عربي
Saturday 23rd of November 2024
0
نفر 0

زينب الكبرى عليها السلام من المهد الى اللحد

تاريخ ميلاد السيدة زينب في غضون السنة السادسة من الهجرة استقبل البيت العلوي الفاطمي الطاهر ـ بكل فرح وسرور ، وغبطة وحبور ـ الطفل الثالث من أطفالهم ، وهي البنت الأولى للإمام أمير المؤمنين والسيدة فاطمة الزهراء ( عليهما السلام ). ففي اليوم الخامس من شهر جمادى الأولى ولدت السيدة زينب ، (1) وفتحت عينها في وجه الحياة ، في دار يشرف عليها ثلاثة هم أطهر خلق الله تعالى : محمد رسول الله ، وعلي أم
زينب الكبرى عليها السلام من المهد الى اللحد


تاريخ ميلاد السيدة زينب

في غضون السنة السادسة من الهجرة استقبل البيت العلوي الفاطمي الطاهر ـ بكل فرح وسرور ، وغبطة وحبور ـ الطفل الثالث من أطفالهم ، وهي البنت الأولى للإمام أمير المؤمنين والسيدة فاطمة الزهراء ( عليهما السلام ).
ففي اليوم الخامس من شهر جمادى الأولى ولدت السيدة زينب ، (1) وفتحت عينها في وجه الحياة ، في دار يشرف عليها ثلاثة هم أطهر خلق الله تعالى : محمد رسول الله ، وعلي أمير المؤمنين ، وفاطمة سيدة نساء العالمين ، صلى الله عليهم أجمعين.
هذا هو القول المشهور بين الشيعة ـ حالياً ـ وهناك أقوال
قصيدة من ديوان النفحات الولائية في العقيلة الهاشمية للدكتور عصام عباس
تاريخة أخرى في تحديد يوم وعام ميلادها المبارك. (2)

ويجدر ـ هنا ـ أن نشير إلى جريمة تاريخية ارتكبها عملاء الأمويين وأعجب بها المنحرفون الذين وجدوا هذه الجريمة ـ أو الأكذوبة التاريخية ـ تلائم شذوذهم الفكري ، وانحرافهم العقائدي.
فقد ذكرت الكاتبة بنت الشاطئ في كتابها « بطلة كربلاء » ما نصه :
« إنها الزهراء بنت النبي ، توشك أن تضع في بيت النبوة مولوداً جديداً ، بعد أن أقرت عيني الرسول بسبطيه الحبيبين : الحسن والحسين ، وثالث لم يقدر الله له أن يعيش ، هو المحسن بن علي ... » (3).
من الثابت أن المحسن بن الإمام علي هو الطفل الخامس لا الثالث ، وهو الذي قتل وهو جنين في بطن أمه بعد أن عصروا السيدة فاطمة الزهراء بين حائط بيتها والباب ، وبسبب الضرب المبرح الذي أصاب جسمها وكان السبب في سقوط الجنبن.
ولكن هذه الكاتبة المصرية تستعمل المغالطة والتزوير ، وتحاول إحقاق الباطل وإبطال الحق وتقول : إن السيدة زينب
ولدت بعد المحسن بن علي الذي لم يقدر له أن يعيش !
فانظر كيف تحاول بنت الشاطئ تغطية الجنايات التي قام بها بعض الناس بعد وفاة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) واقتحامهم بيت السيد فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) لإخراج الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ليبايع خليفتهم ، ودفاع السيدة فاطمة عن زوجها ، وعدم سماح لهم باقتحام دارها ، وماجرى عليها من الضرب والركل والضغط ، فكانت النتيجة سقوط جنينها الذي سماه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ـ في حياته ـ محسناً ، وهو ـ يومذاك ـ جنين في بطن أمه !!
وقد ذكرنا بعض ما يتعلق بتلك المأساة في كتابنا : ( فاطمة الزهراء من المهد إلى اللحد ).

[ولادة السيدة زينب] ولادة السيدة زينب
ولما ولدت السيدة زينب ( عليها السلام ) أخبر النبي الكريم بذلك ، فأتى منزل إبنته فاطمة ، وقال : يا بنية إيتيني ببنتك المولودة.
فلما أحضرتها أخذها النبي وضمها إلى صدره الشريف ، ووضع خده على خدها فبكى بكاءً شديداً عالياً ، وسالت دموعه على خديه.
فقالت فاطمة : مم بكاؤك ، لا أبكى الله عينك يا أبتاه ؟
فقال : يا بنتاه يا فاطمة ، إن هذه البنت ستبلى ببلايا وترد عليها مصائب شتى ، ورزايا أدهى.
يا بضعتي وقرة عيني ، إن من بكى عليها ، وعلى مصائبها يكون ثوابه كثواب من بكى على أخويها.
ثم سماها زينب. (4)

زينب عليها السّلام.. شهيدة الاحزان
غريبة تلك المرأة ( زينب بنت عليّ، بنت فاطمة )، في جميع حالاتها وأدوارها التي انشطرت إلى مرحلتين:
الأُولى: منذ ولادتها عليها السّلام إلى أواخر عام 60 من الهجرة النبوية، عاشت فيها في محضر االنبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم، وفي حِجر فاطمة البتول عليها السّلام وفي كَنف أمير المؤمنين عليه السّلام. ودرجت في بيت الوحي والرسالة مع أخوَيها الحسن والحسين عليهما السّلام.. فارتشفت من المعارف الإلهية ما حُرمت منه النساء جميعاً إلاّ أمَّها الزهراء عليها السّلام.
وقد عايشت أهلَ بيت المصطفى صلّى الله عليه وآله وسلّم في محنهم ومهمّاتهم، وودّعت جدها وأمها وأباها وأخاها الحسن، شهداء، الواحد بعد الآخر، حتّى بقي لها قرةُ العين، أخوها أبو عبدالله الحسين، يملأ قلبها ونفسها، ويطيّب حياتها المفجوعة بأخلاقه الشريفة، كما بقي لها إخوتها من أمّ البنين: العباس وإخوته رضي الله عنهم، هي لهم أخت وعقيلة فاضلة ترعاهم ويُجلّونها.
وفي هذه المرحلة صدر عنها من العلوم القرآنية والأخبار والروايات ما ثبّتت به حقائق كثيرة في حياة الرسالة وضمائر المسلمين، فهي التي روت لنا خطبة أمها الصديقة فاطمة عليها السّلام والتي احتجّت بها على مَن غصب فدكاً، روتها بحذافيرها وطولها ولم تكن تبلغ السابعة من عمرها الشريف حين سمعت الخطبة تلك. كما روت قصة ولادة الإمام الحسين، نقلتها عن أمها، وعن العقيلة زينب رواها ابن أخيها عليّ بن الحسين عليه السّلام. ولا بأس للاطلاع الوافي على جملة من روايات السيدة زينب عليها السّلام أن تُراجَع المصادر التالية:
بلاغات النساء، لابي الفضل أحمد بن أبي طاهر بن طيفور الخصائص الزينبية، للسيّد نور الدين الجزائري زينب الكبرى بنت أمير المؤمنين عليه السّلام، للشيخ جعفر النقدي.
السيدة زينب الكبرى عليها السّلام من المهد إلى اللحد، للسيّد محمد كاظم القزويني ـ الفصل الثامن: مسانيدها 109 ـ 120، نقل لنا سبع روايات مهمة ومطولة.
الثانية: فبدأت من يوم رحيلها إلى أرض كربلاء برفقة أخيها سيّد الشهداء الحسين عليه السّلام تؤازره وتنصره، وتقدّم أولادها بين يديه ضحايا فداء لإمامته، فقطعت ذلك الطريق الصعب من المدينة المنورة إلى طفّ الغاضرية حيث مصارع الأحبة الكرام، إخوتِها وبني عمومتها وولْدها وأصحاب أهل بيتها، وبني إخوتها وآل أبي طالب وبني هاشم.
فكانت نعمت الأخت المواسية لأخيها، ونعمت الموالية المضحية للإمامة. أقدمت على يقين وبصيرة وإيمان، واصطحبت ركب الإمام الحسين وعقائل الوحي، وكان عليها أن ترى الفجائع بأمّ عينيها، وكُتِب عليها أن تجلس عند الضحايا، أشلاء مُجزّرين على صعيد المنايا، وتشاهد مصارع الشهداء، وبينهم سيدهم ريحانة المصطفى.
وقدمت القرابين شاكرة لله: إلهي تقبّلْ منا هذا القربان. وأيّ قربان كان! سيّد شباب أهل الجنة. وهانت عليها المصائب والرزايا رغم عِظَمها، لأنها في عين الله، ولأنها خالصة لوجه الله.
ثمّ كان السبي، وما أدرانا ما السبي! ثمّ كان عليها أن تخطب في الكوفة والشام، وأن تواجه الطغاة، وأن تحفظ وديعة الله وإمام عصرها السجاد عليّ بن الحسين عليه السّلام، وأن ترعى العيال وهم جمع من الأرامل واليتامى يتصارخون مما لاقوا.
ثمّ كان عليها عليها السّلام أن تصدع بقصة الطف الرهيبة، تطبّق بها الآفاق. فتبعث الرسائل الحسينية إلى حيث استطاعت، فتنزل بذلك على الحكم الأُموي دمغات ولعنات، وهي ما تزال اللَّبوة الحيدرية، مع جراحاتها البالغة وقد جاوزت الرابعة والخمسين من عمرها، فترى تلك النوازل. ومنها أن يُشهَر أمامها راس أخيها الحسين عليه السّلام، فضربت جبينها بمَقْدم المحمل حتّى سال الدم من تحت قناعها، ثمّ أومات إليه بحرقة:
يا هلالاً لمّا استتمّ كمـالا ما توهّمتُ يا شقيقَ فؤادي          غالَه خسفُه فأبدى غروبـا كان هذا مقـدَّراً مكتوبـا
ولم تمض سنة ونصف السنة على واقعة كربلاء وفاجعتها حتّى ضاق البلاط الأُموي بالعقيلة زينب عليها السّلام؛ فهي سفيرة الحسين وراوية قصته قصة الشهادة العظمى بلسانها ونحيبها وجميع حالاتها، فأُبعدت عن موطن جدها، إلى أين ؟ إلى الشام من جديد، حيث ذكريات السبي والدخول وسط الشامتين والمجابهة في قصر الطاغية يزيد، وحيث هناك عُلِّق رأس الشهيد على شجرة أيّاماً مُرّة، فأجهشت، ثمّ شهقت، ثم غصّت غصة الحزن العميق كانت فيها نفسُها الطاهرة الزكية.
فكانت شهيدةَ بيت الوحي أيضاً، لا بسيف ولا برمح ولا سُمّ، ولكن بمصائب عجيبة، فقضت حزناً على حبيب المصطفى صلّى الله عليه وآله وسلّم وحباً له وشوقاً إليه. ورسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم هو القائل ( من مات على حُبّ آل محمّد مات شهيدا ).
سليلة أحمد.. تلك          
بنفسي مَن حَوَت أسمى المزايا ومَن يسمـو الثناءُ بها ويحـلو فإن كثـُرتْ مدائحُها وفاضت هيَ الحوراء زينبُ عن عُلاها         ومَن للمَكرُمـات غَدَت خليـلهْ وأجدرُ بالنعـوتِ المستطيـله تُعَدّ بشـأنها السـامي قليـله لَتَقـْصر كلُّ ذاتِ يدٍ طويـله
* * *
سليـلةُ أحمدٍ مَولى المـوالي فمهمـا تبلغ الألبـابُ عِـلماً وكم قد جـاء برهــانٌ جليٌّ وكم قال ابنُ عباسٍ فخـوراً:         ألا نِعمتْ لأحمدَ مِـن سليـله فلن تُحصي مواهبَها الجليـله بعصـمتِها وعفّتـها النبيـله عقيلتـُنا.. ويا نِـعمَ العقيـله!
* * *
فكانت في البرايا كنزَ طُهرٍ إليها قد تنـاهى كلُّ فَخْـرٍ ولا عجَبٌ إذا الباري حَباها بها مِن أُمِّها الزهـرا سجايا         ومصدرَ كلِّ منقبةٍ جزيـله وفضـلٍ بعد فاطمةَ البتوله صفاتٍ في العقائل مستحيله وشيمةُ حيدرٍ رمزِ البـطوله
* * *
إذا ربُّ الفصـاحةِ قد نمـاهـا كفـاها مفخـراً مُذْ يومَ ألـقَتْ كـأنّ لسـانَـها إذْ ذاك نَصْـلٌ به قد أخرسَتْ نُطْقَ الأعـادي لـقد أدلَـتْ بخُطبتـها معـانٍ فأضحى الجمعُ مندهشاً مَرُوعاً ومَن نشـأت بعِـزٍّ.. مستحيلٌ         فقـد وَرِثَتْ فصـاحتَه وقِيـلَه على كوفـانَ خُطبتَها المَهـوله شَباه يفضحُ البـيضَ الصقيـله وردّت منـه أعـينـَهم كليـله بهـا قـد مَثّلت عِـزَّ القبيـله ولاقى كـلُّ ذي لُبّـاً ذُهـولَه أمـامَ الجمـع وقفتـُها ذليـله
* * *
بربِّك مَن كزينبَ فـي البـرايا فيـاللهِ مــا لاقــت وقـاست أتُحمَل فوق ظَهْر العُجْفِ قَسْـراً فأبدتْ بعد يـوم الـطفّ حزمـاً وحِلْماً لا يُقاس بثقْلِ " رضوى "         لـوقع النائبـاتِ غَدَت حَمـوله من الأشـرار أربابِ الـرذيـله وفتيتها على الرمضـا جديــله ومـا مـِن حـُرّةٍ أبـدَتْ مثيـلَه مَحـالٌ أن يـَرى رضوى عديلَه
* * *
لقـد وَثِقَ الحسينُ بها لكَـيْمـا وقـد بانت كفـاءتُها لـديــهِ فنـاداها: أزينـبُ أنتِ بعـدي فَجـُلُّ الفادحـات وإن تنـاهت صـلاةُ الله تتـرى كـلَّ حيـنٍ         تقـومَ بحمل أعبــاءٍ ثقيــله وأعلن عن بني الـدنيا رحيـله لِحفظِ عـوائلي كـوني كفيـله غَدَتْ في حزمها السامي ضئيله عليها.. ما تلا الشـادي هديـلَه

