عربي
Saturday 23rd of November 2024
0
نفر 0

الحياة السياسية في عصر الامام العسكري عليه السلام

يبدو أن أهم مايستوقف الباحث في حياة الامام العسكري عليه السلام هو كونه اخر امام ختمت به الامامة الظاهرة ، ليبدأ بعده عصرالغيبة الذي بدأت تباشيره وأوشك زمانه ، لذلك وقع علی الامام العسكري عليه السلام العبء الأكبر في ترسيخ مبدأالغيبة وتأصيله في نفوس
الحياة السياسية في عصر الامام العسكري عليه السلام

يبدو أن أهم مايستوقف الباحث في حياة الامام العسكري عليه السلام هو كونه اخر امام ختمت به الامامة الظاهرة ، ليبدأ بعده عصرالغيبة الذي بدأت تباشيره وأوشك زمانه ، لذلك وقع علی الامام العسكري عليه السلام العبء الأكبر في ترسيخ مبدأالغيبة وتأصيله في نفوس شيعته للحفاظ علي خطهم الرسالي من الاضياع والانهيار. وقداستطاع إمامنا العسكري عليه السلام أن ينجز هذه المهمة الخطيرة بكل جدارة وقوة ، وأن يحافظ علي حياة ولده المهدي عليه السلام من ملاحقة السلطة وأدوات قمعها ، في وقت عصيب عزل فيه الامام عن أصحابه وشددت الرقابة عليه. وفي هذا الاتجاه استطاع أن يهيء ذهنية شيعته لتقبل عصر الغيبة باتباع عين الاسلوب الذي سيتخذه ولده المهدي عليه السلام في عصرالغيبة ، وهو الاحتجاب عن الناس واتخاذ الوكلاء الذين يختارهم من خاصته ، والاتصال بأصحابه عن طريق المكاتبات والتواقيع التي صارت سمة بارزة في حياة الامامين العسكريين عليهما السلام.
وهناك صفحات أخري مشرقة تستوقف الباحث في سيرة هذا الامام العظيم الملأى بالعطاء ، نتركها للقارئ الكريم وهو يتحراها في فصول هذاالكتاب الذي استطاع مؤلفة أن يوقفنا عند المحطات الرئيسية في سيرة هذا الامام العظيم ، ضمن دراسة جادة موثقة بالمصادر المعتبرة.
الحياة السياسية في عصر الامام العسكري (232 ـ260هـ)
لاريب ان الحالة السياسية السائدة في عصر ما تشكل المفصل الاساسي الذي تتحرك عليه مجمل الاوضاع الفكرية والاجتماعية والاقتصادية لذلك العصر ، وتنعكس عليه سلبا وايجابا ، ذلك لان الحاكم يمتلك ـ بسلطته وسطوته وسيطرته علي منابع الثروةـ مفاتيح التغيير الاجتماعي والفكري ببسط اسباب الحرية او الاستبداد ، ويمتلك عوامل الرخاء او الفساد الاقتصادي بعدله او جوره ، وكل ذلك منوط بنوع الجهاز الحاكم وسلوك اجهزتة التنفيذية ، وفيما يتعلق بتاريخ الامام ابي محمد الحسن العسكري عليه السلام الذي عاش في العصرالعباسي الثاني سنقدم قراءة تاريخية للحكام الذين عاصروا الامام عليه السلام منذ الولادة حتي الشهادة ، ثم نذكراهم السمات التي طبعت ذلك العصر.

الحكام المعاصرون للامام :

ولد الامام الحسن العسكري عليه السلام في الثامن من الربيع الاخر سنة232هـ علي القول المشهور في ولادته عليه السلام وذلك في اخرملك الواثق بالله بن المعتصم (227 ـ132هـ) وبويع بعده لاخيه جعفربن المعتصم المعروف بالمتوكل لست بقين من ذي الحجة سنة232هـ ، وكان عمرالامام العسكري عليه السلام نحوثمانية اشهرونصف ، وقتل المتوكل سنة247هـ ، وتولي بعده ابنه المنتصر بالله زمام السلطة العباسية لستة اشهر ويومين فقط ، ومات سنة248هـ ، فتولي بعده المستعين بالله احمدبن محمد المعتصم سنة248هـ ، وخلع نفسه بعد فتنةطويلة وحروب كثيرةسنة251هـ ، وتولي بعده المعتز بالله بن المتوكل واسمه محمدو قيل : الزبير(252ـ255هـ) واستشهد حجة الله الامام ابو الحسن علي الهادي عليه السلام بعد مضي نحو سنتين ونصف من ايام حكم المعتزبالله ، وذلك في الثالث من رجب سنة 254هـ ، وتولي الامام العسكري مهام الامامة الالهية. ثم جاء الي السلطة المهتدي بالله محمد بن الواثق بعدخلع المعتز وقتله سنة 255هـ ، وحكم نحو سنة واحدة ، ثم قتله الاتراك سنة256هـ ، وتولي بعده احمد ابن جعفر المتوكل المعروف بالمعتمد نحو ثلاث وعشرين سنة حيث قتل سنة 279هـ ، وهكذا استغرقت حياة امامنا العسكري عليه السلام الايام الاخيرة من حكم الواثق ، ثم تمام حكم المتوكل والمنتصر والمستعين والمعتز والمهتدي مع اربع سنين من حكم المعتمد ، حيث استشهد امامنا عليه السلام يوم الجمعة الثامن من ربيع الاول سنة260هـ ، علي القول المشهور في وفاته عليه السلام (1).

