عند الحديث عن الإمام الباقر (عليه السلام)ينبغي أن نشير إلى نهجين متنافرين في تقييم حياة الأئمة والنهج القديم بينهما .
فهناك فريق يقيِّمون حياة المعصومين عليهم السلام بمقياس السياسة . ومدى دورهم فيها . ويكاد تفسيرهم لعبادات الأئمة ، وعلومهم ، وأخلاقهم يكون أيضاً بمنظار سياسي .
بينما تجد أغلب المؤرخين لحياتهم عليهم السلام يختصرون حياتهم في حدود فردية ضيقة ، حتى يفصلونها من السياق الزمني لها .
وبين المنهجين حالة وسطى تجعل حياتهم ذات إشعاع فردي يتجاوز حدود الزمان والمكان .. وذات أفق سياسي يتفاعل مع الظرف التاريخي الخاص به ..
بلى . الأئمة هم قدوات البشر ، ونسبة رجال السياسة إلى سائر الناس نسبة ضئيلة ، فلم يكن من المناسب أن يكون كل قدوات البشر في قمة السلطة حتى يكون سلوكهم مناراً لأمثالهم من أصحاب السلطة فقط ، بل كان من المعقول أن يكونوا في مختلف المستويات الإجتماعية حتى تتم حجة الله على خلقه بأنفذ ما يكون بلاغاً وقوةً !
ولو كانوا كلهم في قمة السلطة لقال الناس أن مسيرتهم تخص أولي السلطة فحسب فما لنا للدخول في شأن السلاطين .
على أن بعضهم لايزال يحاول التنصل من اتباع الأنبياء والأوصياء والصالحين ، بزعم أنهم ليسوا ببشر .. وبالتالي فهو لايمكنه أن يتبع هداهم ، أو يقدر أحدنا أن يتمثل شخصيَّة الملائكة ..
إلاّ أن ما نزل بأنبياء الله وأوصياءهم من الضنك والأذى . وما تعرضوا له من السجن والتعذيب والتهجير والخوف وحتى القتل والأسر والتشهير .. كل ذلك دليل كونهم بشراً أمثالنا ميّزوا بالوحي والعزم والإعتصام بحبل الله ، وقال ربنا سبحانه :
{قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إلَيَّ أَنَّمَآ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ }(1)
وقال :{قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَآ أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } (2)
ولعل هذه الحكمة كانت أيضاً وراء إذن الله سبحانه بتعرض أوليائه لبعض الأذى ، لكي لا يرفعهم الناس إلى مستوى الألوهية فيهلكوا ، ولكي يرفع الله به درجاتهم عنده . ولكي لايترك الدينَ البسطاءُ من الناس فراراً من الأذى .
ونحن إذ نشرع في الاستضاءة بسيرة الإمام الخامس من أئمة أهل البيت عليهم السلام ، والعلم السابع من قدوات الأئمة المعصومين عليهم السلام بجوار مقام السيدة زينب في الشام . نسأل الله أن يتم نورنا به ويجعلنا من أشد تابعيه تمسّكاً وأحسنهم عاقبة .. إنه ولي التوفيق..
الميلاد الميمون
ولد الإمام الباقر (عليه السلام)من والدين علويين هما الإمام السجاد (عليه السلام)، وأم عبد الله بنت الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام)، وكانت ولادته قبل أربع سنوات من واقعة الطف الرهيبة . أي في عام 57 من الهجرة . وكان ذلك الثالث من صفر أو العاشر في رجب ، ( في ذلك اختلاف بين الرواة ) . ولم يكن أكبر أبناء أبيه سنّاً ، إلاّ أنه كان أولاهم بالإمامة فنصبّه والده لها اتباعا لأمر رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم).
وقد سأل الزهري والده الإمام السجاد عن ذلك وقال : يا ابن رسول الله هلا أوصيت إلى أكبر أولادك ؟ قال : يا أبا عبد الله ليست الإمامة بالصغر والكبر ، هكذا عهد إلينا رسول الله ، وهكذا وجدنا مكتوباً في اللَّوح والصحيفة(3)
وكانت أمّه - حسبما قال : الإمام الصادق (عليه السلام)- صديقة لم يدرك في آل الحسن مثلها(4)
النشأة الطيبة :
عاش في ظل جده السبط الشهيد عليه السلام أربع سنوات ، وصبغت شخصيته الفذة بتلك الصبغة الإلهية التي تجلت في حياة السبط الشهيد ، ولا ريب أن مأساة كربلاء الفجيعة تركت طابعها على نفسية الإمام الباقر (عليه السلام)الذي رافق صورها وشاهدها لحظة بلحظة .. لأنه - حسب بعض الرواة - كان ممن حضرها مع سائر ابناء الأسرة الهاشمية .