[في أنها عليها السلام عالمة غير معلّمة] في أنها عليها السلام عالمة غير معلّمة
العلم من أفضل السجايا الإنسانية، وأشرف الصفات البشرية، به أكمل الله أنبياءه المرسلين، ورفع درجات عباده المخلصين، قال تعالى: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات)(5).
وإنما صار العلم بهذه المثابة لأنه يوصل صاحبه إلى معرفة الحقائق، ويكون سببا لتوفيقه في نيل رضاء الخالق، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة من أهل بيته (عليهم السلام) يحثون الأمة على طلب العلم، وكانوا يغذّون أطفالهم العلم كما يغذّونهم اللبن.
أما زينب (عليها السلام) المتربية في مدينة العلم النبوي، المعتكفة بعده ببابها العلوي، المتغذية باللبان الفاطمي من أمها الصديقة الطاهرة (سلام الله عليها)، وقد طوت عمراً من الدهر مع الإمامين السبطين يزّقانها العلم زّقاً، فهي من عياب علم آل محمد (عليهم السلام) وعلى فضائلهم التي اعترف بها عدوهم الألد يزيد الطاغية بقوله في الإمام السجاد (عليه السلام): (إنه من أهل بيت زقوا العلم زقاً)(6).
وقد نص لها بهذه الكلمة ابن أخيها علي بن الحسين (عليهما السلام): (أنت بحمد الله عالمة غير معلمة، وفهمة غير مفهمة)(7).
وهذا اللقب منحها الإمام زين العابدين (عليه السلام) ووصفها به، وذلك حينما أراد تسليتها وتعزيتها وتكريمها وتزكيتها (عليها السلام) على مرأى من الناس ومسمع، ليعلمهم:
أولا: بالمقام الرفيع الذي وهبه الله تعالى لها (سلام الله عليها)، وليهون من وقع المصائب العظيمة عليها.
ثانياً: فإن الإمام زين العابدين(عليه السلام) لما رأى عمته زينب (عليها السلام) وهي في أسرها تخطب على الجماهير المتجمعة من أهل الكوفة، الذين قد خرجوا للتفرج عليهم، والتفت إلى أنها (عليها السلام) قد استعادت في ذاكرتها كل المصائب العظيمة التي جرت عليها واستعرضت كل انتهاكات القوم أمام مخيلتها، خاف عليها أن تموت حسرة وغصة، فخاطبها قائلا: (أنت بحمد الله عالمة غير معلمة، وفهمة غير مفهمة…)(8).
ثم إنه يمكن أن يستفاد من كلام الإمام السجاد(عليه السلام) المزبور في حق عمته زينب (عليها السلام) أموراً:
1: أن السيدة زينب (عليها السلام) كانت قد بلغت هذه المرتبة العظيمة والمقام الرفيع عند الله تعالى وأن مادة علمها من سنخ ما منح به رجالات بيتها الرفيع أفيض عليها إلهاما، لا بتخرج على أستاذ وأخذ عن مشيخة، وإن كان الحصول على تلك القوة الربانية بسبب قابليتها وتهذيبات جدها وأبيها وأمها وأخويها، ولانتمائها إليهم واتحادها معهم في الطينة، فأزيحت عنها بذلك الموانع المادية، وبقي مقتضى اللطف الفياض الإلهي وحده وإذ كان لا يتطرقه البخل بتمام معانيه عادت العلة لإفاضة العلم كله عليها بقدر استعدادها تامة، فأفيض عليها بأجمعه، سوى ما اختص به أئمة الذين (عليهم السلام) من العلم المخصوص بمقامهم الأسمى.
ولولا ذلك لما نعتها ابن أخيها الإمام السجاد (عليه السلام) وهو معصوم بهذا النعت، ولما وصفها بهذه الصفة.
2: إن الإمام (عليه السلام) أراد بكلامه المذكور في حق عمته زينب (عليها السلام) بيان شأنها وإظهار عظمتها.
3: إن الإمام (عليه السلام) أراد أن يشكر عمته زينب (عليها السلام) بكلامه هذا، على ما أسدته (عليها السلام) إليه في كربلاء من خدمة كبرى حيث رأته يجود بنفسه من عظم المصاب فعزته بمصابه وصبرته عليه، فقام(عليه السلام) في الكوفة بعمل مماثل لما قامت به (عليها السلام) تجاهه، إضافة أن من أهم الكمالات النفسية، والمقامات الإنسانية، هو مقام العلم، فإن العلم هو قمة كل شرف، وأفضل كل الملكات، وغذاء الروح، وبه استمرار الحياة المعنوية، وشرفه ذاتي، وهذا ما لا يستطيع أحد إنكاره، إذ علو مقام العلم لا يخفى على أحد.
واعلم إن العلم على قسمين: اكتسابي وموهوبي، وبعبارة أخرى: تحصيلي ولدنّي.
أما الإكتسابي والتحصيلي: فهو أن يسعى الإنسان في طلب العلم ويجّد في تحصيله، وبقدر سعيه وجدّه يستطيع الإنسان أن ينال من درجات العلم وينتفع من بركاته.
وأما الموهوبي واللدنّي: فهو العلم الذي يمنحه الله تعالى خالق الإنسان بعض عباده ممن له أهلية ذلك، ويقذفه في قلب من هو كفو لها، وذلك من غير تجشم عناء التعليم، ولا تحمل أتعاب التحصيل، فبعض يلهمه الله تعالى العلم إلهاماً غيبياً ومن دون واسطة، وبعض يلهمه بواسطة الملائكة ويريه الملائكة أيضاً ويسمى بالوحي، وبعض لا يريه الملائكة ويسمى هذا الذي يوحى إليه بواسطة الملائكة ولا يرى الملائكة بالمحدّث، ولكل مقام خاص ودرجة خاصة تتفاوت رفعة وعلواً.
والحصول على هذه المقامات الرفيعة من العلم اللدني صعب جدا، ولا يتسنى لأحد من الناس الوصول إليها إلا للأنبياء و الرسل، والأوصياء والأولياء.
ثم إن الأنبياء و الرسل و الأوصياء و الأولياء الذين هم وحدهم المختصون بالعلم اللدني يكونون بالنسبة إلى هذا العلم على درجات، فمنهم من قد حاز على درجة منه، و منهم على درجتين، ومنهم على ثلاث درجات، والذي قد حاز على كامل الدرجات وأعلى المراتب، هو أكمل المخلوقات، وأشرف الكائنات، سيد الأنبياء وأشرف المرسلين، حبيب إله العالمين، محمد وأهل بيته المعصومين (صلوات الله عليهم أجمعين).
والسيدة زينب (عليها السلام) هي من هذا البيت الرفيع: بيت النبوة، وموضع الرسالة، ومعدن العلم، وأهل بيت الوحي، فلا عجب أن تكون قد نالت درجة الإلهام فهي إذن ملهمة بصريح كلام ابن أخيها الإمام السجاد (عليه السلام) حين قال لها: (يا عمة … أنت بحمد الله عالمة غير معلمة) إذ لا يكون العلم بلا تعلّم إلا عن طريق الإلهام.
وقد ظهر من السيدة زينب (عليها السلام) ما يدل على علمها وفهمها وذلك في مواقع و مواقف:
ما كان منها (عليها السلام) حينما كانت حاضرة عند أبيها الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) وقد أجلس العباس (عليه السلام) وهو صبي في حجره وقال له: قل واحد.
فقال: واحد.
فقال له: قل اثنين، فامتنع وقال: إني استحيي أن أقول اثنين بلسان قلت به واحدا،
وهنا التفتت زينب (عليها السلام) إلى أبيها وكانت هي أيضا صغيرة وقالت: أتحبنا يا أبه؟.
فأجابها أمير المؤمنين (عليه السلام) برأفة: بلى يا بنية.
فقالت: لا يجتمع حبان في قلب مؤمن حب الله وحب الأولاد، وإن كان ولابد فالحب لله تعالى والشفقة للأولاد، فأعجبه (عليه السلام) كلامها وزاد في حبه وعطفه عليها).
وإذا تأمّل هذا الكلام المتأمل رأى فيه علماً جماً، فإذا عرف صدوره من طفلة كزينب (عليها السلام) يوم ذاك، بانت له منزلتها في العلم والمعرفة.
وما كان منها: في زمن أبيها أمير المؤمنين(عليه السلام) من مجلس درسها في الكوفة، فقد جاء في بعض المصادر أنها (عليها السلام) كانت تدير في بيتها أيام خلافة أبيها أمير المؤمنين (عليه السلام) الظاهرية في الكوفة مجلساً نسائياً يحضره نساء أهل الكوفة تفسّر لهن فيه القرآن، وقد كان درسها في أحد الأيام تفسير قوله تعالى (كهيعص)(9) وفي الأثناء دخل عليها أمير المؤمنين (عليه السلام) واطلع على موضوع تفسيرها، فقال لها بعد ذلك: نور عيني زينب سمعتك تفسّرين قوله تعالى: (كهيعص)(10) للنساء، فقالت: نعم يا أبه فدتك ابنتك.
فقال لها: يا نور عيني إن هذه الآية الكريمة ترمز الى المصائب التي سوف ترد عليكم أهل البيت، ثم ذكر لها بعض ما سيجري عليهم من المصائب والرزايا فضجت السيدة زينب (عليها السلام) بالصراخ والعويل وأجهشت بالبكاء والنحيب، وهذا منها (عليها السلام) مع أنه كان فقط تذكاراً لعلمها بما سيجري عليهم، يدل على عظم المصاب وشدة وقعه، فكيف بها (عليها السلام) وهي تواجه كل تلك المصائب العظيمة والرزايا الجليلة وجها بوجه.
وما كان منها: في نيابتها الخاصة عن الحسين (عليه السلام) حيث كان الناس يرجعون إليها في الحلال والحرام حتى برئ زين العابدين (عليه السلام) من مرضه. كما رواه الصدوق محمد بن بابويه.
وما كان منها (عليها السلام): عند ما مروا بالأسرى على قتلاهن، فإنها (عليها السلام) صاحت من بين كل السبايا قائلة: (يا محمداه ! هذا حسين بالعراء، مرمل بالدماء، مقطّع الأعضاء، وبناتك سبايا، وذريتك مقتّلة) فأبكت كل عدو و صديق حتى جرت دموع الخيل على حوافرها، ثم بسطت يديها تحت بدنه المقدس ورفعته نحو السماء وقالت: (إلهي تقبل منا هذا القربان)(11).
وهذا ما لا يستطيع قوله إلا مثل زينب (عليها السلام) العالمة غير المعلمة، والتي كانت قد تعهدت لله تبارك وتعالى أن تشارك نهضة أخيها الإمام الحسين(عليه السلام) وتكون معه جنبا إلى جنب:

وتشاطرت هي والحسين بدعوة          حتـم القضاء عليهما ان يندبا
هذا بمشتبك النصول وهـذه في          حيث معترك المكاره في السبا

وما كان منها (عليها السلام): عند ما رأت ابن أخيها الإمام السجاد(عليه السلام) ـ وهو إمام الصبر ومعلمه ـ يجود بنفسه لما نظر إلى أهله كالأضاحي مجزرين وبينهم ريحانة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بحالة تنفطر لها السماوات، وتنشق الأرض، وتخر منه الجبال هدّاً، فقالت له تسلّيه وتصّبره قائلة: مالي أراك تجود بنفسك يا بقية جدي وأبي و أخوتي، فوالله إن هذا لعهد من الله إلى جدّك و أبيك، ولقد أخذ الله ميثاق أناس لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض، وهم معروفون في أهل السماوات، أنهم يجمعون هذه الأعضاء المقطّعة، والجسوم المضرّجة، فيوارونها، وينصبون بهذا الطفّ علماً لقبر أبيك سيد الشهداء، لا يدرس اثره، ولا يمحى رسمه، على كرور الليالي والأيام، وليجتهدن أئمة الكفر، وأشياع الضلال في محوه و تطميسه، فلا يزداد إلا علواً)(12).
وقد تحقق كل ما قالته (عليها السلام) مع أنها أمور غيبية لا يطلع عليها أحد إلا من كان ملهماً من الله تعالى.
وما كان منها: ما أشار إليه الفاضل الدربندي وغيره: أنها عليها السلام كانت تعلم علم المنايا والبلايا، بل جزم في (أسراره) أنها (صلوات الله عليها) أفضل من مريم ابنة عمران وآسية بنت مزاحم وغيرهما من فضليات النساء، ومن نظر في (أسرار الشهادة) رأى فيه من الاستنباطات والتحقيقات في حق زينب (صلوات الله عليها) ما هو أكثر بكثير.