اهم سمات هذا العصر

يعتبر هذا العصر بداية لضعف سلطة الدولة العباسية وسقوط هيبتها وانحلالها ، بسبب استيلاء الاتراك علي عاصمة الملك ، وانتفاض اطراف الدولة واستيلاء العمال والولاة عليها ، واعتزال الخلفاء عن شؤون الحكم وانصراف غالبيتهم الي اسباب اللهو والترف والمجون ، وقد انعكست اثار ذلك علي مجمل الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية بشكل مباشر ، وفيما يلي اهم خصائص هذا العصر :

السمة الاولي ـ نفوذ الاتراك وضعف العباسيين

تميز هذا العصر بغلبة الاتراك والفراغنه والمغاربة وغيرهم من الموالي و تدخلهم في مقاليد الحكم ، وكان اول ذلك في عصرالمعصتم الذي اعتني منذ توليه الحكم سنة218هـ ، باقتناء الترك ، فبعث الي سمرقند وفرغانة والنواحي في شرائهم ، وبذل فيهم الاموال ، والبسهم انواع الديباج ومناطق الذهب ، فكانوا يطردون خيلهم في بغداد ويؤذون الناس ، وضاقت بهم البلد ، فاجتمع اليه اهل بغداد وقالوا : ان لم تخرج عنا بجندك حاربناك ، فكان سبب بنائه سرمن راي وتحوله اليها سنة : 220 وقيل : 221هـ (2) .
وبعد ذلك ازداد نفوذ الاتراك في عاصمة العسكر سامراء وتسنموا مناصب هامة كولاة وعمال وقادة جيش ، ومنهم بغا الكبير ، وابناء موسي ومحمد ، وبابكيال ، وياركوج ، واذكوتكين ، وبغا الصغير الشرابي ، ووصيف بن باغروغيرهم. وبعدعصرالمتوكل ازدادت سيطرتهم علي مقاليد الحكمم فاهانوا الخلفاء العباسيين وسلبوا ارادتهم ، وتدخلوا في شؤون الملك ، وتلاعبوا ببيوت الاموال ، وانتكهوا مصالح الامة ومقدراتها؛فقد قتلوا المتوكل والمهتدي ، وخلعوا المعتز والمؤيد ابني المتوكل من ولاية العهد ، واستخلفوا للمستعين ، واستولوا علی الاموال في عهده ، وقاتلوه حين غضب عليهم ، فاعتصم ببغداد وبايعوا للمعتز من بعده.
قال ابن طقطقا : كان الاتراك قد استولوا منذ قتل المتوكل علي المملكة ، واستضعفوا الخلفاء ، فكان الخليفة في يدهم كالاسير ان شاءوا ابقوه ، وان شاءوا خلعوه ، وان شاءوا قتلوه. (3)
وقد وصف بعض الشعراء الحالة التي انتهت اليها الخلافة العباسية في زمن المستعين الذي ليس له حول ولاقوة مع امراء الجند الاتراك ومنهم وصيف وبغا بقوله :
خليفة في قفص يقول ما قال له ***بين وصيف وبغا كماتقول الببغـا (4)
ومن مظاهر سيطرة امراء الاتراك علي جميع افراد الدولة بما فيهم الخليفة في زمان المعتز بالله ، ما ذكره اليعقوبي في تاريخه حوادث سنة 255هـ ، قال : وثب صالح بن وصيف التركي علي احمد بن اسرائيل الكاتب وزير المعتز ، وعلي الحسن بن مخلد صاحب ديوان الضياع ، وعلي عيسي بن ابراهيم بن نوح وعلي ابن نوح ، فحبسهم واخذ اموالهم وضياعهم وعذبهم بانواع العذاب ، وغلب علي الامر ، فهم المعتزبجمع الاتراك ، ثم دخل اليه فازاله من مجلسه ، وصير في بيت ، واخذ رقعته بخلع نفسه ، وتوفي بعد يومين ، وصلي عليه المهتدي. (5)