وبعد تلك الفاجعة عاش الإمام تسعة عشر سنة و ستين يوماً في ظل والده سيد الساجدين(5)، حيث كانت حياته الكريمة مثلاً أعلى للصبغة الربانية ، وظل شعاع تلك الحياة يضيء درب السالكين إلى الله .. حتى اليوم .
ومنذ باكورة حياته المباركة تجلت فيه ملامح الإمامة . وقد جاء في الحديث المأثور عن أبي الزبير محمد بن مسلم المكي قال : كنا عند جابر بن عبد الله فأتاه علي بن الحسين ومعه ابنه محمد وهو صبي ، فضمه جابر إليه فقال علي لابنه : قبّل رأس عمك فدنا محمد من جابر فقبل رأسه ، فقال جابر : من هذا ؟وكان قد كفّ بصره - فقال له علي : هذا ابني محمد فضمه جابر إليه وقال : يا محمد ! محمد
رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)يقرأ عليك السلام ، فقالوا لجابر : كيف ذلك يا ابا عبد الله ؟
فقال : كنت مع رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)والحسين في حجره وهو يلاعبه ، فقال :
يا جابر يولد لابني الحسين ابن يقال له علي إذا كان - يوم القيامة - نادى مناد ليقم سيد العابدين ، فيقوم علي بن الحسين ، ويولد لعلي ابن يقال له محمد ، يا جابر إن رأيته فاقرأه مني السلام واعلم أن بقاءك بعد رؤيته يسير . فلم يعش ( جابر ) بعد ذلك إلاّ قليلاً ومات(6). وبعد والده اضطلع بمقام الإمامة العامة .
الإمامة وعلم الأنبياء :
عندما آلت شمس بني أمية إلى المغيب وضعفت سلطتهم بفعل الثورات الرسالية المتلاحقة .. وجد الإمام الباقر (عليه السلام)فرصة لنشر معارف القرآن التي كانت مستوعبة في الصحيفة التي توارثها أهل البيت (عليه السلام)من رسول الله ..
في ذلك اليوم كان المجتمع الإسلامي بحاجة إلى معارف القرآن ، إنه قد اتسع في كل أفق وأصبح خيمة تشمل شعوباً مختلفة وبقايا حضارات ، فعلى أي أساس نقيم هذا المجتمع الجديد .. وماهي قِيَمه التوحيدية وأطر الثقافة العامة وروح قوانينه في مختلف الحقول ..
بالأمس نشر الإمام السجاد (عليه السلام)راية التوحيد عبر أدعيته وابتهالاته . وصنع بها حياة المجتمع المسلم وبالذات المجتمع الرسالي التابع لخط أهل البيت عليهم السلام .
أما اليوم فإن تلك القاعدة التوحيدية الرصينة قد رست ، ويأتي الإمام الباقر (عليه السلام)ليبني عليها صرح المعارف . ويكمله الإمام الصادق (عليه السلام)ببيان المزيد من التفاصيل في الحكمة الإلهية والتفسير والفقه ..
ماهي المعارف التي نشرها الإمام الباقر (عليه السلام)وكيف استطاع إليها سبيلاً ؟
قد يسلك في طريق العلم من التجارب الجزئية صعوداً إلى القواعد العامة . وقد ننطلق من تلك القواعد إلى المفردات الجزئية . وبينما السبيل الأول هو منهج عموم الناس في بلوغ العلم ، فإن المنهج الثاني هو سبيل علم الأنبياء وأوصيائهم المتصلين بالوحي ، ومن هنا جاء في الحكمة المأثورة : العلم نقطة كثَّرها الجاهلون .
والأساس الظاهر لعلم الرسول وخلفائه المعصومين عليهم السلام ، هو القرآن المفسر بالحديث النبوي ، ولكن الأساس الحقيقي هو نور العقل الذي يتوهج بالإيمان والإلهام في افئدة العارفين بالله .. ذلك العقل الذي أوتي الناس منه قدر ضئيل وأكمله الله لنبيِّه وأوصياء نبيّه . وإن توهج نور العقل عند أبناء البشر . وتجليه في تلك المعارف الأولية التي يعرفها كل شخص ، وفي تلك القيم التي يتحاكم الناس إليها فيما بينهم . وفي تلك الإضاءات التي نجدها عند طائفة من الناس دون غيرهم تجعلهم نوابغ وعظماء كبار ..