في أنها (ع) العابدة والمنقطعة إلى الله تعالى
العبادة: من العبودية وهي غاية الخضوع والتذلل، وإن من أسرار تشريع العبادة وعللها: الشكر لله تعالى على نعمه الكثيرة التي لا تحصى، ومواهبه العظيمة التي لا تعدّ ولا تدرك عظمتها.
فإنه تعالى هو المنعم المطلق الذي خلق الإنسان بقدرته، ومنحه نعمة الوجود بعد أن لم يكن شيئا مذكوراً، ورزقه من النعم ما لا يعد ولا يحصى، فهو تعالى أهل لأن يعبد، وإنما يعبده الأحرار لأنه أهل للعبادة كما قال الإما م أمير المؤمنين(عليه السلام): (الهي ما عبدتك خوفاً من عقابك ولا طمعاً في ثوابك ولكن وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك)(13) وتلك هي عبادة الأحرار.
نعم، بالعبودية لله تعالى يتحرر الإنسان من عبودية ما سوى الله، كما أن بالعبودية لله تعالى ينال الإنسان المقامات الرفيعة والجاه العظيم عند الله سبحانه، وأن مقام كل مقرب عند الله يكون بقدر عبوديته وعبادته لله تعالى.
وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يصلي الليل كله، ولقد قام (صلى الله عليه وآله وسلم) عشر سنين على أطراف أصابعه حتى تورمت قدماه و اصفر وحهه، فأنزل الله عليه: (طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى)(14).
فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (أو لا أكون عبدا شكورا)(15).
وكان أمير المؤمنين(عليه السلام) يصلي كل يوم وليلة ألف ركعة، ولم يترك النافلة حتى في الحروب، كما روي عنه في صلواته ليلة الهرير بصفين.
وكذلك كانت الصديقة الكبرى فاطمة الزهراء (صلوات الله عليها) تصلي عامة الليل، فإذا اتضح عمود الصبح أخذت تدعو للمؤمنين والمؤمنات.
وكان الأئمة من ولدها (صلوات الله عليها) يضرب بهم المثل في العبادة.
أما زينب (صلوات الله عليها) فلقد كانت في عبادتها ثانية أمها الزهراء (عليها السلام)، وكانت تقضي عامة لياليها بالتهجد وتلاوة القرآن.
وإنها (صلوات الله عليها) ما تركت تهجدها لله تعالى طول دهرها، حتى ليلة الحادي عشر من المحرم.
فقد روي عن زين العابدين(عليه السلام) أنه قال: (رأيتها تلك الليلة تصلي من جلوس).
وعنه (عليه السلام) أنه قال: (إن عمتي زينب مع تلك المصائب والمحن النازلة بها في طريقنا الى الشام ما تركت نوافلها الليلية).
وفي مثير الأحزان: قالت فاطمة بنت الحسين(عليه السلام): (وأما عمتي زينب فانها لم تزل قائمة في تلك الليلة ـ أي: العاشرة من المحرم ـ في محرابها تستغيث الى ربها، فما هدأت لنا عين، ولا سكنت لنا رنة).
وروى بعض عن الإمام زين العابدين(عليه السلام) أنه قال: (إن عمتي زينب كانت تؤدي صلواتها من قيام الفرائض والنوافل عند سير القوم بنا من الكوفة الى الشام، وفي بعض المنازل كانت تصلي من جلوس، فسألتها عن سبب ذلك فقالت: أصلي من جلوس لشدة الجوع و الضعف منذ ثلاث ليال، لانها كانت تقسم ما يصيبها من الطعام على الأطفال، لان القوم كانوا يدفعون لكل واحد منا رغيفا واحدا من الخبز في اليوم و الليلة).
فاذا تأمل المتأمل إلى ما كانت عليه هذه الطاهرة من العبادة لله تعالى والانقطاع إليه لم يشك في عصمتها (صلوات الله عليها).
فاعلم: ان العصمة وسام عظيم، ودرجة راقية، ومقام شامخ، اختص به خواص عباد الله من الأنبياء والاوصياء، علما بأن العصمة لغة: الحفظ والوقاية، والمنع والإباء، واصطلاحا: قوة معنوية، وملكة ربانية يهبها الله من يشاء من عباده يحفظه بها من الخطأ و الزلل، والسهو و النسيان، وذلك على وجه لا يسلب منه الاختيار الذي هو من لوازم التكليف.
وحكمة منح العصمة ـ هذه الموهبة الإلهية ـ للأنبياء و أوصياء الانبياء، ان الله تعالى لما خول أنبيائه و أوصيائهم حقه، وفوض إليهم ولايته، وجعلهم بالمؤمنين أولى من أنفسهم، وامر الناس باطاعتهم والانقياد لهم، كان من اللازم تزويدهم بالعصمة، وحفظهم بها من الخطأ و الزلل، والسهو و النسيان، فاذا لم يكن النبي أو الإمام حائزا على العصمة، لاحتمل الاشتباه والنسيان، والزيادة والنقصان فيما يبلغه النبي عن الله تعالى، والإمام عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبذلك تنعدم الثقة والاطمئنان، وتبطل الشرائع والأديان، وحاش لله تعالى ان يُخلّ بدينه و يُبطل آياته و حججه.
واعلم: ان العصمة على مراتب ودرجات، وقد جعل الله تبارك وتعالى اعلى درجات العصمة واسمى مراتبها خاصا برسوله الكريم محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته الطيبين الطاهرين(عليهم السلام) حيث قال تعالى:
(إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيرا)(16).
ولما كانت السيدة زينب (عليها السلام) عقيلة خدر الرسالة من سلالة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وذريته، وقد هذّبت نفسها وروضتها على العبادة والتقوى، والخير والإحسان، تأهلت لان تنال حظاً من العصمة المعبر عنه بـ: العصمة الصغرى، وقد أشار الى ذلك الإمام زين العابدين (عليه السلام) في بعض كلامه لها، كما وأشارت هي (عليها السلام) الى ذلك في بعض خطبها.

مواقف كمواقف أمها الزهراء (عليهما السلام)
لقد أشبهت زينب (عليها السلام) في احتجاجها على يزيد وابن زياد احتجاج أمها فاطمة الزهراء (عليها السلام) في قصة فدك، وقضية خلافة بعلها أمير المؤمنين(عليه السلام) حيث بذلك بان كبير فضلها، وغزارة علمها، ووفور عقلها، وكثرة فهمها، وحسن معرفتها بالأحكام والقرآن، مما لم يتسنى لأحد الا لمن هو ملهم من عند الله تعالى.
ونابت (عليها السلام) أمها فاطمة الزهراء (عليها السلام) في مهمة الإبقاء، وقامت مقامها ـ وبأحسن وجه ـ لأداء دور المشاركة في هذه المهمة، ويشهد لذلك مواقفها البطولية المشرفة من بدء قيام أخيها الإمام الحسين(عليه السلام) باعباء الإمامة حتى شهادته (عليه السلام) وخاصة من بدء نهضته (عليه السلام) حتى انتهاء قضايا السبي والأسر، والرجوع ببقايا حرم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الى المدينة، ومنها حتى ارتحالها من هذه الدنيا الى الدار الآخرة.
ففي كل هذه المدة الطويلة والفترة العصيبة قامت السيدة زينب (عليها السلام) مقام امها فاطمة الزهراء (عليها السلام) في دور المشاركة ونابت عنها في مهمة الإبقاء وقدمت في سبيل ذلك كل ما قدمته، حتى لقبت بكونها: نائبة الزهراء (عليها السلام ).
فكما ان الام شاركت زوجها و إمامها الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) في مهمة الإبقاء، وقدمت نفسها ضحية، ودمها وقاءا، ومحسنها قربانا، ليبقى الإسلام على نزاهته و قدسيته، وطهارته وبرائته مما ارتكبه المتقمصون للخلافة ومما فعله الغاصبون لفدك باسم الإسلام.
فكذلك البنت شاركت أخاها وإمامها الإمام الحسين (عليه السلام) في مهمة الإبقاء، وقدمت ما قدمت لتصون نزاهة الإسلام، وتحفظ قدسيته وطهارته مما ارتكبه الطلقاء وأبناء الطلقاء من تشويه وتمويه، وجرائم وجنايات ضد الإسلام، باسم الإسلام.
ولكن هذه المرة كان القربان هو الإمام الحسين (عليه السلام) وزينب (عليها السلام) شاطرته بتقديم نفسها اسيرة، ودم ولديها وقاءا، وراحت في موكب السبي من كربلاء الى الكوفة ومنها الى الشام لتبلّغ دم الشهيد حتى في قصور الظالمين، وتوصل اهداف الشهادة الى العالم اجمع، والى كل الأجيال على مدى التاريخ ومر العصور والزمان.
ولولا مشاطرتها وتحملها في سبيل الله ما تحملته من البلايا والرزايا، والمصائب والمحن لأبطل بنو امية دم الإمام الحسين(عليه السلام) ومحوا أثره، ولاستطاعوا بعد ذلك من اجتثاث جذور الإسلام والقضاء عليه بالمرة، اذ ورثة المتقمصين للخلافة الطلقاء، وابناء الطلقاء كانوا قد عرّفوا أنفسهم ـ كذبا وزورا ـ بأنهم أولى الأمر الذين أمر الله بطاعتهم، وصوروا بان جرائمهم وجناياتهم هو انعكاس عن الإسلام الصحيح، وكان بيدهم السيف والسوط، والدعاية والتبليغ وقد سخروها جميعا لتثبيت سلطانهم، فكانوا بسوطهم وسيفهم يقمعون الأحرار، وبدعاياتهم وإعلامهم يضللون الجماهير، فلم يكن احد من الناس يجرأ على مناجزتهم ومجابهتهم، وكشف زيفهم وزيغهم، وبيان كذبهم وغدرهم، والتنديد باستبدادهم ودكتاتوريتهم، وفضح تآمرهم على الله ورسوله، وعدائهم للإسلام والمسلمين، سوى الإمام الحسين(عليه السلام)، وذلك بأغلى ثمن وحتى بمثل سبي حرم رسول الله وأهل بيته (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين)، ووطنت السيدة زينب (عليها السلام) نفسها على كل ذلك وتلقته بصدر رحب وبوجه منبسط، وشاطرت أخاها الإمام الحسين(عليه السلام) في البقاء على الإسلام وطهارته ونزاهته، وأبلغت صوته (عليه السلام) الى مسامع التاريخ وفي أذان الأجيال حيث قال الشاعر عن لسان الإمام (عليه السلام):

ان كان دين محمد لم يستقم             الا بقتلي يا سيـــوف خذيني

ثم ان السيدة زينب (عليها السلام) مع علمها بما يجري عليها وعلى موكب كربلاء من بلايا ورزايا في هذه الرحلة، شاركت أخاها الإمام الحسين(عليه السلام) في سفره هذا مشاطرة له همومه، وهي مسرورة على انها في خدمة أخيها وإمامها، ومبتهجة بذلك، وكانت للسيدة زينب (عليها السلام) في المنازل التي مروا بها في الطريق وكذلك في كربلاء مواقف أخوية صادقة، وقضايا شجاعة وهامة، ومصائب عظيمة و مؤلمة منها:
انها (عليها السلام) قدّمت ولديها: محمدا وعونا وألبستهما لباس الحرب، وأمرتهما بنصرة أخيها الإمام الحسين (عليه السلام) ومجاهدة أعدائه وتفدية أنفسهما من اجله، فتقدم بين يدي الإمام الحسين(عليه السلام) اولاً محمد بن عبد الله بن جعفر بن ابي طالب (عليه السلام) وأخذ يقاتل وهو يترجز ويقول:

نشكو الى الله من العدوان         قتال قوم في الورى عميان
قد تركوا معالــم القــــرآن          ومحـــكم التنزيل و التبيـان