السمة الثانية ـ استئثار رجال السلطة بالاموال العامة

السمة الغالبة في حياة سلاطين هذا العصر ومن سار في ركابهم من القادة والولاة والامراء والقضاء هي الاستئثار ببيت المال وتسخيره لخدمة مصالحهم الخاصه وحرمان الاغلبية الساحقة منه ، ومن مظاهر ذلك الاستئثاران ام شجاع والدة المتوكل حينما ماتت قبله بسنة خلفت اموالا لاتحصر ؛من ذلك خمسة الاف الف دينار من العين وحده (6). ونقل المورخون في احداث سنة 249 ان المستعين اطلق يد والدته ويد اتامش وشاهك الخادم في بيوت الاموال ، واباحهم فعل ما ارادوا ، فكانت الاموال التي ترد من الافاق يصير معظمها الي هؤلاء الثلاثة...ومايفضل من هؤلاء الثلاثة ياخذه اتامش للعباس بن المستعين فيصرفه في نفقاته (7).
وذكروا انه حينما خرج المستعين من سامراء وبويع للمعتز سنة252هـ خلف في بيت المال بسامراء نحوخمسائة الف دينار ، وفي بيت مال ام المستعين الف الف دينار ، وفي بيت المال العباس ابنه ستمائة الف دينار (8).
وفي احداث سنة 255هـ ذكروا انه ظُفِر لقبيحة ام المعتزوزوجة المتوكل بعد خلع المعتز وقتله ، بخزائن تحت الارض فيها اموال كثيرة ، ومن جملتها دار تحت الارض وجدوا فيها الف الف دينار وثلاثمائة الف دينار ، ووجدوا في سفط قدر مكوك زمرد لم يرالناس مثله ، وفي سفط اخر مقدار مكوك من اللؤلؤ الكبار ، وفي سفط اخر مقداركليجة من الياقوت الاحمر الذي لم يوجد مثله ، فقومت الاسفاط بالفي الف دينار (9).
اما استعراض تفاصيل اموال وضياع الامراء والولاة والقضاء وكتاب الدواوين والجواري والمغنين والشعراء وغيرهم من المقربين الي البلاط ، فبما يخرج بنا عن الغرض ، ويكفي مثالا علي ذلك ان بغا الكبير حينما مات سنة248هـ ترك من المتاع والضياع ما قيمته عشرة الاف الف دينار ، وترك عشر حباب جوهر قيمتها ثلاثة الاف الف دينار (10).
وكانت مؤونة احمد بن طولون الف دينار في اليوم...وحينما مات خلف من العين عشرة الف دينار ، واربعة وعشرين الف مملوك (11).
وكانت غريب جارية المعتمد ذات اموال جزيلة (12).

