عربي
Saturday 23rd of November 2024
0
نفر 0

الرسول الاکرم والبيت الهاشمي

قال الأستاذ العقاد في كتابه (عبقرية الامام) ان الرسول الأكرم صلی الله عليه وآله وسلم قد اتقى العصبية الهاشميّة، وتجنّب أن يعيّن علياً رغم لياقته وجدارته(1).
الرسول الاکرم والبيت الهاشمي


قال الأستاذ العقاد في كتابه (عبقرية الامام) ان الرسول الأكرم صلی الله عليه وآله وسلم قد اتقى العصبية الهاشميّة، وتجنّب أن يعيّن علياً رغم لياقته وجدارته(1).
ونحن مع الاستاذ في ان الرسول صلی الله عليه وآله وسلم اتقى العصبية الهاشمية، وهو أنزه وأطهر وأسمى من أن يلين العواطف والنزعات القبلية على حساب الرسالة أو باسم الرسالة.
لكن هل صحيح أن استخلاف علي (عليه السلام) هو وجه من وجوه العصبية للبيت والأسرة؟
ولو أنا أنكرنا الاستخلاف فهل سَلِم الرسول صلی الله عليه وآله وسلم من شبهة التعصب القبلي الحقيقة ان استخلاف علي (عليه السلام) إنّما هو على اساس القابليات لا القبليات.
لم يتدنَّس علي (عليه السلام) بالقيم والمفاهيم الجاهلية لحظة واحدة، وهذه ميّزة انفرد بها.
وملازمته الدائمة لرسول الله، وهذه ميّزة ثانية.
والإخلاص المتفاقم للرسالة، والمنقطع النظير، وهذه ميّزة ثالثة.كل هذه وهبته اللياقة لأن يستوعب الرسالة، ويجسدها في شخصه. ولأن يكون قمة الطليعة التي اهتم رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) بانشائها وتكوينها.
ولقد كان المسلمون يعرفون لعلي (عليه السلام) مقامه.
لقد كانوا ينظرون إليه كما ينظرون إلى النجم.
ولقد كانوا يقولون إذا جاء علي: جاء خير البريّة.
ولقد كانوا على عهد رسول الله يعرفون المنافقين ببغضهم لعلي.
لقد كان هو الواجهة بكل ما تعنيه هذه الكلمة، الواجهة لا على أساس أنه من البيت الهاشمي، والاّ فان العباس أقرب منه نسباً، وأطول منه عمراً، وأكثر منه تجربة بالقياس الزمني، مع هذا لم يجعله الرسول واجهة، ولا خلفيّة.
لقد كان الواجهة على أساس المؤهلات، والكفاءات، التي اتضح لكل أحد أنه يملك منها ما لا يملكه الآخرون من البيت الهاشمي ومن غيره.
ولم يكن النبي محمد صلی الله عليه وآله وسلم بحاجة إلى أن يشرح هذه اللياقة، ويعلن عن هذه المؤهلات، إنّما كان المسلمون يشهدونها في كل موقف لعلي، ولقد كان ذلك مثاراً للحسد أي مثار، كما كان مثاراً لأن تنصب عليه الاحقاد التي وجدت في علي واجهة الرسالة وواجهة الرسول، وهم يحقدون على الرسالة ويحقدون على الرسول صلی الله عليه وآله وسلم.
وإذا كان يجب طرح العصبيات والقبليات فإنّه لا يجوز تضييع القابليات، وتفتيت المواهب على حساب مصلحة الرسالة والدين.
والعصبيّة ماذا تعني؟ انها تعني الميل والترجيح لا على اساس الكفاءة، وكما كان يصنعه عثمان مثلا مع فتيان بني أمية وتقديمهم على سائر المهاجرين والأنصار وكل المسلمين.
أما إذا بقيت الكفاءة واللياقة هي الميزان، فلا مانع هنا من الميل إلى القريب وإلى الصديق وإلى الابن وإلى الصهر وإلى أي أحد، دون أن يكون ذلك عصبية وتعصّب، وانحياز وتحيّز.