وأظهروا الكفر مع الطغيان
فقاتل بين يدي إمامه قتال الأبطال حتى قتل عشرة من الأعداء، قتله بعدها عامر بن نهشل التميمي.
ثم برز بعده أخوه عون بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب (عليه السلام)وهو يرتجز ويقول:

ان تنكروني فانا بن جـــعفر          شهيد صدق في الجنان أزهر
يطير فيها بجناح أخــــضــر          كفى بهذا شرفا في المحشـر

ثم كرّ على الأعداء، وجدل الصناديد والأبطال وقاتل قتالا شديداً حتى قتل جمعاً من الفرسان ومن الرجالة، فشد عليه حينئذ عبد الله بن بطة الطائي فقتله، وقيل: قتله عبد الله بن قبطنة التيهاني.
نعم، قدمت السيدة زينب (عليها السلام) بين يدي أخيها الإمام الحسين (عليه السلام) ولديها وفلذتي كبدها عونا ومحمدا بكل إخلاص، واحتسبتهما لله، ولم تذكرهما في شيء من مراثيها، ولم تنوّه باسمهما، ولم تتطرق الى شيء يخصهما أو يذكّر بشهادتهما، ولم تخرج حتى عند شهادتهما حين سقطا على الأرض، كل ذلك تجلدا منها وصبراً، وتفانياً منها ومواساة، كي لا تمن على أخيها الإمام الحسين (عليه السلام) بهما، ولا يمس اخاها الضرّ من اجلهما، ولا ترى آثار العسر و الحرج في وجه أخيها بسبب شهادتها.
فانها من شدة معرفتها بامامها كانت ترى كل شيء ـ حتى شهادة فلذتي كبدها ـ في قبال الإمام الحسين (عليه السلام) صفرا، وتجاهه صغيرا ضئيلا، كما انها كانت ترى أسرها وسبها كذلك، مع أنه كان من الصعب عليها جداً أن ترى نفسها في البلد الذي كان يتسابق من أجل الوصول الى خدمتها نساء الأعيان والأشراف، ان تكون الآن فيه اسيرة بيد الأعداء يسوقونها مسبّية الى ابن زياد.

[المرأة الثانية من الأولين والآخرين]

المرأة الثانية من الأولين والآخرين
ان الذي يستفاد من الأخبار و الروايات هو: ان لمحبة الإمام الحسين(عليه السلام) ومودته ـ رغم وجوبها على كل مسلم ـ امتيازات خاصة تميّزه عن محبة غيره، ففي الحديث الشريف: (ان للحسين (عليه السلام) في قلوب المؤمنين محبة مكنونة). وفي حديث آخر: ( احب الله من أحبّ حسينا)(17) وغير ذلك مما يشير الى ان محبة الإمام الحسين (عليه السلام) هي في مقدمة الطاعات والعبادات، بل فوق كثير منها، ولها أجر خاص ليس لغير محبته (عليه السلام) من العبادات والطاعات مثل اجرها.
كيف لا يكون كذلك وقد قدّم الإمام الحسين (عليه السلام) في محبة الله كل شيء حتى نفسه الزكية، وضحّى من أجل محبة الله كل ما عنده حتى طفله الرضيع؟.
وبتضحياته العظيمة، استطاع (عليه السلام) تثبيت محبة الله في قلوب المؤمنين جيلا بعد جيل، حتى صار حبه طريقا الى محبة الله تبارك وتعالى؟.
ولذلك نرى ان جده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يحبه، وأباه أمير المؤمنين (عليه السلام) يحبه، وأمه الصديقة فاطمة الزهراء (عليها السلام) تحبه، وكل المعصومين (عليهم السلام) يحبّونه، ويبالغون جميعهم في حبّه مما يتجاوز حبهم له عن حب الأبوة والبنّوة وحب القرابة والأخوة، فان كل ذلك الحب انما هو لان حبه (عليه السلام) فوق كل الطاعات والعبادات.
ثم ان محبة السيدة زينب (عليها السلام) ومودتها، كمحبة أخيها الإمام الحسين (عليه السلام) ومودته، من أعظم الطاعات والعبادات، ومن افضل القربات الى الله تعالى، كيف لا، وقد بلغت في محبة الله وكذلك في محبة أخيها الإمام الحسين (عليه السلام) مقاما رفيعا لا يمكن لأحد تصوره.
فان فاطمة الزهراء (عليها السلام) ورّثت ابنتها الوفية: السيدة زينب ابنة علي أمير المؤمنين (عليه السلام)، كل خصالها الخيرة، وجميع صفاتها الحميدة، والتي على رأسها الحفاظ على حدود الله تعالى وحرماته، وصون كرامة رسول الله المصطفى وأهل بيته.
وعلمتها كيف تقف امام المعتدين وتندد بهم، وتشجب أعمالهم، وتحاججهم بكتاب الله، وتخاصمهم بالعقل والمنطق السليم.
وأوصتها بأن تجود بالبذل والعطاء فيما لو استدعى وقوفها بوجه المعتدين الى الفداء والتضحية، حتى ولو كان بالنفس، بل واصعب منه وهو السبي والأسر، لأن السبي والأسر أمرّ من الموت والقتل على الإنسان الغيور.
وكذلك فعلت السيدة زينب (عليها السلام) فقد عملت بوصية امها كاملة، وطبقتها حرفيا، وأقرت عين أمها بمواقفها الشجاعة، وحافظت بقيمة أسرها وسبيها على حدود الله وحرماته، وصانت قدسية جدها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وكرامة أهل بيته (عليهم السلام) من اكاذيب وتهم بني أمية و افتراءاتهم.
وهذا الذي فعلته السيدة زينب (عليها السلام) لم يفعله غيرها وغير أمها (عليها السلام) من النساء العظيمات، ولم تقدم واحدة منهن للدين مثل ما قدمته فاطمة الزهراء (عليها السلام) وابنتها زينب (عليها السلام). كما لم تؤثر واحدة منهن في بقاء الدين وأهله، نزيهاً ومباركاً بقدر التأثير العظيم الذي أثرته فاطمة الزهراء (عليها السلام) وابنتها زينب (عليها السلام)، مما يكشف عن أن السيدة زينب (عليها السلام) هي المرأة الثانية في العالم من الأولين والآخرين بعد امها.
ثم هي، ثم بقية النساء العظيمات كخديجة الكبرى، ومريم العذراء، وذلك لان فاطمة الزهراء (عليها السلام) اضافة الى تفوقها في حفظها حدود الله وحرماته قد جمعت في نفسها كل خصال الخير، وجميع صفات الكمال التي تحلت بها النساء العظيمات قبلها، ثم ورثتها ابنتها الوفية السيدة زينب (عليها السلام)، فصارت السيدة زينب (عليها السلام) الوارثة لكل الكمالات لمن كان قبلها، مزدانة بعلو نسبها، وشرف فرعها واصلها: شجرة خاتم الأنبياء ودوحة سيد الأوصياء، وثمار أهل البيت (عليهم السلام).

ولادتها ونشأتها
ازدهرت حياة الاُسرة النبوية بالسبطين الكريمين الإمامين: الحسن والحسين (عليهما السّلام)، فكانا كالقمرين في ذلك البيت الكريم، الذي أذن الله أن يرفع ويُذكر فيه اسمه، وقد استوعبا قلب جدّهما الرسول (صلّى الله عليه وآله) مودّةً ورحمةً وحناناً، فكان يرعاهما برعايته، ويغدق عليهما بإحسانه ويفيض عليهما من مكرمات نفسه التي استوعب شذاها جميع آفاق الوجود.
لقد كان النبي (صلّى الله عليه وآله) يكنّ في دخائل نفسه أعمق الودّ لسبطيه، فكان يقول: (هما ريحانتي من الدنيا)(18).
وبلغ من عظيم حبّه لهما أنّه كان على المنبر يخطب، فأقبل الحسن والحسين وعليهما قميصان أحمران، وهما يمشيان ويعثران فنزل عن المنبر فحملهما، ووضعهما بين يديه وقال: (صَدَقَ الله إذ يقول: (واعلموا أما أموالكم وأولادكم فتنة)(19) لقد نظرت إلى هذين الصبيين وهما يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما)(20).
وكان يقول لسيّدة النساء فاطمة (عليها السّلام): (ادعى ابني فيشمّهما، ويضمّهما إليه)(21).
وفي تلك الفترة السعيدة التي عاشتها الاُسرة النبوية وهي مترعة بالولاء والعطف من الرسول (صلّى الله عليه وآله) عَرَضَ للصدّيقة الطاهرة سيّدة نساء العالمين فاطمة (عليها السّلام) حملٌ، فأخذ النبي (صلّى الله عليه وآله) ينتظره بفارغ الصبر ليبارك به لحبيبته فاطمة، ولباب مدينة علمه الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، أمّا ذلك الحمل فهو:
الوليدة المباركة
ووضعت الصدّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السّلام) وليدتها المباركة التي لم تولد مثلها امرأة في الإسلام إيماناً وشرفاً وطهارةً وعفةً وجهاداً، وقد استقبلها أهل البيت وسائر الصحابة بمزيدٍ من الابتهاج والفرح والسرور، وأجرى الإمام أمير المؤمنين على وليدته المراسيم الشرعية، فإذّن في أُذنها اليمنى، وأقام في اليسرى.
لقد كان أوّل صوت قرع سمعها هو: (الله أكبر، لا إله إلاّ الله) وهذه الكلمات اُنشودة الأنبياء، وجوهر القيم العظيمة في الأكوان.
وانطبعت هذه الاُنشودة في أعماق قلب حفيدة الرسول فصارت عنصراً من عناصرها، ومقوماً من مقوماتها.