كل ذلك يهدينا إلى معنى العلم الكوني الذي يلقيه ربنا في روع الصفوة من أوليائه .. وجاء في الحديث الشريف : " العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء " .
وترى بعض الناس يتشكك في مثل هذا العلم عند الأنبياء والأئمة ، والمحدثين من فقهاء الأمة .. يستشهد بقول الله سبحانه : { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَيَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ } (7)
وقوله : { قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالاَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ الله } (8)
حقّاً إذا كان مراد هؤلاء أن الإنسان لايعلم الغيب بصفة ذاتية ، فإنه حق لاريب فيه ، ولكن : إذا أرادوا أنَّ الله لايقدر على تعليم الغيب لبعضهم ، نقول : بلى هو قادر ، أليس كلنا يعرف قدراً من العلم بالمستقبل ، فمثلاً أولسنا نعرف أننا نموت وأن الساعة آتية لاريب فيها . وان الله يبعث من في القبور . وأن الشمس تشرق غداً وهي لابدّ غاربة اليوم ؟ وعشرات من المعارف المستقبلية التي تشكل أكثر من نصف معلوماتنا وهي أساس العلم ، والهدف الأساسي منه ؟
والله سبحانه علّم الإنسان مالا يعلم ، والوحي جزء من علم الغيب الذي علّمه ربنا لمن ارتضاه من عباده .. وقد قال ربنا سبحانه : { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً } (9)
وقال : { وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ الله يَجْتَبِي مِن رُسُلِهِ مَن يَشَآءُ فَاَمِنُوا بِالله وَرَسُولِهِ وإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ } (10)
وقال : { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ }(11)
وأخيراً : إن هؤلاء شككوا في " مدى " علم الأنبياء والأوصياء ، إنهم لم يستوعبوا كيف يمكن لبشر محدود أن يبلغ علم الحقائق من لدن رب العزة ، فهم ينطلقون في تكذيب هذا " المدى " من العلم من ذات المنطلق الذي كذب الأولون بالنبوة ، وهو الجهل بالمقام الذي جعل للإنسان الذي يتوجه إلى الله ويخلص له وجهه ، بيد أن هؤلاء " اضطروا " إلى الإعتراف بالنبوة ، ولما يعرفوا أبعادها فقلصوها إلى أقل قدر ممكن ، وحاولوا الكفر بمعاجز الأنبياء وبمقاماتهم الرفيعة أنى استطاعوا إلى ذلك سبيلاً ، وإذ أعجزتهم الحيلة في ذلك عمدوا إلى الأوصياء فنفوا كرامتهم على الله ، وإمكانية تلقيهم العلم من مصدر الغيب إلهاماً ، وإذا أنصفوا أنفسهم وأنصفوا للحق لما وجدوا مانعاً عقلياً من الإعتراف بذلك ، بعد أن توافرت أدلة بالغة القوة تهديهم إليه من خلال دراستهم لكلماتهم من دون تعصب أعمى أو أحكام مسبقة .وقد ابتلى الإمام الباقر (عليه السلام)، شأنه شأن سائر الأئمة عليهم السلام بنمطين متنافرين من الناس ، فبينما زعم بعضهم أنه ليس من البشر وبذلك مرق من الدين بسبب غلوه ، نجد كثيراً من الناس لم يعترفوا بمقامه الكريم .
من النمط الأول كان المغيرة بن سعيد الذي غلا في الدين وكذب على الإمام الباقر (عليه السلام)، حتى قال عنه الإمام لبعض أصحابه ( سليمان اللَّبان ):
أتدري ما مثل المغيرة بن سعيد :
قال قلت : لا .
قال : مثله مثل بلعم الذي أوتي الاسم الأعظم الذي قال الله { ءَاتَيْنَاهُ ءَايَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَاَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ } (12).
أما النمط الثاني فهم أغلب الذين لم يحتملوا علم الإمام ومعرفته بما لا يعرفون ، وكرامته على الله ، واستجابة الله دعاءه في الأمور !!