هذا هو ما كان من رسول الله صلی الله عليه وآله وسلم.انظروا.. لقد كان هناك عمّه العباس، وكان عقيل، وكان جعفر، فهل صنع لهم ما صنع لعلي؟ ان منطق العصبية ينبغي أن لا يفرّق بينهم، كما كان عثمان مثلا لا يفرق بين بني أميّة. لكن محمداً صلی الله عليه وآله وسلم خالف قوانين العصبية لأنه لا يعرف العصبية، ولا يسير على توجهيها.
على انه لو صحّ لنا أن نفهم الاستخلاف على أنه عصبية هاشمية، إذن لكان الرسول صلی الله عليه وآله وسلم متورطاً في هذه العصبية حتّى لو أنكرنا الاستخلاف.
أليس الرسول صلی الله عليه وآله وسلم قد خصّ بني هاشم بالخمس، ونزل به القرآن؟ وأليس هو قد جعل أجر الرسالة مودة أهل البيت، ونزل به القرآن؟
أليس هو كان يقف ولمدة ستة أشهر على باب علي وفاطمة يقرأ قوله: {اِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ اَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}؟(2)
إذن فهذه عصبية على منطق العقّاد.
ثم لنفرض انه لم يستخلف علياً; أليس قد طار به كما يطير بجناحين؟ أليس قال صلی الله عليه وآله وسلم عن علي (عليه السلام) انّه: (سيد العرب) (مع الحق) (الايمان كلّه) (لحمه من لحمي ودمه من دمي) (عادى الله من عادى علياً) (من سبّ علياً فقد سبّ الله) (حبّه ايمان وبغضه نفاق)(3)، إلى مئات من هذه المقولات ، يكررها الرسول صلی الله عليه وآله وسلم في كلّ مكان ولأدنى مناسبة، فهل كان الاستخلاف أكثر من هذه كلها ليكون فيه عصبية ولا يكون في اعطاء هذه المقامات لعلي عصبية.
ثم أليس هو قال: " يكون بعدي اثنا عشر خليفة كلهم من قريش "، فلماذا التعصب لقريش؟ إذا كنّا نفكّر بطريقة العقّاد.
فكما لا يجوز التعصب للبيت الهاشمي، فإنّه لا يجوز التعصب لقريش ولا للعرب كلّهم، فهل يرضى العقاد لرسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) أن يتعصب لقريش، ولا يرضى له أن يتعصّب للبيت الهاشمي.
الحقيقة انها ليست عصبية، حينما تكون الكفاءات هي المعيار الوحيد، وهذا هو ما كان من رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) في علي.وكما ان الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) حرص على أن يلتزم الموضوعية في علاقته من علي، كان حريصاً أيضاً على كشف هذا الجانب، وايضاحه من أجل دفع الظنون، والابهامات، والتشويهات التي يتذرع بها خصومه وخصوم الإمام علي (عليه السلام). ومن هنا فقد سجّل ظاهره ألفتت نظر معاصريه ونظر مؤرخيه.
فقد لوحظ انه تجنَّب عن تولية بني هاشم ولاية الأمصار وقيادة الجيوش ـ فيما عدا علي (عليه السلام) بالطبع ـ وهذه ملاحظة صحيحة تاريخياً، فانه لم يثبت أن أحداً من بني هاشم تولى مصراً، أو قيادة جيش، فيما عدا جعفر بن أبي طالب في الهجرة إلى الحبشة، وفي معركة مؤتة التي استشهد فيها.
وهذه الظاهرة لاحظها عمر في حديث له مع ابن عباس.
وإذا بدت هذه الظاهرة غريبة التفسير في البداية، فانها تصبح واضحة ومتناسقة إذا أخذنا بعين الاعتبار ان الرسول صلی الله عليه وآله وسلم كان يرفع علياً، ويجعله في صفّه أخاه، ثم نفسه، ولا يؤدي عنه الاّ هو، ولا يخلفه أحد في المدينة الاّ هو، وليس للأمة مرجعاً الاّ هو، وهكذا.