وجوم النبي وبكاؤه
وحينما علم النبي (صلّى الله عليه وآله) بهذه المولودة المباركة سارع إلى بيت بضعته، وهو خائر القوى حزين النفس، فأخذها ودموعه تتبلور على سحنات وجهه الكريم، وضمّها إلى صدره، وجعل يوسعها تقبيلاً، وبهرت سيّدة النساء فاطمة (عليها السّلام) من بكاء أبيها، فانبرت قائلةً: (ما يبكيك يا أبتي؟ لا أبكى الله لك عيناً). فأجابها بصوت حزين النبرات: (يا فاطمة، اعلمي أنّ هذه البنت بعدي وبعدك سوف تنصبّ عليها المصائب والرزايا)(22).
لقد استشف النبي (صلّى الله عليه وآله) ما يجري على حفيدته من الرزايا القاصمة التي تذوب من هولها الجبال، وسوف تمتحن بما لم تمتحن به أيّ سيّدة من بنات حواء. ومن الطبيعي أنّ بضعته وباب مدينة علمه قد شاركا النبي في آلامه وأحزانه، وأقبل سلمان الفارسي الصديق الحميم للاُسرة النبوية يهنئ الإمام أمير المؤمنين بوليدته المباركة فألفاه حزيناً واجماً، وهو يتحدّث عمّا تعانيه ابنته من المآسي والخطوب(23)، وشارك سلمان أهل البيت في آلامهم وأحزانهم.
تسميتها وحملت زهراء الرسول وليدتها المباركة إلى الإمام فأخذها وجعل يقبّلها، والتفتت إليه فقالت له:
(سمّ هذه المولودة).
فأجابها الإمام بأدبٍ وتواضعٍ: (ما كنت لأسبق رسول الله).
وعرض الإمام على النبي (صلّى الله عليه وآله) أن يسمّيها، فقال: (ما كنت لأسبق ربّي).
وهبط رسول السماء على النبي، فقال له: سمّ هذه المولودة (زينب)، فقد اختار الله لها هذا الاسم.
وأخبره بما تعانيه حفيدته من أهوال الخطوب والكوارث فأغرق هو وأهل البيت في البكاء(24).

كنيتها

وكنيت الصدّيقة الطاهرة زينب بـ(اُمّ كلثوم)، وقيل: إنها تكنى بـ(اُمّ الحسن)(25).

ألقابها

أما ألقابها فإنّها تنمّ عن صفاتها الكريمة، ونزعاتها الشريفة وهي:
عقيلة بني هاشم:
و(العقيلة) هي: المرأة الكريمة على قومها، والعزيزة في بيتها، والسيّدة زينب أفضل امرأة، وأشرف سيّدة في دنيا العرب والإسلام، وكان هذا اللقب وساماً لذرّيتها فكانوا يلقّبون بـ(بني العقيلة).
العالمة:
وحفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) من السيّدات العالمات في الاُسرة النبوية، فكانت فيما يقول بعض المؤرخين: مرجعاً للسيّدات من نساء المسلمين يرجعن إليها في شؤونهن الدينية.
عابدة آل عليّ:
وكانت زينب من عابدات نساء المسلمين، فلم تترك نافلة من النوافل الإسلامية إلاّ أتت بها، ويقول بعض الرواة: إنها صلّت النوافل في أقسى ليلة وأمرّها وهي ليلة الحادي عشر من المحرم.
الكاملة:
وهي أكمل امرأة في الإسلام في فضلها وعفّتها وطهارتها من الرجس والزيغ.
الفاضلة:
وهي من أفضل نساء المسلمين في جهادها وخدمتها للإسلام، وبلائها في سبيل الله. وهذه بعض ألقابها التي تدلّل على سموّ ذاتها وعظيم شأنها.
سنة ولادتها
أمّا السنة التي وُلدت فيها عقيلة آل أبي طالب، فقد اختلف المؤرخون والرواة فيها، وهذه بعض أقوالهم:
1 - السنة الخامسة من الهجرة في شهر جمادى الاُولى.
2 - السنة السادسة من الهجرة.
3 - السنة التاسعة من الهجرة، وفنّد هذا القول الشيخ جعفر نقدي، فقال: وهذا القول غير صحيح لأنّ فاطمة (عليها السّلام) توفيت بعد والدها في السنة العاشرة أو الحادية عشر على اختلاف الروايات، فإذا كانت ولادة السيّدة زينب في السنة التاسعة وهي كبرى بناتها فمتى كانت ولادة اُمّ كلثوم، ومتى حملت بالمحسن اسقطته لستة أشهر. وقال: والذي يترجّح عندنا هو أنّ ولادة زينب كانت في السنة الخامسة من الهجرة، وذكر مؤيدات اُخرى لما ذهب إليه(26).

نشأتها
نشأت الصدِّيقة الطاهرة زينب (عليها السّلام) في بيت النبوة ومهبط الوحي والتنزيل، وقد غذّتها اُمها سيّدة نساء العالمين بالعفّة والكرامة ومحاسن الأخلاق والآداب، وحفظتها القرآن، وعلّمتها أحكام الإسلام، وأفرغت عليها أشعة من مثلها وقيمها حتى صارت صورة صادقة عنها.
لقد قطعت شوطاً من طفولتها في بيت الشرف والكرامة والرحمة والمودة، فقد شاهدت أباها الإمام أمير المؤمنين (عليها السّلام) يشارك اُمّها زهراء الرسول في شؤون البيت، ويعينها في مهامه، ولم تتردّد في أجواء البيت أية كلمة من مرّ القول وهجره، وشاهدت جدّها الرسول (صلّى الله عليه وآله) يغدق عليهم بفيض من تكريمه وتبجيله وعطفه وحنانه، كما شاهدت الانتصارات الباهرة التي أحرزها الإسلام في الميادين العسكرية، والقضاء على خصومه القرشيّين وأتباعهم من عبدة الأوثان والأصنام، فقد ساد الإسلام، وارتفعت كلمة الله عاليةً في الأرض، ودخل الناس في دين الله أفواجاً أفواجاً.
لقد ظفرت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) بأروع وأسمى ألوان التربية الإسلامية، فقد شاهدت أخاها الإمام الحسين يعظّم أخاه الإمام الحسن(عليه السّلام) ويبجّله، فلم يتكلّم بكلمة قاسية معه، ولم يرفع صوته عليه ولم يجلس إلى جانبه، وشاهدت أخوتها من أبيها، وهم يعظمون أخويها الحسن والحسين، ويقدّمون لهما آيات التكريم والتبجيل، وكانت هي بالذات موضع احترام اخوتها، فكانت إذا زارت أخاها الإمام الحسين(عليه السّلام) قام لها إجلالاً وإكباراً وأجلسها في مكانه، وكانت إذا أرادت الخروج لزيارة قبر جدّها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) خرج معها أبوها الإمام أمير المؤمنين وأخوها الحسنان، ويبادر الإمام أمير المؤمنين إلى إخماد ضوء القناديل التي على المرقد المعظّم، فسأله الإمام الحسن(عليه السّلام) عن ذلك، فقال له: (أخشى أن ينظر أحد إلى شخص أختك الحوراء)(27).
لقد اُحيطت عقيلة بني هاشم بهالة من التعظيم والتبجيل من أبيها وأخوتها، فهي حفيدة النبي (صلّى الله عليه وآله)، ووريثة مُثُله وقيمه وآدابه، كما كانت لها المكانة الرفيعة عند العلماء والرواة، فكانوا إذا رووا حديثاً عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السّلام) في أيام الحكم الاُموي، يقولون: روى أبو زينب، ولم يقولوا: (روى أبو الحسنين)، وذلك اشاده بفضلها وعظيم منزلتها.

قدراتها العلمية
كانت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) في فجر الصبا آيةً في ذكائها وعبقريتها، فقد حفظت القرآن الكريم، كما حفظت أحاديث جدّها الرسول (صلّى الله عليه وآله) فيما يتعلّق بأحكام الدين وقواعد التربية واُصول الأخلاق، وقد حفظت الخطاب التأريخي الخالد الذي ألقته اُمّها سيّدة النساء فاطمة (عليها السّلام) في (الجامع النبوي) احتجاجاً على أبي بكر لتقمّصه للخلافة، ومصادرته لـ(فدك) التي أنحلها إيّاها أبوها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، وقد روت خطبة اًمّها التي ألقتها على السيّدات من نساء المسلمين حينما عُدنها في مرضها الذي توفّيت فيه، كما روت عنها كوكبة من الأحاديث.
قد بهر الإمام أمير المؤمنين(عليه السّلام) من شدّة ذكائها، فقد قالت له: (أتحبّنا يا أبتاه).
فأسرع الإمام قائلاً: (وكيف لا اُحبكم وأنتم ثمرة فؤادي).
فأجابته بأدبٍ واحترامٍ: (يا ابتاه، إنّ الحبّ لله تعالى، والشفقة لنا..)(28).
وعجب الإمام(عليه السّلام) من فطنتها، فقد أجابته جواب العالم المنيب إلى الله تعالى، وكان من فضلها واعتصامها بالله تعالى أنّها قالت: (من أراد أن لا يكون الخلق شفعاؤه إلى الله فليحمده، ألم تسمع إلى قوله: سمع الله لمن حمده، فخف الله لقدرته عليك، واستح منه لقربه منك)(29).
وممّا يدلّ على مزيد فضلها أنّها كانت تنوب عن أخيها الإمام الحسين في حال غيابه فيرجع إليها المسلمون في المسائل الشرعية، ونظراً لسعة معارفها كان الإمام زين العابدين(عليه السّلام) يروي عنها، وكذلك كان يروي عنها عبد الله بن جعفر، والسيّدة فاطمة بنت الإمام الحسين، ولمّا كانت في الكوفة في أيام أبيها كان لها مجلس خاص تزدحم عليها السيّدات فكانت تلقي عليهن محاضرات في تفسير القرآن الكريم، كما كانت المرجع الأعلى للسيّدات من نساء المسلمين، فكنّ يأخذن منها أحكام الدين وتعاليمه وآدابه، ويكفي للتدليل على فضلها أنّ ابن عباس حبر الاُمّة كان يسألها عن بعض المسائل التي لا يهتدي لحلّها، كما روى عنها كوكبة من الأخبار، وكان يعتزّ بالرواية عنها، ويقول: (حدّثتنا عقيلتنا زينب بنت علي)، وقد روى عنها الخطاب التأريخي الذي ألقته اُمّها سيّدة النساء فاطمة (عليها السّلام) في جامع أبيها (صلّى الله عليه وآله)، وقد نابت عن ابن أخيها الإمام زين العابدين(عليه السّلام) في أيام مرضه، فكانت تجيب عمّا يرد عليه من المسائل الشرعية، وقد قال(عليه السّلام) في حقها:
(إنها عالمة غير معلّمة)، وكانت ألمع خطيبة في الإسلام، فقد هزّت العواطف، وقلبت الرأي العام وجنّدته للثورة على الحكم الاُموي، وذلك في خطبها التأريخية الخالدة التي ألقتها في الكوفة ودمشق، وهي تدلّل على مدى ثرواتها الثقافية والأدبية.
لقد نشأت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) في بيت الوحي ومركز العلم والفضل، فنهلت من نمير علوم جدّها وأبيها وأخويها، فكانت من أجل العالمات، ومن أكثرهن إحاطة بشؤون الشريعة وأحكام الدين.

