عربي
Monday 4th of November 2024
0
نفر 0

هل ألقى الحسينُ (عليه السّلام) بنفسه إلى التهلكة بثورته ضد الاُمويِّين ؟

أوّل الشبهات التي ترد على ذهن السامع أو القارئ لمصرع الحسين (عليه السّلام) هي شبهة : أنّ الحسين بعمله هذا قد ألقى بنفسه إلى التهلكة التي نهى الله تعالى عنها بقوله : ( وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التّهْلُكَةِ ) . والقيام بمثل ذلك العمل الانتحاري يعتبر غريباً مِنْ مثل الحسين (عليه السّلام) العارف بشريعة الإسلام ، والممثّل الشرعي لنبي الإسلام جدّه محمد (صلّى الله عليه وآله) .
 هل ألقى الحسينُ (عليه السّلام) بنفسه إلى التهلكة بثورته ضد الاُمويِّين ؟

أوّل الشبهات التي ترد على ذهن السامع أو القارئ لمصرع الحسين (عليه السّلام) هي شبهة : أنّ الحسين بعمله هذا قد ألقى بنفسه إلى التهلكة التي نهى الله تعالى عنها بقوله : ( وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التّهْلُكَةِ ) . والقيام بمثل ذلك العمل الانتحاري يعتبر غريباً مِنْ مثل الحسين (عليه السّلام) العارف بشريعة الإسلام ، والممثّل الشرعي لنبي الإسلام جدّه محمد (صلّى الله عليه وآله) .
لذا فالجواب عن هذه الشبهة يتوقّف على تقديم مقدّمة للبحث في الآية الكريمة ، والتعرّف على معنى التهلكة المحرّمة و متى تصدق ، وهل ينطبق ذلك على عمل الحسين (عليه السّلام) ؟ و ننظر هل يصدق عليه (صلوات الله عليه) أنّه ألقى بنفسه إلى الهلكة والتهلكة أم لا ؟
قوله سبحانه و تعالى : ( وَأَنْفِقُوْا فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُحْسِنِينَ )(1) .
التهلكة : يعني الهلاك ، و هو كلّ أمر شاقّ و مضرّ بالإنسان ضرراً كبيراً يشقّ تحمّله عادة ؛ مِنْ فقر أو مرض أو موت . والآية الكريمة أمرت أوّلاً بالإنفاق في سبيل الله ، أي التضحية والبذل فيما يرضي الله تعالى ، و يقرّب الإنسان إلى الله ، ثمّ نهت عن الإلقاء بالنفس إلى التهلكة ؛ و ذلك بترك الإنفاق في سبيل الله .
ثمّ قالت : ( وَأَحْسِنُوا ) ، أي كونوا محسنين في الإنفاق والبذل ؛ إذ إنّه ليس كلّ تضحية حسنة و شريفة ، ولا كلّ بذل هو محبوب و حسن عند الله ، وإلاّ لكانت تضحيات المجانين والسفهاء أيضاً شريفة وفي سبيل الله .
فالتضحية الشريفة المقدّسة والتي هي في سبيل الله تعالى تعرف بتوفّر شروط فيها ، و تلك الشروط نلخّصها فيما يلي :
الشرط الأول : أن تكون التضحية والبذل والإنفاق في سبيل شيء معقول محبوب عقلاً وعرفاً ، أي في سبيل غرض وهدف عقلاني ، وإلاّ خرجت عن كونها تضحية عقلائيّة و دخلت في عداد الأعمال الجنونية أو اللاإرادية .
الشرط الثاني : أن يكون المفدّى والمضحّى له أشرف و أفضل من الفداء والضحية لدى العقلاء والعرف العام ، كأن يُضحّى بالمال مثلاً لكسب العلم أو الصحة ، أو يُضحّى بالحيوان لتغذية الإنسان ، و هكذا كلّما كانت الغاية أفضل و أثمن كانت التضحية أشرف و أكمل .
هذان العنصران هما الشرطان الرئيسان من الشروط التي لا بدّ منها في كلّ بذل و إنفاق وتضحية حتّى تكون حسنة و شريفة وفي سبيل الله ؛ و على هذا يظهر جلياً و بكلّ وضوح أنّ ثورة الحسين (عليه السّلام) كانت في سبيل الله مئة بالمئة ، و أنّ كلّ ما قدّم فيها و أنفق مِنْ مال و بنين ، و نفس و نفيس ، و غال و عزيز كان إنفاقاً حسناً ، و بذلاً شريفاً ، و تضحية مقدّسة يستحق عليها كلّ إجلال و تقديس و شكر ؛ بداهة توفّر الشرطين الآنفين في ثورته (عليه السّلام) على أتمّ صورهما حسبما نعرف ذلك مفصّلاً فيما يأتي .
و كذلك يتّضح زيف و بطلان الهراء والتهريج القائل أنّ الحسين (عليه السّلام) بنهضته تلك ألقى بنفسه إلى التهلكة ؛ لأنّه قام بدون عدّة وعدد كافيين في وجه قوّة تفوقه عدّة و عدداً بأضعاف مضاعفة !
إنّا نقول لهم : لقد قام قبل الحسين (عليه السّلام) كثير من الأنبياء والرسل في وجه أعداء لهم أقوى عدّة و عدداً ، وقام كثير من الصلحاء وهم عزّل في وجه الطغاة الأقوياء ، ولاقوا صنوفاً من العذاب والأذى والقتل ، فهل كان كلّ اُولئك على خطأ وباطل في مواقفهم ؟!
أمّا استدلالهم بفعل أمير المؤمنين (عليه السّلام) مع معاوية حيث قَبِلَ الصلح أو التحكيم ، و كذلك فعل الحسن الزكي (عليه السّلام) حيث صالح معاوية ، و قَبْلَ ذلك كلّه فعل النبي (صلّى الله عليه وآله) مع المشركين عام الحديبية . . . فإنّه استدلال فاسد و قياس مع الفارق ، حيث صالح هؤلاء أعداءهم ؛ لأنّهم أيقنوا بعدم جدوي الحرب والقتال ، و عدم الوصول إلى الغاية المطلوبة مع الاستمرار في الحرب ، و هي ظهور الحقّ و إزهاق الباطل ، بل بالعكس ظهر الحقّ بصبرهم و مهادنتهم أكثر و أكثر .
فصلح الحديبية مثلاً أظهر عطف الرأي العام العربي نحو محمد (صلّى الله عليه وآله) ، و أظهر حسن نواياه للعرب ، و أنّه رجل سلام و داعية حبّ و مودّة ، لا رجل حرب ، و بالتالي مهّد ذلك الصلح لفتح مكة بدون قتال ، ثمّ لدخول الناس في دين الله أفواجاً .