فهو يرفع علياً من جانب، ويسكت عامداً عن بني هاشم في الجانب الآخر، وهو يفرد علياً بمقام ليس لأحد من بني هاشم نصفه ولا ربعه.
تفسير ذلك انه يريد ان يعطي للأمة المفهوم الصحيح لعلاقته من علي، كما يعطي هذا المفهوم لبني هاشم أنفسهم.
فليس هو عصبية، ولا نزوع إلى القبليات، ولا ميول عشائرية، حينما يستخلف علياً ويشيد بمقامه، إنّما هي الكفاءة وحدها.
هكذا ستعرف الأمة ـ وان غالطلت أحياناً، ونافق معها المنافقون ـ لأنها لو كانت مسألة عصبية، فلماذا اختصّ علياً بهذا الصنيع وترك عشيرته عن عمد، بينما ولّى بني أمية وغير بني أميّة، ممن ليسوا بأكثر كفاءة ولا اخلاصاً للرسالة من سائر بني هاشم.
ستقول الأمة ذلك، وتعطي جوابه بوجدانها.
وهكذا سيعرف بنو هاشم أنفسهم، لكي لا يأخذهم الطمع، والطموح إلى المقامات العليا.ومن هنا لاحظنا تاريخياً ان بني هاشم جميعاً كانوا ينادون باسم علي، ولم يخطر على بال أحد منهم أن ينازع علياً في مقامه من الرسول، حتّى العباس نفسه الذي هو عمّ النبي، وشيخ من شيوخ قريش، لم يزاحم علياً ولم ينازعه، وإنّما قال له يوم مات رسول الله: " أمدد يدك أبايعك " هكذا بكل برود وبساطة، ولأنه لو أراد أن ينازع لم يصغ إليه أحد من الأُمة الذين عرفوه وعرفوا علياً.
والعجيب من العقاد حين أراد أن يدافع عن خلافة أبي بكر، ذكر ان الناس لا يتفقون على اختيار واحد من ثلاثة من بني هاشم "علي والعباس وعقيل".
هل سمعتم احداً دعا إلى العباس أو عقيل، وما أكثر الذين دعوا إلى علي، حتّى العباس نفسه دعا إلى بيعة علي قبل كلّ الناس، وحين جاء أبو سفيان ليبايعه بعد أن يئس من علي، قال بسخرية واستهزاء: " يدفعها علي ويطلبها العباس!! ".
وهذه الأمة التي زعم العقاد انها ستختلف في الثلاثة، لماذا أهملت عقيل كل الاهمال يوم مات عثمان فبايعت علياً، ولم تختلف بينه وبين عقيل.
لقد كان واضحاً عند الأمة وعند بني هاشم ان لعلي مقاماً من الرسالة ومن الرسول لا يدنو إليه أحد.

احتياطات أخيرة

كل شيء قاله الرسول صلی الله عليه وآله وسلم من أجل ترسيخ وجود الطليعة في الأمة.
وكل جهد بذله صلی الله عليه وآله وسلم من أجل وضع القيادة بيد الطليعة، وبيد عليّ الذي يمثّلها، ويمثّل الرسول صلی الله عليه وآله وسلم.
لكن المواجهة التي يلقاها علي، والتي تراءت على الوجوه، وظهرت على الألسنة كانت صعبة صعبة، وضخمة ضخمة، إلى مستوى يتوجّس الرسول صلی الله عليه وآله وسلم أن تقف أمامه بصراحة وجهاً لوجه، فتعرقل مساعيه، والاّ فما معنى ان يطمئنه الوحي قائلا: {وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ} يوم أراد أن يعلن الكلمة الأخيرة باستخلاف علي، وينبغي أن نعرف هنا أن من يخافهم الرسول صلی الله عليه وآله وسلم على مستقبل الدعوة ليس هم
المنافقون وحدهم. إنّما هم جماعة من المهاجرين والأنصار أنفسهم. جماعة من صحابة الرسول صلی الله عليه وآله وسلم ، هم الذين يخشى ويتوقع مواجهتهم له، واحباط مساعيه الأخيرة فيما يتعلق باستخلاف علي.