السمة الثالثة ـ ميل العباسيين الي البذخ والترف واللهو

كان رجال الدولة وعلي راسهم السلطان ينفقون الاموال الطائلة لشؤونهم الخاصة كاقتناء الجواري والسراري والقيان والمغنين وجميع وسائل اللهو والمجون المتاحة في ذلك العصر ، وكانوا يسرفون في الانفاق علي الشعراء وبناء القصور ، بينما تعيش الاكثرية الساحقة من الناس علي الكفاف وينهكها الجوع والفقر وتفتك بها الامراض والاوبئة. فقد كان المتوكل كثير الانفاق علي الشعراء حتي قيل : ما اعطي خليفة شاعرا ما اعطي المتوكل (13) ، فاجاز مروان بن ابي الجنوب علي قصيدة في مدحه بمائة وعشرين الف درهم ، واعطاه حتی اثري كثيرا فقال :
فامسك ندي كفيك عني ولاتزد *** فقدخفت ان اطغي وان اتجبرا
فقال : لا امسك حتي يغرقك جودي (14).
وقرب المتوكل ابا شبل عاصم بن وهب البرجمي ، وكان شاعرا ماجناً ، وانفق عليه حتي اثري ، قال ابوالفرج : نفق عند المتوكل بايثاره البعث وخدمه وخص به فاثري ، وامر له بثلاثين الف درهم علي قصيدة من ثلاثين بيتا (15).
واجاز عبيدالله بن يحيي بن خاقان ابا شبل البرجمي ايضا علي قصيدة في مدحه خمسة الاف درهم ودابة وخلع عليه (16).
وعن احمد بن المكي ، قال : غنيت المتوكل صوتا شعره لابي شبل البرجمي ، فامرلي بعشرين الف درهم ، فقلت ياسيدي اسال الله ان يبلغك الهنيدة. فسال عنها الفتح ، فقال : يعني مائة سنة ، فامر لي بعشرة الاف اخري (17).
واجاز المتوكل الحسين بن الضحاك الخليع علي اربعة ابيات اربعة الاف دينار (18).
وكان المتوكل مغرما بالجواري اللاتي يجلبن من انحاء البلاد باموال طائلة ، فقد روي عن المسعودي انه قال : كان المتوكل منهمكا في اللذات والشراب ، وكان له اربعة الاف سرية ووطئ الجميع (19).
كما كان ميالا الي التانق في تشييد القصورالضخمة التي تعج بالوان من مظاهر الترف والبذخ والعبث اللهو والمجون ، قال اليعقوبي : بني المتوكل قصورا انفق عليها اموالا عظاماً منها : الشاه ، والعروس ، والشبندار ، والبديع ، والغريب ، والبرج ، وانفق علي البرج الف الف وسبعمائة الف دينار (20).
وقيل : انفق علي الجوسق والجعفري والهاروني اكثر من مئتي الف الف درهم (21).
اما الاسراف في مراسم البلاط الخاصه باولاد الخلفاء وغيرهم فمهما يطول به الحديث ، ومن شواهد ذلك ما نقله ابن كثير عن مراسم تسليم المعتز علي ابيه بالخلافة ، قال : لماجلس[المعتز] وهوصبي علي المنبر وسلم علي ابيه بالخلافة ، وخطب الناس ، نثرت الجواهر والذهب والدراهم علي الخواص والعوام بدار الخلافة ، وكان قيمة مانثر من الجواهر يساوي مائةالف دينار ، ومثلها ذهبا ، والف والف درهم غير ماكان من خلع واسمطة واقمشة مما يفوت الحصر... (22).
اما المستعين فقدقالواعنه : انه كان متلافا للمال مبذرا ، فرق الجواهر وفاخر الثياب ، واختلت الخلافه بولايته واضطربت الامور (23).
وذكروا ان ام المهتدي محمد بن الواثق ، التي ماتت قبل استخلافه ، انها كانت تحت المستعين ، فلما قتل المستعين صيرها المعتز في قصرالرصافة الذي فيه الحرم ، فلما ولي المهتدي الخلافة قال يوم لجماعة من الموالي : اما انافليس لي ام احتاج لها الي غلة عشرة الاف في كل سنة لجواريها وخدمها والمتصلين بها... (24).
وامثله ذلك كثيرة في التاريخ ، وهي تحكي عن حجم التبذير في بيوت الاموال والاسراف في النفقات الخاصه علي حساب الاغلبية المحرومة ، وكان من نتائج ذلك ان ابتعد الخليفة عن الرعية واهمل شؤونهم فكرهه غالبية الناس.
قال ابن كثير في حوادث سنة 249 ـ خلافة المستعين ـ : قد ضعف جانب الخلافة ، واشتغلوا بالقيان والملاهي ، فعند ذلك غضبت العوام من ذلك (25).
اما المعتمد الذي مات بالقصر الحسني مع الندماء والمطربين...وكان يكسر ويعربد علي الندماء (26) ، فقد قال السيوطي وغيره : انهمك باللهو واللذات ، واشتغل عن الرعية فكرهه الناس (27).
ولعل ذلك هو احدالاسباب في تعاطف عامة الناس سيما اهل بغداد مع بعض الطابيين الثائرين بوجه الظلم والاستئثار ، ومنهم يحيي بن عمر الشهيد سنة250هـ فضلا عن حسن سيرته ، قال ابوالفرج : كان هوي اهل بغداد مع يحيي ، ولم يرو قط انهم مالوا الي طالبي خرج غيره (28). وقال ابن الاثير : تولاه العامة من اهل بغداد ، ولايعلم انهم تولوا احدا من[اهل]بيته سواه (29).
كما انكر اهل بغداد علي المتوكل وكتبوا شتمه علي الحيطان والمساجد وهجاه الشعراء ، وحينما امر بهدم قبر الامام الحسين عليه السلام وهدم ما حوله من الدور ومنع الناس من زيارته (30).

