يقوم العقل بادراك نفسه اولا، ثم يدرك الحقائق والقواعد المنطقية، ويحدد الخير والشر والحق والباطل، لذلك فهو عقل عملي فعال، ثم يدرك العالم الخارجي من المحسوسات، وذلك بوساطة الحواس التي تشكل احد اعوانه، ثم يدرك «اللامرئي» من المشاعر والاحاسيس والمعاني الباطنية عبر القلب. وان نظرنا الى الموضوع من زاوية ثانية، نرى ان افعال الانسان معلولة ومسببة عن هذه المركزية العقلية، فكل ما يصدر سوف يتاثر بها.
ان التامل، مليا، في هذه الايات المباركة، يمنحنا وعيا بنوع النظرة القرآنية للعقل قال تعالى: ﴿ ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع الا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون ﴾ ، [البقرة/171].
﴿ ومنهم من يستمعون اليك افانت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون ﴾ ، [يونس/42].
﴿ افلم يسيروا في الارض فتكون لهم قلوب يعقلون بها او آذان يسمعون بها فانها لا تعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ﴾ ، [الحج/46].
﴿ لا يقاتلونكم جميعا الا في قرى محصنة او من وراء جدر باسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بانهم قوم لا يعقلون ﴾ ، [الحشر/14].
فقد بينت الاية الاولى، من خلال التشبيه، او بيان الحقيقة، الذين كفروا بانهم كمن ينعق بما لا يسمع الا دعاء ونداء، ثم عقبت بالحكم عليهم بانهم صم بكم عمي،فهم كمسلوب الحواس الرئيسية الثلاث، ثم رتبت النتيجة على ذلك بانهم غير عاقلين، فهم مسلوبو العقل بسبب عدم سمعهم وخرسهم وعماهم.
وهذا التصوير يوضح لنا ان نظرة القرآن للعقل ترى فيه المركزية القابعة في الوسط. كما ان الاية الاخيرة توضح ان السبب في تشتت قلوبهم وتفرقهم هو عدم عقلانيتهم، فهي تبرز تاثير العقل على فعل الانسان وواقعه، وسوف نستعرض بقية الايات في ما ياتي ان شاء الله.
وعلى ذلك، نستطيع القول: ان القرآن الكريم اولى اهتماما كبيرا لبيان حقيقة العقل ومراتبه وكيفية تاثره وتاثيره، ولكن عبر اهتمامه بالعقل العملي، وهو العقل القابل للتطور والاشتداد والترقي، الذي يؤدي الى ادراك الحق الواجب اتباعه، وادراك الباطل اللازم اجتنابه، فالعقل في القرآن يمثل الجانب التطبيقي في الوعي الانساني، وهذا لا يعني اهمال العقل بوصفه مملكة للتفكير قبال الوهم والخيال، كما لا يعني اهمال المدركات الاولية للعقل، كيف والقرآن من خلال محاجته مع الكفار والمنافقين وجميع البشر انما يرتكز على العقل بوصفه آلة ادراكية عامة يشترك فيها الجميع وتكون حجة على الناس بلا تفاوت.
ولنا ان ندعي ان الكتاب الكريم قد عالج جوانب كثيرة ابرزها:
يوضح القرآن الكريم، اولا، اهمية العقل، فيمتدح العقلنة والفهم والتفكير، ثم يبين علامات العقلانية عند الانسان، ثم يوضح مخاطر السفه وعدم الفهم، ويذم الجهل والجهلاء، ويبين الاثار الناتجة عن عدم العقلانية، من خلال بيان علامات تركها.
ويبين القرآن الكريم، ثانيا، ضرورة الاعتماد على العلم واناطة المعرفة بالدليل في المساحة المعرفية للانسان كلها، فيوضح مخاطر متابعة الظن والشك، وانهمايبعدان الانسان عن الحق والواقع.
ويعرج، ثالثا، على مراتب العقلانية، ليشرح، رابعا، الاسباب التي تقوي العقل وتربيه وتعضده سواء من داخل الانسان ام من خارجه، وفي ذلك يؤكد القرآن على تهذيب النفس، ويبين من ثم وجود حلقة ثلاثية تربط العقل والنفس والعمل، ليصير كل منها مؤثرا على الاخر، ويجمع بذلك المنطق القرآني، خامسا، بين البرهان والوجدان.
اهمية العقل ومخاطر السفه
اهتم القرآن الكريم ببيان طرق العقل وكيفية تحقيقه عمليا؛ وذلك من خلال توجيهه وهدايته الى كمال رشده، فقد حدد المؤثرات الداخلية ضمن التكوين الذاتي في الانسان سواء فيها غلبة الحس ام الخيال ام الاوهام ام الاعتبار والتساهل العلمي، وكذا تاثير النفس على العقل العملي وسائر الطبائع والملكات، كما بين العديد من المحرمات والمهلكات التي توجب بعد الانسان عن العقلانية الواقعية، سواء الظاهرية ام الباطنية - الفكرية ام الاعتقادية - النظرية ام العملية - العبادية ام الاجتماعية: الفردية او الجماعية.