جماعة من الصحابة هم الذين حدّث عنهم في أكثر من مرّة في حديث وقوفه على الحوض في المحشر وقدوم جماعة من أصحابه يذادون عن الحوض فيقول: أصحابي أصحابي فيُجاب: انّك لا تدري ما أحدثوا بعدك!!
وعلى أي فقد كان حريصاً على حلّ العقدة، وتذويب المشكلة، وسدّ الطريق على قوى المواجهة التي يتوقع ان تقف ضدّ علي.
كان حريصاً على ذلك حرصه على الرسالة كلها.
وكان من مظاهر هذا الحرص انه كان يضع لبنات المستقبل في اللحظة التي يضع فيها لبنات الحاضر، كان يذكر علياً، ويذكر الطليعة، ويوصي، ويُحذر، ويدفع، ويرغّب، ويقوم ويقعد بقضية علي، قضية مستقبل الرسالة.
وكان من مظاهر هذا الحرص انّه حين أعلن يوم الغدير عن استخلاف علي، أمر المسلمين جميعاً، أن يسلّموا عليه بأمرة المؤمنين.
كان يقصد إلزام الأمة، وتشديد وتأكيد التزامها بعلي، فهو لم يبين لهم الحقيقة فقط، وإنّما أخذها على لسان ويد وسمع كل واحد منهم.
خطوة تنبئك عن حجم الاهتمام، كما تنبئك عن الأزمة التي تدعو لهذا الاهتمام. وبالفعل فقد قامت الألوف المؤلفة، تبايع علياً وتشهد الله على سمعها، وقلبها، ولسانها، ويدها، وتسلّم عليه بأمرة المؤمنين.
الرواية الشيعيّة تتحدّث كثيراً عن تصدّي الفئات غير الراغبة في علي حينما أعلن الرسول استخلافه، وتتحدث عن تصميمها وعزمها على نقض هذا القرار، وعن خطواتها في هذا الطريق من الآن وحتّى مات الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم).
لكنا نترك الرواية الشيعية، لأن هناك من لا يثق بها، ولأن بعضها ـ فرضاً ـ قابل للمناقشة في سنده، ولأننا آثرنا في دراستنا هذه أن نعتمد على ما ترويه مصادر أهل السنّة.وعلى أي، فقد كان الرسول حريصاً على أن يضمن مستقبل التجربة الإسلامية. وكان من مظاهر هذا الحرص سريّة اسامة، التي تبدو واقعة في غير موقعها الطبيعي، إذا لم نربطها بقضية الاستخلاف.
لقد ظهر الرسول صلی الله عليه وآله وسلم مهتماً بهذه السريّة أشدّ ما يكون الاهتمام.
حتّى وفي حال المرض، بل وفي حال يخشى عليه، فقد كان يغمى عليه ساعة بعد ساعة، في هذا الحال كان حريصاً كل الحرص على أن يخرج الجيش.
ولقد كان أضخم جيش أشرك فيه وجوه المهاجرين والأنصار، وفيهم أبوبكر وعمر باجماع المؤرخين، وهو أمر لم يعهد من قبل، وبدا كما لو كان شيئاً مقصوداً متعمداً.
واغرب من كل ذلك انه اعطى قيادة الجيش لأسامة، وهو شاب لم يتجاوز عمره عشرين سنة بإجماع الروايات.
إذن أين المهاجرون؟ أين الأنصار؟
ولقد اعترضوا عليه (صلی الله عليه وآله وسلم) حين أمَّر هذا الشاب، فخرج مغضَباً، وهو معصَّب الرأس من المرض، فقال: " ما قالة بلغتني عن بعضكم في تأميري اسامة، ولئن طعنتم في تأميري أُسامة، لقد طعنتم في تأميره أباه من قبله، وأيم الله إن كان لخليقاً بالإمارة، وان إبنه من بعده لخليق بها ".