السمة الرابعة ـ تردي الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية

كان نتيجة اضطراب السلطة وضعفها وسوء ادارتها ان تركزت الثروات بيد قلة من ابناء الاسرة الحاكمه والمتنفذين في السلطة ، فتفشي التفاوت الطبقي بين ابناءالامة تبعا للولاء والقرب والبعد من البلاط وحاشيته ، فهناك قلة متخمة تستاثر براس المال والثراء الفاحش وتبدده في حياة البذخ والترف لاشباع شهواتهم وملاذهم ، وغالبية مسحوقة تعيش حياة البؤس والفقر والحرمان ، وتنهكها النزاعات والحروب ، وتئن تحت وطاة الغلاء وفتك الاوبئة ومختلف الامراض والكوارث الطبيعية التي ازدادت في هذا العصر ، مما ترك اثار وخيمة علي بنية المجتمع وسلوك افراده.
فمن تداعيات الحروب الداخلية وعلي راسهاثورة الزنج (255 ـ270هـ) التي اثارت الخوف والجوع واستهلكت الاموال والانفس والثمرات ، ان ارتفعت الاسعار واشتدت المجاعة في سائر ديار الاسلام ، وقلت البضاعة ، وهجر بعض الناس بلدانهم طلبا للقمة العيش.
فذكروا في حوادث سنة251هـ انه بلغ سعرالخبز في مكة ثلاثة اواق بدرهم. واللحم رطل باربعة دراهم،وشربة الماء بثلاثة دراهم (31).
وفي حوادث سنة251و252هـ نتيجة الحرب التي دارت رحاها بين المعتز والمستعين علي الكرسي الخلافة شمل اهل بغداد الحصار والغلاء بالاسعار واجتمع علي الناس الخوف والجوع (32).
وقال اليعقوبي في حوادث سنة252هـ : وغلت الاسعار ببغداد وسر من راي حتي كان القفيز بمائة درهم ، ودامت الحروب ، وانقطعت الميرة وقلت الاموال (33).
وذكرالطبري وغيره حوادث سنة 260هـ انه في هذه السنة اشتد الغلاء في عامة بلاد الاسلام ، فانجلي عن مكة من شدة الغلاء من كان بها مجاورا الي المدينة وغيرها من البلدان ، ورحل عنها عاملها الذي كان بها مقيما وهو بريه ، وارتفع السعر ببغداد ، فبلغ الكرالشعير عشرين ومائة دينار ، والحنطة خمسين ومائة ، ودام ذلك شهورا (34).
اما الامراض والاوبئة التي غالباما تكون من افرازات الحروب وتردي الاوضاع الاقتصادية ، فقد تحدث عنها المؤرخون كثيرا في هذا العصر. قال السيوطي مشيرا الي ايام المعتمد (256ـ279) : وفي ايامه دخلت الزنج البصرة واعمالها واخربوها وبذلوا السيف واحرقوا وخربوا وسبوا ، وجري بينهم وبين عسكره عدة وقعات...واعقب ذلك الوباء الذي لايكاد يتخلف عن الملاحم بالعراق ، فمات خلق لايحصون (35).
ويبدوا انه قد بلغ التدهور اوجه في ايام المعتمد ، ففي حوادث سنة258هـ يقول ابن كثير وغيره : وفيها وقع الناس وباء شديد وموت عريض ببغداد وسامراء وواسط وغيرها من البلاد ، وحصل للناس ببغداد داء يقال له القفاع (36).
ويقول اليعقوبي : وقع فيها وباء باالعراق ، فمات خلق من الخلق ، وكان الرجل يخرج من منزلة فيموت قبل ان ينصرف ، فيقال انه مات ببغداد في يوم واحد اثنا عشر الف انسان (37).

السمة الخامسة ـ التدهوروعدم الاستقرار

سادت الكثير من مظاهر الفوضي والشغب والاضطراب في هذا المقطع التاريخي من عمر الدولة العباسية ، تمتثل في انتقاض اطرافها ، واستقلال بعض ولاياتها ، والعدوان الاجنبي علي بعض اعمالها ، وكثرة الثورات الداخلية وعلي راسها ثورة الزنج والخوارج الي غير ذلك من مظاهرعدم الاستقرار السياسي الامني الناجمة عن ضعف القدرة المركزية للسلطة وتلاشي هيبتها وتعدد الارادات السياسية فيها لتدخل قادة الجند الاتراك والمغاربة والفراغنة في شؤونها واشاعتهم الظلم والقهر والاستبداد. وفيما يلي نعرض لاهم تلك المظاهر ، ونذكر بعض الامثلة من المصادر التي ارخت لهذا العصر :