فهؤلاء لاينكرون فضائل أهل البيت عليهم السلام فقط ، بل ويرون أنها من المستحيلات ، لماذا ؟ لأنهم لما يبلغوا معرفة أنبياء الله وأوليائه عليهم صلوات الله ومعرفة كرامتهم على الله . ولو كانوا يتفكرون في خلق الإنسان وكيف استخلفه الله في الأرض ، وسخر له ما فيها بما آتاه من علم وقدرة ، لعرفوا أن من حكمة الله سبحانه أن يفضل بعض الناس على بعض في العلم ، وليهب لمن أطاعه وأخلص له المزيد من المعرفة سواء عبر الوحي كالرسل أو عبر الإلهام ، كما فعل بأوصياء الرسل .
ثم إن ما أوحى به الله من الكتاب فيه آفاق من العلم لا يبلغها إلاّ من امتحن الله قلبه بالإيمان ، لأنه نور الله الذي يشع من مشكاة النبوة . إنه
ذكر الله الذي يرتفع من بيوت الأوصياء كما قال سبحانه :
{ الله نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالاَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ }(13)
قال : { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله }(14)
ثم قال : { وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ } (15)
هكذا نور الله الذي منح جزءاً بسيطاً منه للإنسان ، فإذا به يعرف علما يسخر به كل شيء من حوله ، إنه لو سلب منه ترى ماذا يبقى له ؟ هل يستطيع آنئذٍ أن يعرف شيئاً . فلو اجتمعت البشرية وحاولوا إعادة مجنون إلى رشده . أو شيخ مخرف إلى سابق علم ، أو تعليم هرة دروس الرياضيات ، هل استطاعوا إلى ذلك سبيلاً ؟ كلا .. فلماذا ينكرون على الله الذي منح البشر هذا النور أن يكون قادراً على مضاعفته لخيرة عباده ؟
هكذا نعرف أن الوحي والإلهام هما في إطار سنن الله في خلقه ، يقبلهما العقل ويطمئن إليهما القلب .
وعلم أئمة أهل البيت عليهم السلام لايخرج من دائرة هذه السنن أيضاً ، فإما أنَّه مستوحىً من الوحي أو بالإلهام .
ويتصل علم الأئمة بالوحي عبر السبل التالية :
أولاً : العلم من كتاب الله . بالتدبر فيه وتأويل آياته على الحقائق والوقائع . أليس في القرآن علم ما كان وما يكون ، وفصل ما هو كائن ، ومن أولى بكتاب الله ممن أنزل في بيوتهم وزقوا علمه مع اللبن زقاً .
وقد كان الأئمة عليهم السلام شديدي الوله بالقرآن ، عظيمي الإحترام له ، وكانوا يختمونه في كل ثلاثة أيام مرة ، وربما في كل يوم ، وكانوا يقولون أنهم يستفيدون منه علماً جديداً كلما أعادوا قرائته حتى أنهم استفادوا علم الآفاق من آياته الكريمة ، فقد قال الإمام الصادق (عليه السلام)- فيما روي عنه - :
والله إني - أعلم ما في السماوات وأعلم ما في الأرض وأعلم ما في الدنيا وأعلم ما في الآخرة - .
فرأى تغير جماعة - فقال وهو يخاطب بكير بن أعين :
يا بكير إني لأعلم ذلك من كتاب الله تعالى إذ يقول : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ }(16)
ثانيا : أحاديث الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم)والتي توارثوها من آبائهم عبر جدهم الأعلى الإمام أمير المؤمنين ، وجدتهم الطاهرة فاطمة الزهراء عليهم االسلام جميعاً.
فقد جاء في الحديث المأثور عن الإمام الباقر (عليه السلام)أنه قال لجابر بن عبد الله :
يا جابر إنّا لو كنا نحدثكم برأينا وهوانا لكنا من الهالكين ، ولكنّا نحدثكم بأحاديث نكنزها عن رسول الله كما يكنز هؤلاء ذهبهم وورقهم(17)
ومعروف أن خزائن علم النبوة كانت قد انتقلت إلى رسول الله . وورثها أهل بيته (عليه السلام). ويبدو أنها كانت مكنونة في جفر عظيم .
حيث جاء في الحديث المروي عن الإمام الصادق (عليه السلام)أنه قال : إن عندي الجفر الأبيض .
فلما سأله الرواي وأي شيء فيه ؟ قال :
زبور داود وتوراة موسى وإنجيل عيسى وصحف إبراهيم والحلال والحرام ومصحف فاطمة ، ما أزعم أن فيه قرآناً ، وفيه ما يحتاج الناس إلينا ، ولا نحتاج إلى أحد ، حتى أن فيه الْجُلدة ونصف الْجَلدة وثُلث الْجَلدة وربع الْجَلدة وأَرشُ الخدش ، الحديث(18)
وكان في هذا الجفر مجموعة تراث أهل البيت من أحاديث النبي .