حقاً كان اسامة خليقاً، لكن أين الآخرون؟ هل فقدوا اللياقة؟ ولماذا يتقصد الرسول أن يجعل أسامة لا غير؟ هل من الجدير أن تعطى القيادة لشخص لا يرغب فيه الجيش، وهو كفوء لكنه ليس بأكفأ الموجودين قطعاً. فهناك أصحاب المراس الطويل في الحرب.
هنا يقولون:
" كان لأسامة ثأر عند هؤلاء العرب الذين قتلوا أباه يوم مؤتة، وعسى أن يكون النبي صلی الله عليه وآله وسلم قد لاحظ هذا الثأر حين أمَّر اسامة على حداثة سنّه، وحين جعل في جيشه خيرة أصحابه "(4).
ولكن هل صحيح ما يقولون؟أنا أدري أن الثأر يعطي الحماس والاصرار والعناد، لكن هل هذا كل شيء في القائد. القائد الذي يمشي تحت لوائه مشايخ المهاجرين والأنصار وعينة جيش الإسلام، القائد الذي يأمر ويوجّه ويخطّط، ويتقدم أو يتراجع أو ينحرف، القائد الذي يدخل قلب المعركة، ويواجه العدو بنفسه لا بجيشه فقط.
مثل هذا القائد كم يجب أن يكون بطلا ذا مراس، شجاعاً ذا حنكة، فهل الثأر يعطي كل ذلك؟؟ وأسامة لم يتجاوز العشرين، نعم لم يتجاوز العشرين؟!!
وهؤلاء الذين ضحّوا في الإسلام ألا يملكون مثل حماس أسامة؟!
ثم في أخطر معركة كيف تعطى القيادة لمن لا يثق به الجيش، ولا يرغب فيه؟ أليس قد اعترضوا على رسول الله في ذلك؟
ثلاثة غرائب في هذه السريّة تحتاج إلى تفسير:
اهتمام الرسول بها وهو في أشد حالات المرض.
واشراكه فيها وجوه المهاجرين والأنصار حتّى لم يبق منهم أحد.
وتأميره أسامة وهو شاب حَدِث السن.
وهناك شيء غريب رابع:
تلكؤ الجيش باستمرار، مهما حثَّهم الرسول وأمرهم بالاسراع، حتّى كان ينادي: " جهّزوا جيش أُسامة، نفذوا جيش أُسامة، لعن الله من تخلَّف عن جيش أُسامة " وهم يتخلفون، يتأخرون.
لماذا إذن هذا التخلّف وهم يصرّون عليه؟ هل كانوا لا يصبرون على فراق الرسول صلی الله عليه وآله وسلم؟ إذن كيف يزعجونه ويخرجونه من فراش مرضه، محموماً، مألوماً، معصَّباً، ويصعد المنبر، وليس الحال حال خطابة، فيقول ما سمح له المرض أن يقول ثم يرجع؟!
أم كانوا يخافون على الأمة بعد الرسول صلی الله عليه وآله وسلم؟ يخافون على الخلافة بعد الرسول كيف تكون؟ ولمن تكون؟
نعم، ذلك ما أرادوه، وأراد الرسول صلی الله عليه وآله وسلم خلافه.أراد أن يمهّد الأرض لعلي، حين تكون المدينة خالية ممن يتوقع أن يواجهوا علياً، وهؤلاء تحت قيادة أسامة مأمورون، أمّا أسامة فكان هو القائد لئلا يطعنوا بعد ذلك في خلافة علي وهو أكبر منه سناً، وكان هو القائد لا شيوخ قريش; لأنه لا يتوقع أن يكون أسامة معارضاً لعلي، وطالباً الخلافة لنفسه.