و أمّا قبول علي (عليه السّلام) للتحكيم في صفين ، و صلح الحسن مع معاوية فلمْ يكن عن شعور بالعجز عن المقاومة ، ولا بدافع قلّة العدد و كثرة العدو ، بل لغرض فضح نوايا معاوية ، و كشف مؤامراته العدوانية أمام أعين البسطاء الذين كانوا قد خدعوا بنفاقه و دجله .
و كذلك سكوت علي (عليه السّلام) عن حقّه بعد وفاة النبي (صلّى الله عليه وآله) كان لعلمه (عليه السّلام) أنّ استعمال السيف لا يجدي نفعاً لمصلحة الإسلام ، بل يعرض ذلك لخطر أعظم ، و ضرر أشدّ ، و فساد أكبر .
والخلاصة :
إنّ آية التهلكة لا تشمل مطلق الإقدام على الخطر ، ولا تحرّم التضحية بالنفس والنفيس إذا كانت لغاية أعظم و أفضل ، وهدف أنبل وأشرف ، كالذي قام به الحسين (عليه السّلام) بثورته الخالدة ، و حيث توفّرت في تضحياته كلّ شروط التضحية الشريفة والفداء المقدّس على أكمل وجه ؛ لأنّه (عليه السّلام) ضحّى وفدى ، و بذل و أنفق في سبيل أثمن و أغلى شيء في الحياة مطلقاً ألا و هو الإسلام ؛ دين الله و شريعة السماء ، و نظام الخالق للمخلوق ، و دستور الحياة الدائم الذي لولا تضحيات الحسين (عليه السّلام) لدُفن تحت ركام البدع والتشويهات والانحرافات التي خلّفتها عهود الحكم السابقة ، كما دُفنت الديانات السابقة على الإسلام تحت ترسبات البدع والتحريف حتّى لمْ يبقَ منها أثر حقيقي ؛ حيث لمْ يقيّض لها حسين فيستخرجها و يزيل عنها المضاعفات ،كالذي فعله الحسين بن علي بالنسبة إلى الديانة الإسلاميّة الخالدة .
و هنا قد يرد سؤال وجيه يجدر بنا التعرّض له والإجابة عليه ، والسؤال هو : كيف يكون الإسلام أغلى و أثمن ، و أشرف و أفضل مِنْ كلّ الموجودات والكائنات حتّى الإنسان نفسه فضلاً عن المال والولد ؟! أليس الله تعالى خلق الكون لأجل الإنسان ؟! فكيف يُضحّى بحياة الإنسان في سبيل الدين الذي هو بدوره وجد لأجل سعادة الإنسان و خدمة الإنسان و خيره ؟!
والجواب :
نعم ، إذا تعرّض الدين لخطر الزوال أو التحريف فمعنى ذلك أنّ سعادة الإنسان تعرّضت للخطر ، و كرامة الإنسان تعرّضت للزوال ، ولا شك أنّ الإنسان إذا دار أمره بين أنْ نعيش بلا سعادة ولا كرامة ، أو يموت دفاعاً عنهما و إبقاء لهما لغيره وجب الدفاع والصيانة حتّى الموت .
إذا دار الأمر بين أنْ يعيش الإنسان بلا سعادة و كرامة أو يموت سعيداً كريماً ، فلا شكّ أنّ الموت بسعادة و كرامة أفضل من الحياة بدونهما . إذا دار الأمر بين أنْ يعيش الإنسان في مجتمع لا يشعر بكرامته الإنسانية ، ولا يخضع لنواميس الحياة الطبيعية أو يموت ، فلا خلاف في أنْ الموت خير له و أفضل .
ففي الحديث الشريف عن النبي (صلّى الله عليه وآله) قال : (( إذا كان اُمراؤكم خياركم , و أغنياؤكم سمحاءكم ، و أمركم شورى بينكم ، فظهر الأرض خيرٌ لكم مِنْ بطنها . و إذا كان اُمراؤكم شراركم ، و أغنياؤكم بخلاءكم ، و أمركم إلى نسائكم ، فبطن الأرض خيرٌ لكم مِنْ ظهرها )) .
وقال الحسين (عليه السّلام) في خطبة : (( إنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة ، والحياة مع الظالمين إلاّ برماً )) . إذ إنّ كلّ الأشياء إنّما تخدم مصلحة الإنسان ، و تكون خيراً للإنسان إذا كانت مقرونة مع الدين الصحيح .
فالمال مثلاًً إنّما يكون خيراً و سعادة إذا كان بيد إنسان متديّن يؤمن بالمبدأ والمعاد ، و يتقيّد بحدود الدين في كسب المال و صرفه .
أمّا المال إذا كان بيد الملحد الإباحي ، المتجرّد مِنْ كلّ قيود الدين والعقل والنظام الاجتماعي الإنساني ، فإنّه وسيلة هدم و تخريب ، و شقاء لصاحبه ولغيره : ( إِنّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى )(2) . وقال (عليه السّلام) : (( هلك خزّان الأموال وهم أحياء )) .
و كذلك الأولاد إنّما يكونون خيراً للوالدين و قرة عين لهما إذا كانوا مؤمنين بالله واليوم الآخر ، و بما فرض عليهم الدين مِنْ حقوق الوالدين و احترامهما ، أمّا لو كانوا بخلاف ذلك فهم و بال على الوالدين ، يرهقونهما طغياناً و كفراً
و هكذا كلّ شيء في الحياة نافع و خير إذا ساده النظام والدين ، و ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا ، ولا سعادة في دنيا بلا دين . وقال تعالى : ( فَمَنِ اتّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلّ وَلاَ يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً )(3) .
و نعود فنقول : إنّ الحسين (عليه السّلام) ضحّى في سبيل أقدس قضية و أشرف غاية في الوجود ، ألا و هو الإسلام الذي تعرّض لأكبر الأخطار على يد ألدّ أعدائه و هم الاُمويّون ، فكان (عليه السّلام) بذلك القيام أصدق مثال ، و أظهر مصداق للشهداء الذين قال الله تعالى فيهم : ( وَلاَ تَحْسَبَنّ الّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ )(4) .
ولله درّ مَنْ قال :