منها مصحف فاطمة وهو مجموعة أحاديثها التي كتبها الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)في صحيفة ، وحسب ما جاء في رواية أن فيه ما يكون من حوادث وأسماء من يملك إلى أن تقوم الساعة(19)
كما أن من تراثهم كتاب يسمى بالجامعة ، وهو من إملاء رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)وكتابة أمير المؤمنين (عليه السلام)
طوله سبعون ذراعاً وفيه أحكام الشريعة كلها .
هكذا جاء في حديث مروي عن أبي بصير عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام)قال :
سمعته يقول وذكَّر ابن بسترمه في مسألة أفتى بها : أين هو من الجامعة إملاء رسول الله بخط علي فيها جميع الحلال والحرام حتى أرش الخدش(20)
وهذا التراث العلمي كان ينتقل من أئمة أهل البيت عليهم السلام من كابر لكابر ، ووجوده عند واحد من أبناء الإمام الراحل كان شاهداً على أنه وصيه . لذلك نقرأ في تاريخ الإمام الباقر (عليه السلام)أن والده الإمام السجاد (عليه السلام)التفت إلى ولده وهو في مرض الموت وهم يجتمعون عنده ، ثم التفت إلى محمد بن علي ابنه . فقال :
يا محمد هذا الصندوق فاذهب به إلى بيتك ثم قال .. أما إنه لم يكن فيه دينار ولا درهم ولكنه كان مملوءاً علماً .
ونتساءل : كيف تجتمع أحكام الشريعة كلها في كتاب محدود طوله سبعون ذراعا؟ لعل ذلك الكتاب كان محتوياً على أصول العلم ومعاقله وضيائه ، حيث كان الأئمة عليهم السلام يستلهمون منها سائر أبواب العلم . كما علَّم النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)الإمام علياً (عليه السلام)أبواب العلم جميعاً بهذه الطريقة ، حيث جاء في الحديث المأثور عن الإمام الصادق (عليه السلام): أوصى رسول الله إلى علي بألف كلمة يفتح كل كلمة ألف كلمة(21)
وفي تعبير آخر جاء على لسان الإمام الباقر (عليه السلام)عن جده أمير المؤمنين أنه قال : لقد علمني رسول الله ألف باب يفتح كل باب ألف باب(22)
وهكذا بيَّن الأئمة أن عندهم أصول العلم ومعاقله مما يظهر أنها هي التي في تراثهم من الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم)، فقد جاء في الحديث المأثور عن الإمام الباقر (عليه السلام)أنه قال :
" إن رسول الله أنال في الناس وأنال وأنال ، وإنَّا أهل بيت عندنا معاقل العلم ، وأبواب الحكم ، وضياء الأمر .. " .
وفي حديث مأثور عن الإمام الصادق (عليه السلام)أنه قال : " إن رسول الله قد أنال في الناس وأنال وأنال ، - يشير كذا وكذا - وعندنا أهل البيت أصول العلم وعراه وضياؤه وأواخيه "(23)
المصادر :
1- الكهف/110
2- ابراهيم/11
3- بحار الأنوار: (ج 46 ص 332 ) .
4- بحار الأنوار : ( ج 46 ، ص 215 ) .
5- بحار الأنوار (ج 46 ص 217 ) .
6- بحار الأنوار( ج 46 ص 227 ) .
7- الانعام/59
8- النمل/65
9- الجن/26-27
10- آل عمران/179
11- آل عمران/44
12- الاعراف/175/ بحار الأنوار : ( ج 46 ، ص 332 )
13- النور/35
14- النور/36
15- النور/40
16- بحار الأنوار : ( ج 26 ، ص28 )/ النحل 89 .
17- بحار الأنوار : ( ج 26 ص 28 ) .
18- بحار الأنوار : ( ج 26 ص 37 ) .
19- بحار الأنوار : ( ج 26 ص 37 ) .
20- بحار الأنوار : ( ج 26 ص 18) .
21- بحار الأنوار : ( ج 46 ، ص 229 ) .
22- بحار الأنوار : ( ج 26 ، ص 29 ) .
23- بحار الأنوار : ( ج 26 ص 31 ) والأواخي جمع أوخية وهي ما يشد به الدابة أي ما يحفظ به العلم .
source : rasekhoon