وبذلك تنحلّ كل الغرائب وتبدو طبيعية، أليس هي تَحقّق المطلوب؟
وبمقدار ما تبين لنا هذه القصة حرص الرسول صلی الله عليه وآله وسلم على وضع الخلافة بيد علي (عليه السلام)، تبين لنا أن قوى المعارضة بدأت تتحرك بسرعة، وتصعّد تحركاتها، لأن اللحظات حاسمه ودقيقة.
وكان من مظاهر حرص الرسول قصة الكتاب، فالمؤرخون يذكرون أنه " لما حُضر رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب، قال النبي: هلمّ أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده.
فقال عمر: ان النبي قد غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله.
فاختلف أهل البيت فاختصموا، منهم من يقول: قرّبوا يكتب لكم النبي كتاباً لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر. فلما اكثروا اللغو والاختلاف عند النبي، قال لهم صلی الله عليه وآله وسلم: قوموا ".
فكان ابن عباس يقول: " ان الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم ".(5)
يكاد يتفق الباحثون، كما أن كل القرائن تدل على أن موضوع هذا الكتاب أمر يتعلق بالخلافة، وبمستقبل الأمة القريب.
كما أنه لا يمكن أن يكون المقصود بيان حكم شرعي، فأي حكم شرعي هو الذي "لا تضلوا بعدي أبداً لو تمسكتم به" وهل يحتاج الحكم الشرعي إلى دواة وكتف؟ وأي حكم شرعي هذا الذي ينزل في ساعة احتضار الرسول ولم ينزل من قبل؟
إنّما هو أمر يتعلق بشأن من شؤون الدولة، ونظام الخلافة. وتدل القرائن أيضاً على أنه أراد الوصية لعلي، أراد تأكيد خلافته وتعزيزها بوثيقة كتبية لا تقبل الشك والارتياب، أراد أن يقطع الطريق على من سينازع علياً في أمر الخلافة.ما هي هذه القرائن..؟
أولا: تُجمع مصادر التاريخ والحديث على ان الرسول كان يقول قبل هذه الأيام: " انّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً ".
وكان يمهّد لهذا القول دائماً بقوله: " أيها الناس يوشك أن أقبض قبضاً سريعاً " أو " انّي أوشك أن أدعى فاُجيب " وثالثة " انّي مقبوض " فهو إذن يحدِّثهم عن وصيته، وعن كلمته الأخيرة لهم لأنه يوشك أن يدعى فيجيب.
ووصيّته هذه " لا يضلوا بعدها أبداً " ما ان تمسكوا بها.
وهو في قصة الكتاب أيضاً يريد أن يوصي وصيّةً لا يضلوا بعدها أبداً كما
قال صلی الله عليه وآله وسلم. إذن أليست الوصية بالكتاب هي نفس الوصية بالمقال.
فهو بالأمس يقول: " انّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً ".
وهو اليوم يقول: " آتوني بدواة وكتف اكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً " عجباً، هل هو شيء آخر غير الوصية بالكتاب والعترة، إذن فما هي الحاجة إليه مع وجود الكتاب والعترة؟ أو هو نفس الوصية بالكتاب والعترة أراد الرسول أن يؤكده بالكتاب حسماً لاحتمالات النزاع؟
ثانياً: روى البخاري بعدما نقل قصة الكتاب، ان ابن عباس كان يقول:
" وأوصى ـ رسول الله صلی الله عليه وآله وسلم ـ عند موته بثلاث: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم، قال: ونسيت الثالثة...!! ".
كيف ينسى حبر الأمة هذه الوصية، ولو نسيها فهل نسيها كل من حضر مجلس رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) يومذاك، أو ان ابن عباس يجامل الخلافة الحاكمة، ويتجنب إثارتها كما عرف عنه؟
أليست الوصية الثالثة هي الوصية بالعترة، الوصية لعلي؟! والاّ فما معنى أن يجامل ابن عباس في تناسيها.