ا - فقد بين القرآن الكريم ان العقلنة والفهم متوقفان على العلم بوصفه شرطا اساسا ﴿وتلك الامثال نضربها للناس وما يعقلها الا العالمون﴾ [العنكبوت/43] وكذا قوله تعالى:
﴿افلم يسيروا في الارض فتكون لهم قلوب يعقلون بها او آذان يسمعون بها فانها لا تعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور﴾ [الحج/46].
ب - كما بين تاثير العقلانية على الخارج في حركة تفاعلية من الداخل الى الخارج ﴿واذا ناديتم الى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا ذلك بانهم قوم لا يعقلون﴾[المائدة/58] وكذا ﴿ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب واكثرهم لا يعقلون﴾ [المائدة/103] وكذا قوله تعالى:
﴿وما الحياة الدنيا الا لعب ولهو وللدارالاخرة خير للذين يتقون افلا تعقلون﴾ [الانعام/32].
ج - وقد ركز القرآن، ايضا، على عنصر اتكال الانسان على امور خارجية راى فيها اضعافا للعقل، ولذلك ذمها، كما في قوله تعالى: ﴿ بل اكثرهم لا يؤمنون ﴾ ، [البقرة/100] ، وكذا ﴿ولكن اكثر الناس لا يشكرون﴾ [البقرة/243] ، وكذا ﴿ واكثرهم الفاسقون ﴾ ، [آل عمران/110] ، وكذا ﴿ يا ايها الذين آمنوا عليكم انفسكم لا يضركم من ضل اذا اهتديتم الى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون ﴾ ، [المائدة/105]. وغير ذلك مما ينبه العقل بان عليك ان تعمل طبقا للدليل والعلم من دون التاثر بغيرك.
ولاجل ذلك نهى القرآن الكريم عن اتباع الظن كقوله تعالى: ﴿ ولا تقف ما ليس لك به علم ان السمع والبصر والفؤاد كل اولئك كان عنه مسؤولا ﴾ ، [الاسراء/36]،
ه - وكذلك بين ضرورة التفكر والاعتبار كقوله تعالى: ﴿ الم تر ان الله انزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الارض ثم يخرج به زرعا مختلفا الوانه ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما ان في ذلك لذكرى لاولي الالباب ﴾ ، [الزمر/21] ، وكذا ﴿ ان في خلق السماوات والارض واختلاف الليل والنهار لايات لاولي الالباب﴾ ، [آل عمران/190].
و - وكذلك ضرورة التهجد والعبادة والخشوع والتضرع مقدمة لتفتح لب الانسان وفهمه، كقوله تعالى: ﴿ امن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الاخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون انما يتذكر اولو الالباب ﴾، [الزمر/9].
ز - وقرع عدم العقل، وعدم التعقل من دون جعل علامة له، كقوله تعالى: ﴿
ان شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ﴾ ، [الانفال/22].
ح - كما بين اسباب عدم الفهم كالنفاق والظلم، كقوله تعالى: ﴿
ولكن المنافقين لا يعلمون ﴾ ، [المنافقون/8]، وكذا ﴿ و ان للذين ظلموا عذابا دون ذلك ولكن اكثرهم لا يعلمون ﴾ ، [الطور/47]، وكذلك طول الامل ﴿ ذرهم ياكلوا ويتمتعوا ويلههم الامل فسوف يعلمون ﴾ ، [الحجر/3] وغيرها...
ط - وقد شرح القرآن الكريم الاسباب التي تقوي العقل وتربيه وتعضده، سواء من داخل الانسان ام من خارجه، فهناك العديد من الايات القرآنية التي تولت تفعيل حركة التعقل لدى الانسان؛ وذلك بتسهيل الطريق امامه وفتح آفاق المعرفة والتذكير بعواقب الامور، فمن ذلك قوله تعالى: ﴿ ويريكم آياته لعلكم تعقلون ﴾، [البقرة/73] ، وكذلك ﴿ كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون ﴾ ، [البقرة/242] ، وكذا ﴿ ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ﴾، [الانعام/151]
ي - كما افاد القرآن الكريم، في نصوصه، ان النظام التكويني غايته العقل ﴿ هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا ثم لتبلغوااشدكم ثم لتكونوا شيوخا ومنكم من يتوفى من قبل ولتبلغوا اجلا مسمى ولعلكم تعقلون﴾ ، [غافر/67].
كما ان هناك علامات كثيرة لعدم العقل، مثل السخرية من الصلاة او الاهتمام بالحياة الدنيا لذاتها واللعب واللهو، وكذلك الكفر والافتراء على الله، وايضا عدم الاهتمام بالوحي وتضييع تعاليمه وعدم اقامة الصلاة، وكذلك فعل المحرمات وترك الواجبات بشكل عام، وهي آيات كثيرة تربط بين هذه الافعال والامورالمتروكة وبين تاثيرها على العقلانية والعقل والفهم الانساني.
وقد ورد، في الدعاء الماثور، عن رسول الله (ص): «اللهم اني اعوذ بك من علم لا ينفع» والتعوذ يكون عادة من الشر لا من الخير، والحال ان العلم هوعلم، وهو خير بالطبع، ولكن بما ان الشريعة تنظر الى الواقع البشري العملي، فطبقا لاولويات هذا الواقع، يصير تضييع العمر بغير الانفع خسارة وهباء، فيكون بمنزلة الشر النسبي حينئذ.
الشيخ علي بيضون
source : tebyan