اولا : انتقاض اطراف الدولة

صار اغلب العمال والولاة في هذا العصر غير مقيدين بالارتباط الوثيق بعاصمة الملك اوالموالاة للدولة ، فكان بامكانهم الانفصال ومناجزة الاخرين القتال ، فكانت الحروب سجالا بين امراء الجند والولاة والعمال في اطراف الدولة ، فكثر المتغلبون فيها ، واصبحت المدن الاسلامية تستقبل كل فترة عاملاجديدا يحكمها ويدير شؤونها ويجبي خراجها.
فمثلا كانت الاندلس تحت سيطرة الامويين (38) ، والشمال الافريقي تحت امرة ال الاغلب (39) ، ومصر تحت سيطرة احمدبن طولون التركي (40) ، كما تغلب يعقوب بت الليث الصفار علي خراسان ونيسابور حتي بلغت شوكته ان حارب جيش المعتمد في دير العاقول بعد ان استولي علي واسط (41) ، وسيطرالحسن بن زيد العلوي علي طبرستان واسس الدولة العلوية هناك (42) ، وتغلب علي اذربيجان محمد بن البعيث في زمان المتوكل (43) ، وعلي تفليس اسحاق بن اسماعيل مولي بني اميه (44) ، كما تغلب البطارقة علي ارمينية (45) ، و استحوذ محمد ابن واصل التميمي علي الاهواز ثم علي بلاد فارس (46) ، كما خضعت مرو لشركب الحمار وقيل : الجمال (47) ، وقد حصل كل هذا في الفترة من سنة238 الي سنة 259هـ الامر الذي يشير الي تدهور السلطة في هذا العصر الي حد بعيد.

ثانيا : ضعف الثغور الاسلامية

ومن مظاهر التدهور السياسي الكبير في هذا العصر اهمال المتصدين لقيادة الدولة للثغورالاسلامية اهمالا ادي بالنتيجة الي تعرض اطراف الدولة الي غزوات راح ضحيتها الاف المسلمين ونهبت اموالهم وانتكهت اعراضهم وسبيت نساؤهم ، كما في غزو مصر من قبل الافرنج والسودان والروم مرات عديدة بمالاحاجة الي تفصيلها (48).

ثالثا : اعمال الشغب والعصيان

وتمثل تلك الاعمال مظهراً آخر من مظاهرعدم الاستقرار الامني والسياسي للدولة ، وهي اعمال كثيرة في هذا العصر ادت الي تفاقم الاوضاع وتدهورها. فاليمامة مثلا عات بها بنو نمير (49)واهل ارمينية قتلوا عاملهم واعلنوا عصيانهم (50) ، كما تعرض عامل حمص لقتال الحمصيين ، وصارت حمص مسرحا للقتل والصلب والتحريق (51) ، كما شغب الاتراك والجند في زمان المستعين وقتل خلق كثير ، وانتهبت اماكن كثيرة في عاصمة الدولة سامراء (52)كما تعرضت بغداد الي شغب كثير في هذا العصر (53) ، ولم تنج الموصل من ذلك ايضا (54).