ثالثاً: حتّى عمر نفسه يحدّثنا عمّا قصد الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) كتابته، فيقول في حديث دار بينه وبين ابن عباس:
" ولقد أراد ـ رسول الله ـ في مرضه أن يصرح باسمه ـ علي ـ فمنعته من ذلك ".ونحن نعرف ان عمر هو الذي قال: ان النبي قد غلب عليه الوجع، ومنع من كتابة الكتاب قائلا: " حسبنا كتاب الله ".
رابعاً: الذي يلفت النظر في هذه القضية اصرار جماعة من الحاضرين على منع رسول الله من كتابة الكتاب، وبمقدار ما كان الرسول مهتماً باملاء هذا الكتاب كانت هذه الفئة حريصة على منعه.
ولقد بدا عمر كما لو كان مستعداً لأن يصنع شيئاً كثيراً في هذا السبيل.
لقد ردّ رسول الله، وأحدث خلافاً بين الحاضرين، ولم يتنازل أبداً، وحين نادت نساء النبي من وراء الستر: " ألا تسمعون ما يقول رسول الله صلی الله عليه وآله وسلم؟ كان المجيب هو عمر نفسه، فقد قال: انكن صويحبات يوسف إذا مرض عصرتن أعينكنّ وإذا صحَّ ركبتن عنقه " وأثار ذلك رسول الله فقال وقد أثقله المرض " دعوهن فانّهن خير منكم ".
هل كان حقاً ان النبي قد غلبه الوجع فهو لا يعني ما يقول؟
ومن غلبه الوجع كيف يتحدّث بمثل هذا الحديث ثم يسمع مقالة بعض الحاضرين ويردهم " انهن خير منكم "، ثم يقول بعد أن كثر الخلاف: " قوموا عني انه لا ينبغي عند نبي نزاع " ثم يؤتى بدواة وكتف فيقول: " أبعد الذي قلتم؟! ".
وهل كان عمر جاداً في قوله: " حسبنا كتاب الله ".
إذن أين كان عن هذا المنطق يوم كان رسول الله يقول: " يوشك أن ادعى فاُجيب واني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً ".
ألم يقل: حسبنا كتاب الله، أوَ كان النبي لا يعرف ذلك؟
ان شيئاً آخر هو الذي دعا بعض الحاضرين لإثارة الخلاف، ولقد كان متوقعاً أن يحدث ذلك بعدما عرفنا شدّة اصرار بعض الرجال من قريش على أن لا يلي علي بعد رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)، وهؤلاء هم الذين خاف الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) فتنتهم يوم الغدير فنزل الوحي قائلا: " والله يعصمك من الناس ".
إنّ عمر نفسه يحدّثنا عمّا دعاه إلى المنع حين قال: " ولقد أراد في مرضه أن يصرح باسمه فمنعته من ذلك ".
ولولا ذاك فما الذي يدعو للمنع؟
لقد كانت فرصة أخيرة أراد رسول الله صلی الله عليه وآله وسلم أن يربحها لمستقبل الرسالة بوضع القيادة بيد الطليعة، بيد علي (عليه السلام) قمة الطليعة، لكن خصوم علي كانوا هنا أيضاً.
المصادر :
1- عبقرية الامام/ العقاد: 138.
2- الاحزاب /33
3- تاريخ دمشق لابن عساکره 42/169
4- الشيخان: 15.
5- صحیح البخاري 114


source : rasekhoon
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

التشيّع إتجاه فكري وسياسي
الحياة العلمية والسياسية في زمن الإمام الباقر ...
البدعة الحسنة والسيئة
المعصومة سلام الله علیها
فکرة عمل الدیود باعث للضوء
حبّ أهل البیت علیهم السلام فی السُنّة المطهّرة
الإمام الباقرعليه السلام وإصلاح الأمّة
استهداف نبي الرحمة (ص) من الراهب بحيرى حتى براءة ...
مع الثورة الحسينية
رساله الامام الهادي ( عليه السلام ) فى الرد على ...

 
user comment