
ولا يخفى ما ظهر في عصر الإمام من موجات إلحادية فجّرها المعادون للإسلام عندما وجدوا أن لا وسيلة لهم لمقاومته إلا بإشاعة ترهاتهم الباطلة ليضعفوا الجانب العقائدي بين المسلمين. ولكن لم تلبث هذه الأفكار، وقبرت تلك الأضاليل والبدع بواسطة المساعي الحميدة والهمم العالية التي بذلها أهل البيت (عليهم السلام) من أجل صيانة الإسلام وحمايته من شبهة الملحدين ومكايد المضللين.
إن تلك الموجات الإلحادية التي انتشرت في ذلك العصر تدل على أن المجتمع كان يعيش عيشة متحللة يسودها الشك في العقيدة الإسلامية والخلاف المذهبي. ومما لا شك فيه أن لاحتجاجات الأئمة (عليهم السلام) الأثر الفعال في إرجاع المسلمين إلى طريق الحق والصواب ومقاومتهم للغزو العقائدي الذي مني به العصر العباسي. فقد كان في أغلب أدواره عصر لهو ومجون قد أقبل الناس فيه إلى الاستمتاع بجميع أنواع المحرمات فاندفعوا على الطرب والغناء وشرب الخمر والميسر ومنادمة الجواري والغلمان وغيرها من المحرمات.
وقد شجعهم على ذلك الحكام الذين غرقوا في المحرمات والآثام، وسار الناس على مسراهم حيث لا حسيب ولا رقيب.
وإذا أردنا مثلاً دالاً على تسيّب الأخلاق في ذلك العصر فلنا شعراء العصر العباسي فقد كانوا يمثلون المجتمع في جميع اتجاهاته وميوله تمثيلاً صحيحاً. فقد كان شعرهم يصف القيان والخمر، واللذة والشهوات وأكثر ما أثر عنهم في هذا المجال وصمة عار في تاريخ الأدب العربي فأبو نواس كرّس كل مجهوده الفكري على وصف: الكؤوس والأكواب والسقاة والدنان، والخمارين والندمان. ولم يفته أن يذكر أصناف الخمور، وطريقة صنعها وطعمها ولونها ورائحتها ممّا جعله يلتفت إلى كل ما يتصل بها ويحس بها بما لم يحس بها غيره.
وقد وصل به حُبِّه للخمر إلى درجة العبادة والتقديس.
وقد تحوّلت بغداد الرشيد والمنصور والهادي.. إلى دور للهو والعبث والمجون. فانساب الناس وراء الشهوات ونبذوا القيم الإسلامية السامية وأدى ذلك إلى انحطاط في الأخلاق وانغماس في الإثم والمنكر. ومما لا شك فيه أن سياسة الحكم العباسي هي المسؤولة عن هذه الموجة من التحلل واللهو وإشاعة المنكر والفساد.
لذلك كله عمد أهل البيت (عليهم السلام) إلى الوقوف في وجه هذا التيّار الفاسد وبدأوا بإرشاداتهم ونصحهم وتوضيحهم أمور الدين الحنيف ورد الشبهات والانحرافات. ومن هذه الأدوار الإصلاحية الهامة دور الإمام الكاظم الذي أكمل مسيرة آبائه وأجداده الكرام فأجاب على كل الأسئلة والشبهات وكان لنا من مناظراته واحتجاجاته.
المصادر :
1- الزرابي: الفرش الفاخر.
2- سورة الجمعة: الآية 10.
3- العمل وحقوق العامل في الإسلام، ص135.
4- من لا يحضره الفقيه، ج3، ص53.
5- الكافي ج1، ص115.
6- حياة الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام)، ج1، ص223.
7- نفسه، ج1، ص224.
8- الكافي، ج1، ص106.
9- نفسه، ج1، ص125.
10- نفسه، ج1، ص150.
11- أمالي الطوسي، ج1، ص214.
12- الكافي، ج1، ص107.
13- نفسه، ج1، ص107.
14- التوحيد، ص134.
15- التوحيد، ص138.
16- التوحيد، ص76.
17- نفسه، ص96 وعيون أخبار الرضا، ج1، ص138.
18- التوحيد، ص107.
19- نفسه، ص284.
20- نفسه، ص175.
21- أصول الكافي، ص
source : rasekhoon