رابعا : الثورات الشعبية والحركات المتطرفة

تعددت الثورات الشعبية التي قادها الطالبيون ضد الدولة العباسية من جهة ، وتنامت الحركات المتطرفة التي عصفت بالامة من جهة اخري ، ممانجم عنه ازهاق نفوس كثيرة ، وتبديد ثروات طائلة ، مع هدر الطاقات وفقدان الامن ، وشيوع حالة الفوضي والاضطراب.
اماعن الثورات والانتفاضات الشعبية التي انطلقت في هذا العصر لتقف بصلابه في وجه الحكم العباسي ، فقد تزعمها الطالبيون ، وكانت من افرازات تردي الاحوال العامة والقهر والاستبداد والطغيان والجورالتي عمت اثارها علي الامة بشكل عام وعلي الطالبين بشكل خاص؛لانهم يعانون من شدة الوضع العام ، ومن السياسة العباسية القاضية باضطهادهم ومطاردتهم واتباعشتي وسائل الضغط عليهم ، فكانت واعزا يحفز الثوار منهم علي الخروج المسلح بين اونة واخری.
وقد تعرضوا في زمان المتوكل لمحنة عظيمة ، اذ فرض عليهم حصارا جائرا ، واستعمل لهذا الغرض عمر بن الفرج الرخجي ، فمنعهم من التعرض لمسالة الناس ومنع الناس من البر بهم ، فكان لايبلغه أن احداً ابر احدا منهم بشئ إ لّا أنهكه عقوبة وأثقله غرماً ، حتي كان القميص يدور بين جماعة من العلويات يصلين فيه واحدة بعد اخري (55).
وتعرض الكثير من ال ابي طالب في هذه الفترة لشتي انواع الاضطهاد والتنكيل ، وانزلت فيهم اقصي العقوبات ، فتفرق كثير منهم في النواحي كي يتواروا عن الانظار او يلعنوا الثورة المسلحة ضد الدولة ، وشرد بعضهم من المدينة الي سامراء ، واودع بعضهم السجون حتي ماتوا فيها او سموا ، هذا فضلا عمن قتلوا علی ايدي قادة العباسين ورجال دولتهم كموسي بن بغا علي بن اوتامش وصالح بن وصيف وسعيد الحاجب وغيرهم ، مما سنشير اليه في الفصل الثاني.
وقد تضمنت كتب التاريخ اسماء ثمانية عشر ثائرا من الطالبيين في اُقلّ من ثلاثين سنة (232ـ260هـ) وهو عدديشير الي حجم معاناة الطالبيين ومدي الحيف والظلم الذي لحقهم علي ايدي السلطات ، والا لما تطلب جميع هذه التضيحات الجسام (56).
واما عن الحركات المتطرفة التي ظهرت في هذا العصر ، فتتمثل بحركة الزنج (255 ـ270هـ) التي كانت من اشد الحركات المتطرفة التي عصفت بالحكم العباسي ، فضلا عن عدم مراعاة تلك الحركة لمثل الاسلام وقيمه العليا ، نظرا لما قامت به تلك الحركة من انتها كانت خطيرة بحيث حرقت فيها حتي دورالعبادة كالمساجد والجوامع فضلا عن القتل الذريع وسبي النساء وفعل كل قبيح.وكان صاحب الزنج من الادعياء الذين زعموا الانتساب الي الذرية الطاهرة في حين اجمع العلماء علي كذبه ودجله وانه دعي لاغير (57).
ويؤيد ذلك ما كتبه الامام العسكري عليه السلام الي محمد بن صالح الخثعمي في خصوص فرية صاحب الزنج ، حيث بين عليه السلام في كتابه كذب هذا المفتري ، اذ جاء في الكتاب : ((صاحب الزنج ليس من اهل البيت)) (58). وفي هذا دليل قاطع علي كذب وافتراء صاحب الزنج لعنه الله في انتسابه الي الذرية الطاهرة.
ومن تلك الحركات المتطرفه التي عبثت كثيرا ، هي حركة الخوارج الشراة الذين زعموا انهم شروا الاخرة باالدنيا!فشنوا حربا شعواء علي كل من خالفهم الراي لايفرقون في هذا بين العباسيين وغيرهم ، وكانوا صورة لاسلافهم الذين مرقوا من الدين كما يمرق السهم من الرمية. وقد ظهروا في هذا العصر في الموصل سنة 248هـ وقويت شوكتهم حتي وصلوا قرب العاصمة سامراء واشتبكوا مع العباسيين في معارك طاحنة ، واستولوا علي مناطق كثيرة من السواد ، مما ترك هذااثره البالغ في تدهور الامن وضياع الهدوء والاستقرار (59).
المصادر :
1- تاريخ الخلفاء/السيوطي : 267 ـ 282 ـ دارالكتاب العربي ـ 1422هـ ، تاريخ اليعقوبي 2 : 484 ـ 507 .
2- تاريخ الخلفاء/السيوطي : 259 ، معجم البلدان/ياقوت الحموي ـ المجلد الثالث : 10 ـ13ـ (مدينة سامراء) دار احياء التراث العربي ـ بيروت ـ1417هـ .
3- الفخري في الاداب السلطانية/ابن الطقطا : 243 ، نشر الشريف الرضي ، قم.
4- تاريخ الخلفاء/السيوطي : 278.
5- تاريخ اليعقوبي : 2 : 504 ، سير اعلام النبلاء/الذهبي12 : 535 ـ مؤسسة الرسالة ـ بيروت ـ 1419 هـ .
6- سيراعلام النبلاء12 : 41.
7- الكامل في التاريخ/ابن الاثير6 : 154ـ دارالكتاب العلمية ـ 1415هـ ، البداية والنهاية/ابن كثير11 3ـ مكتبة المعارف ـ 1414هـ .