كذبَ الموتُ فالحسينُ مخلدُ              كلّما مرّت الدهورُ تَجدّدُ


وقال الاُستاذ حسين الأعظمي :


شـهيد العُلا ما أنت ميتٌ و إنّما      يموت  الذي يبلى وليس له ذكرُ
و مـا دمُـك المسفوكُ إلاّ قيامةٌ      لـها كلّ عامٍ يومُ عاشور حشّرُ
و مـا دمُك المسفوكُ إلاّ رسالةٌ      مخلدةٌ لمْ يخلُ مِنْ ذكرها عصرُ
و مـا دمُـك المسفوكُ إلاّ تحررٌ      لدنيا طغت فيها الخديعةُ والمكرُ
و هـدمٌ لـبنيان على الظلمِ قائمٍ      بناه الهوى والكيدُ والحقد والغدرُ


و مجمل القول هو : أنّ الحسين (عليه السّلام) بثورته المقدّسة لمْ يلقِ بنفسه إلى التهلكة كما يزعمون ، بل ألقى بها إلى الخلود والسعادة الأبدية ، والعزة والشرف في الدنيا والآخرة ؛ فاحتلّ المرتبة الاُولى في قائمة العظماء العالميِّين في الدنيا ، و أخذ مكانه في الصفِّ الأول مِنْ صفوف الأنبياء والمرسلين ، والشهداء والصالحين و حَسُن اُولئك رفيقاً .
فيا ليتنا كنّا معه فنفوز فوزاً عظيماً .


source : sibtayn
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

قصيدة تلقى قبل اذان الصبح في حضرة الامام الحسين ...
شعر الإمام الحسين ( عليه السلام )
بين الحسين عليه السلام والأمة
الشعائر الحسينية... الجذور والمعطيات
لماذا نزور قبر الإمام الحسين (ع)؟
إمامة الإمام الحسين ( عليه السلام )
وصول الإمام الحسين ( عليه السلام ) إلى كربلاء
جذور التشيع في تركيا من أين يمتد ؟!
في رثاء الحسين ( عليه السلام ) للعرندس
المقبولة الحسينيّة

 
user comment