8- الكامل في التاريخ6 : 166 ، البلادية والنهاية11 : 7.
9- تاريخ الطبري9 : 395 / الكامل في التاريخ6 : 202 ، البداية والنهاية11 : 17 ، تاريخ الخلفاء/السيوطي : 280.
10- البداية والنهاية11 : 2.
11- سيراعلام النبلاء12 : 94 ـ 95 .
12- سير اعلام النبلاء12 : 552.
13- تاريخ الخلفاء/السيوطي : 270.
14- تاريخ الخلفاء/السيوطي : 270.
15- الاغاني/ابوالفرج الاصفهاني14 : 193 ـ داراحياء التراث العربي.
16- الاغاني14 : 199.
17- الاغاني14 : 193 ـ 194
18- مروج الذهب/المسعودي4 : 388 ـ داراحياء التراث العربي ـ 1422هـ ، سير اعلام النبلاء12 : 40.
19- تاريخ الخلفاء/السيوطي : 271 ، سيراعلام النبلاء12 : 40.
20- تاريخ اليعقوبي2 : 491.
21- سير اعلام النبلاء12 : 40 ، وراجع : معجم البلدان/ياقوت2 : 60 ـ ، وتاريخ اليعقوبي2 : 492
22- البداية والنهاية11 : 17.
23- سيراعلام النبلاء12 : 46
24- تاريخ الطبري9 : 396 ، الكامل في التاريخ6 : 203 ، البداية والنهاية11 : 18
25- البداية والنهاية11 : 3.
26- سير اعلام النبلاء12 : 552.
27- تاريخ الخلفاء/السيوطي : 282 ، سير اعلام النبلاء12 : 540.
28- مقاتل الطالبيين/ابو الفرج الاصفهاني : 421 ـ المكتبة الحيدرية ـ النجف.
29- الكامل في التاريخ6 : 157.
30- تاريخ الخلفاء/السيوطي : 268.
31- الكامل في التاريخ6 : 181 ، البداية والنهاية11 : 10.
32- البداية والنهاية11 : 9.
33- تاريخ اليعقوبي2 : 499.
34- تاريخ الطبري9 : 510 ، الكامل في التاريخ6 : 248 ، سيراعلام النبلاء12 : 543 ، البداية والنهاية11 : 31.
35- تاريخ الخلفاء/السيوطي : 282.
36- البداية والنهاية11 : 30 ، الكامل في التاريخ6 : 238.
37- تاريخ اليعقوبي2 : 510.
38- سيراعلام النبلاء8 : 260 ـ 263
39- الكامل في التاريخ6 : 66و89و102و126و132و155
40- الكامل في التاريخ6 : 195و213و227و238 ، سير اعلام النبلاء13 : 94/53
41- تاريخ اليعقوبي2 : 504 ، الكامل في التاريخ6: 114و151و193و197و232و242و246 ،سير اعلام النبلاء12 : 513/191
42- تاريخ الطبري9 : 271 ، ومروج الذهب4 : 410 ، 426 ، 431و542 ، البداية والنهاية11 : 6و15و24و30.
43- االكامل في التاريخ6 : 100و104 ، البداية والنهاية10 : 312.
44- تاريخ اليعقوبي2 : 489 ، الكامل في التاريخ6 : 116.
45- تاريخ اليعقوبي2 : 489.
46- البداية والنهاية11 : 24و29.
47- تاريخ الطبري9 : 502 ، الكامل في التاريخ6 : 244 ، البداية والنهاية11 : 31.
48- راجع في ذلك : تاريخ الطبري9 : 509و511 ، وتاريخ اليعقوبي2 : 488 ، والكامل في التاريخ6 : 117و131و245 ، والبداية والنهاية10 : 317و324و342و11 : 31 ، وتاريخ الخلفاء/السيوطي : 269و283.
49- الكامل في التاريخ6 : 90 ، البداية والنهاية10 : 308.
50- الكامل في التاريخ6 : 111 ، البداية والنهاية10 : 315.
51- الكامل في التاريخ6 : 120و122و151و161 ، البداية والنهاية10 : 319و323و11 : 2و6 .
52- الكامل في التاريخ6 : 150و154 ، البداية والنهاية11 : 2.
53- الكامل في التاريخ6 : 153و201و203 ، البداية والنهاية11 : 3و17و18.
54- الكامل في التاريخ6 : 191و247.
55- مقاتل الطابيين : 386.
56- تاريخ اليعقوبي2 : 497و506 ، ومروج الذهب4 : 406 ـ 410 ـ 424 ـ 428 ـ 429
57- مروج الذهب/المسعودي4 : 438 ، تاريخ الخلفاء/السيوطي : 282 ، تاريخ اليعقوبي2 : 507: 250 ، البداية والنهاية11:18
58- المناقب/ ابن شهر اشوب4 : 462 ـ دارالاضواء ـ بيروت ـ ط 1 ـ1421هـ .
59- حركة الخوارج تلك في : تاريخ اليعقوبي2 : 497و502


source : rasekhoon
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

التشيّع إتجاه فكري وسياسي
الحياة العلمية والسياسية في زمن الإمام الباقر ...
البدعة الحسنة والسيئة
المعصومة سلام الله علیها
فکرة عمل الدیود باعث للضوء
حبّ أهل البیت علیهم السلام فی السُنّة المطهّرة
الإمام الباقرعليه السلام وإصلاح الأمّة
استهداف نبي الرحمة (ص) من الراهب بحيرى حتى براءة ...
مع الثورة الحسينية
رساله الامام الهادي ( عليه السلام ) فى الرد على ...

 
user comment