اقترانها بابن عمها
ولما تقدّمت سيدة النساء زينب في السنّ انبرى الأشراف والوجوه إلى خطبتها، والتشرّف بالاقتران بها، فامتنع الإمام أمير المؤمنين(عليه السّلام) من إجابتهم، وتقدّم لخطبتها فتىً من أنبل فتيان بني هاشم وأحبّهم إلى الإمام وأقربهم إليه، وهو ابن أخيه: عبد الله بن جعفر، من أعلام النبلاء والكرماء في دنيا العرب والإسلام، فأجابه الإمام إلى ذلك ورحّب به، ونعرض - بإيجاز- إلى بعض شؤونه.
أبوه جعفر:
أما جعفر فقد كان - فيما يقول الرواة -: من أشبه الناس خلقاً وخُلقاً بالنبي (صلّى الله عليه وآله)(30). يقول فيه أبو هريرة: ما احتذى النعال ولا ركب المطايا، ولا وطئ التراب بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أفضل من جعفر بن أبي طالب(31). وهو من السابقين للإسلام وقد رآه أبوه طالب يصلّي مع أخيه الإمام أمير المؤمنين(عليه السّلام) خلف النبي (صلّى الله عليه وآله) فقال له: صل جناح ابن عمّك، وصلِّ عن يساره، وكان علي يصلّي عن يمينه)(32). وله هجرتان إلى الحبشة، وهجرة إلى المدينة(33).
وكان من أبرّ الناس بالفقراء والضعفاء، وقد برّ بأبي هريرة وأحسن إليه أيام بؤسه وفقره، وقد تحدّث عن ذلك، قال: كنت لألصق بطني بالحصباء من الجوع، وإن كنت لأستقرئ الرجل الآية وهي معي كي ينقلب بي فيطعمني، وكان أبرّ الناس للمسكين جعفر بن أبي طالب كان ينقلب فيطعمنا ما كان في بيته حتى كان ليخرج إلينا العكة التي ليس فيها شيء فنشقّها فنلعق ما فيها(34).
وقدم إلى المدينة من هجرته إلى الحبشة فاستبشر به رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وفرح فقد صادف قدومه فتح خيبر، فقال (صلّى الله عليه وآله): (ما أدري بأيّهما أنا أشد فرحاً أبقدوم جعفر أم بفتح خيبر..)(35).
واختطّ له النبي (صلّى الله عليه وآله) داراً إلى جنب المسجد، وكان أثيراً عنده، لا لأنه ابن عمه فحسب، وإنما لإيمانه الوثيق وتفانيه في نشر كلمة الإسلام، وإشاعة مبادئه وأحكامه..بعثه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في جيش إلى مؤتة في السنة الثامنة من الهجرة فاستشهد فيها، ويقول الرواة: إنّ اللواء كان بيده اليمنى فقطعت، فرفعه بيده اليسرى، فلمّا قطعت رفعه بيديه، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (وإن الله عزّ وجلّ أبدله بيديه جناحين يطير بهما في الجنة حيث شاء)(36).
ولهذا لقّب بـ(ذي الجناحين) وبـ(الطيار).
وحزن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) على جعفر، فقصد داره ليواسي زوجته وأبناءه بمصائبهم الأليم، فقال لزوجته أسماء: (ائتيني ببني جعفر)، فأتته بهم، فجعل يوسعهم تقبيلاً ودموعه تتبلور على سحنات وجهه الكريم، وفهمت أسماء نبأ شهادة زوجها فقالت له:(يا رسول الله، أبَلَغك عن جعفر وأصحابه شيء).
فأجابها بنبراتٍ تقطرأسىً وحزناً قائلاً:(نعم اُصيب هذا اليوم).
وأخذت أسماء تنوح على زوجها، وأقبلت السيّدات من نساء المسلمين يعزينها بمصابها الأليم، وأمر النبي (صلّى الله عليه وآله) أن يصنع طعام لآل جعفر(37) وأقبلت سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (عليها السّلام) على أسماء تعزّيها وهي باكية العين، وقد رفعت صوتها قائلة: (وا عماه).
وطفق رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: (على مثل جعفر فلتبك البواكي)(38).
لقد كانت شهادة جعفر من أقسى النكبات على النبي (صلّى الله عليه وآله)، فقد فَقَدَ بشهادته أعزّ أبناء عمومته وأخلصهم إليه.
الاُم أسماء:
أمّا اُم عبد الله فهي السيّدة الشريفة أسماء بنت عميس، وهي من السابقات إلى اعتناق الإسلام، هاجرت مع زوجها الشهيد الخالد جعفر الطيار إلى الحبشة، وقد ولدت فيها عبد الله وعوناً ومحمداً، ثم هاجرت إلى المدينة، ولما استشهد جعفر تزوّجها أبو بكر فولدت له محمداً، وهو من أعلام الإسلام، ثم توفي أبو بكر فتزوّجها الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، فولدت له يحيى(39)، وقد أخلصت لأهل البيت (عليهم السّلام) فكانت من حزبهم، ولها علاقة وثيقة مع سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (عليها السّلام)، فقد قامت بخدمتها، وقد عهدت إليها في مرضها أن لا تدخل عليها عائشة بنت أبي بكر، فجاءت عائشة لها فمنعتها أسماء، فاغتاظت وشكتها إلى أبي بكر فعاتبها، فأخبرته بعدم رضاء الزهراء في زيارتها(40).
لقد كانت أسماء من خيرة نساء المسلمين في عفّتها وطهارتها وولائها لأهل بيت النبوة، كما كانت من الروايات للحديث، ويقول المؤرخون: إنها روت عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ستين حديثاً.
وعلى أيّ حال، فإن أسماء حينما تزوّجها الإمام أمير المؤمنين(عليه السّلام) قامت بخدمة الحسنين وأختهما زينب (عليها السّلام)، وصارت لهم اُمّاً رؤوماً، ترعاهم كما ترعى أبناءها، لأنهم البقية الباقية من ذرية رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وقد أخلصوا لها كأعظم ما يكون الإخلاص وشكروا لها رعايتها وعطفها.
عبد الله:
ونعود للحديث عن عبد الله بن جعفر، فقد كان فذاً من أفذاذ الإسلام وسيّداً من سادات بني هاشم، يقول فيه معاوية: هو أهلٌ لكلّ شرفٍ، والله ما سبقه أحدٌ إلى شرف إلاّ وسبقه(41).
وكان يُسمى (بحر الجود)(42)، ويقال: لم يكن في الإسلام أسخى منه(43)، مدحه نصيب فأجزل له في العطاء، فقيل له: تعطي لهذا الأسود مثل هذا فقال: إن كان أسود فشعره أبيض، ولقد استحق بما قال أكثر مما نال، وهل أعطيناه إلاّ ما يبلى، وأعطانا مدحاً يروى، وثناءً يبقى(44). وعوتب على كثرة برّه وإحسانه إلى الناس، فقال: إن الله عوّدني عادة، وعوّدت الناس عادة، فأخاف إن قطعتها قطعت عني(45).
وأنشد:

لســـــت أخشـــــــــى قلة العدم          مـــــا اتـــــقيـــــــــت الله فــي كرمي
كــــــلما أنفــــــقـــــت يـــخـلفه            لــــــــي ربّ واســـــــع النـــعم(46)

ونقل الرواة بوادر كثيرة من كرمه وسخائه، وقد وسع الله عليه لدعاء النبي (صلّى الله عليه وآله) له فكان من أثرى أهل المدينة، ومضافاً إلى سخائه فقد كان من ذوي الفضيلة، فقد روى عن عمه الإمام أمير المؤمنين(عليه السّلام) وعن الحسن والحسين (عليهما السّلام).
أبناؤه:
وُرزق هذا السيّد الجليل من سيدة النساء زينب (عليها السّلام) كوكبة من السادة الأجلاء وهم:
1- عون:
وكان من أبرز فتيان بني هاشم في فضله وكماله، صحب خاله الإمام الحسين عليه السّلام، حينما هاجر من يثرب إلى العراق، ولازمه في رحلته، فلما كان يوم العاشر من المحرم، اليوم الخالد في دنيا الأحزان، تقدم إلى الشهادة بين يدي خاله، فبرز إلى حومة الحرب وهو يرتجز:

إن تـــــنكروني فــــــأنا ابــن جعفر             شهـــــيد صـــدق في الجنان أزهر
يطيـــــر فـــــيها بــــــجـناح أخضر           كفــــى بــــــهذا شــرفـاً من محشر(47)

لقد عرّف نفسه - بهذا الرجز - فقد انتسب إلى جده الشهيد العظيم جعفر، الذي قطعت يداه في سبيل الإسلام، ويكفيه بذلك شـــــرفاً وفخراً، وجعل الفتى يقاتل الأبطال غير حافل بتلك الوحوش الكاسرة، فحمل عليه وغد خبيث هو عبد الله الطائي فقتله(48)، ورثاه سليمان بن قنة بقوله:

وانـــــدبي إن بــــكيت عـــــوناً أخــــاه             ليـــــس فـــــــــــــــيما يــــــنوبهـم بـــخـذول
فــــلعمري لــــقد أصــــبت ذوي القـــر           بـــى فكـــــبى عـــلى الـمصاب الطويل(49)

2- علي الزينبي.
3- محمد.
4- عباس.
5- السيّدة اُمّ كلثوم(50):
وبلغت هذه السيّدة مبلغ النساء، وكانت فريدة في جمالها وعفافها واحترامها عند أهلها وعامة بني هاشم، وأراد معاوية أن يتقرّب إلى بني هاشم ويعزّز مكانته في نفوس المسلمين، في أن يخطبها لولده يزيد، فكتب إلى واليه على يثرب مروان بن الحكم كتاباً جاء فيه:
أمّا بعد: فأنّ أمير المؤمنين أحب أن يرد الإلفة، ويسلّ السخيمة، ويصل الرحم، فإذا وصل إليك كتابي، فاخطب إلى عبد الله بن جعفر ابنته اُمّ كلثوم على يزيد ابن أمير المؤمنين، وارغب إليه في الصداق..
وظنّ معاوية أنّ سلطته المزيفة، وما يبذله من الأموال الطائلة تغري السادة العلويين الذين تربّوا على الكرامة والشرف، وكل ما يسمو الإنسان، ولم يعلم أن سلطته وأمواله لا تساوي عندهم قلامة أظفر.
ولمّا انتهى كتاب معاوية إلى مروان خاف جانب الإمام الحسين، لأنّه يعلم أنّه يفسد عليه الأمر، وسافر الحسين، فاغتنم مروان فرصة سفره فبادر مسرعاً إلى عبد الله بن جعفر، فعرض عليه كتاب معاوية، وجعل يحبّذ له الأمر، ويطالبه بالإسراع فيه لأنّ في ذلك إصلاحاً لذات البين، واجتماعاً للكلمة ولم يخف عن عبد الله الأمر، فقال لمروان: إنّ خالها الحسين في ينبع(51). وليس لي من سبيل أن أقدم على هذا الأمر من دون أخذ رأيه وموافقته.
ولمّا رجع الإمام الحسين(عليه السّلام) إلى يثرب خفّ إليه عبد الله بن جعفر مسرعاً، فعرض عليه الأمر، وما أجاب به مروان، فالتاع الإمام الحسين(عليه السّلام) من (ذلك) إذ كيف تكون ابنة أخته عند فاجر بني أمية، حفيد أبي سفيان، فانطلق الإمام(عليه السّلام) إلى شقيقته زينب (عليها السّلام) وأمرها بإحضار ابنتها اُمّ كلثوم فلمّا مثلث أمامه، قال لها: إن ابن عمّك القاسم بن محمد بن جعفر أحقّ بك، ولعلك ترغبين في كثرة الصداق.
واستجابت الفتاة لرأي خالها، ورحّبت أمّها العقيلة بذلك، ورضي أبوها عبد الله برغبة الإمام الحسين، وقدم لها الإمام مهراً كثيراً.
وكتم الإمام الأمر، فلما كانت ليلة الزواج أقام دعوة عامة فيها جمهرة كبيرة من أبناء المدينة، وكان من جملة المدعوين: مروان، وقد ظنّ أنّه دعي لتلبية ما رغب فيه معاوية من زواج السيّدة اُمّ كلثوم بابنه يزيد، فقام خطيباً فأثنى على معاوية وما قصده من جمع الكلمة وصلة الرحم، ولمّا أنهى كلامه قام الإمام الحسين (عليه السّلام) فأعلن أنه زوّج السيّدة اُمّ كلثوم بابن عمّها القاسم بن محمد بن جعفر.
ولمّا سمع مروان تميز غيظاً وغضباً، وفقد صوابه، فقد أفشل الإمام رغبته، فرفع عقيرته قائلاً: أغدراً يا حسين(52).
وخرج مروان يتعثّر بأذياله، وانتهى الأمر إلى معاوية، فحقد على الحسين، وساءه ذلك، فقد فشلت محاولاته في خداع العلويين، وخداع المسلمين بمصاهرة ولده للاُسرة النبوية.

[عناصرها النفسية] عناصرها النفسية
وما من صفةٍ كريمةٍ أو نزعةٍ شريفةٍ يفتخر بها الإنسان، ويسمو بها على غيره من الكائنات الحية إلاّ وهي من عناصر عقيلة بني هاشم، وسيدة النساء زينب (عليها السّلام)، فقد تحلّت بجميع الفضائل التي وهبها الله تعالى لجدّها الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله)، وأبيها الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، واُمّها سيدة نساء العالمين (عليها السّلام)، وأخويها الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة وريحانتي رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فقد ورثت خصائصهم، وحكت مميزاتهم، وشابهتهم في سموّ ذاتهم ومكارم أخلاقهم.
لقد كانت حفيدة الرسول بحكم مواريثها وخصائصها أعظم وأجلّ سيدة في دنيا الإسلام، فقد أقامت صروح العدل، وشيّدت معالم الحق، وأبرزت قيم الإسلام ومبادئه على حقيقتها النازلة من ربّ العالمين، فقد جاهدت هي واُمّها زهراء الرسول كأعظم ما يكون الجهاد، ووقفتا بصلابة لا يعرف لها مثيل أمام التيارات الحزبية التي حاولت بجميع ما تملك من وسائل القوة أن تلقي الستار على قادة الاُمّة وهداتها الواقعيين، الذين أقامهم الرسول (صلّى الله عليه وآله) أعلاماً لاُمّته، وخزنة لحكمته وعلومه، فقد أظهرت زهراء الرسول بقوة وصلابة عن حقّ سيّد العترة الإمام أمير المؤمنين، رائد العدالة الاجتماعية في الإسلام، فناهضت حكومة أبي بكر في خطابها التأريخي الخالد، وسائر مواقفها المشرّفة التي وضعت فيها الأساس المشرق لمبادئ شيعة أهل البيت، فهي المؤسِّسة الاُولى بعد أبيها (صلّى الله عليه وآله) لمذهب أهل البيت(عليهم السّلام)، وكذلك وقفت ابنتها العقلية أمام الحكم الاُموي الأسود الذي استهدف قلع الإسلام من جذوره ومحو سطوره، وإقصاء أهل البيت(عليهم السّلام) عن واقعهم الاجتماعي والسياسي، وإبعادهم عن المجتمع الإسلامي، فوقفت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) مع أخيها أبي الأحرار في خندق واحد، فحطّم أخوها بشهادته وهي بخطبها في أروقة بلاط الحكم الاُموي، ذلك الكابوس المظلم الذي كان جاثماً على رقاب المسلمين.
وعلى أي حال، فإنا نعرض بصورة موجزة لبعض العناصر النفسية لحفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله)، وما تتمتّع به من القابليات الفذة، التي جعلتها في طليعة نساء المسلمين، وفيما يلي ذلك:
الإيمان الوثيق
وتربّت عقيلة بني هاشم في بيت الدعوة إلى الله تعالى، ذلك البيت الذي كان فيه مهبط الوحي والتنزيل، ومنه انطلقت كلمة التوحيد وامتدت أشعتها المشرقة على جميع شعوب العالم واُمم الأرض، وكان ذلك أهمّ المعطيات لرسالة جدّها العظيم.
لقد تغذت حفيدة الرسول بجوهر الإيمان وواقع الإسلام، وانطبع حبّ الله تعالى في عواطفها ومشاعرها حتى صار ذلك من مقوماتها وذاتياتها، وقد أحاطت بها المحن والخطوب منذ نعومة أظفارها، وتجرّعت أقسى وأمرّ ألوان المصائب، كلّ ذلك من أجل رفع كلمة الله عالية خفّاقة.
إنّ الإيمان الوثيق بالله تعالى والانقطاع الكامل إليه كانا من ذاتيات الاُسرة النبوية ومن أبرز خصائصهم، ألم يقل سيد العترة الطاهرة الإمام أمير المؤمنين في دعائه:
(عبدتك لا طمعاً في جنتك، ولا خوفاً، من نارك، ولكني وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك).
وهو القائل:(لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً).
أما سيّد شباب أهل الجنة الإمام الحسين عليه السّلام، فقد أخلص لله تعالى كأعظم ما يكون الإخلاص، وذاب في محبته وقد قدّم نفسه والكواكب المشرقة من أبنائه وأخوته وأبناء عمومته قرابين خالصة لوجه الله، وقد طافت به المصائب والأزمات التي يذوب من هولها الجبال، وامتحن بما لم يمتحن به أحدٌ من أنبياء الله وأوليائه، كل ذلك في سبيل الله تعالى، فقد رأى أهل بيته وأصحابه الممجدين صرعى، ونظر إلى حرائر النبوة وعقائل الوحي، وهنّ بحالة تميد من هولها الجبال، وقد أحاطت به أرجاس البشرية وهم يوسعونه ضرباً بالسيوف وطعناً بالرماح، ليتقرّبوا بقتله إلى سيّدهم ابن مرجانة، لقد قال وهو بتلك الحالة كلمته الخالدة، قال: (لك العتبى يا ربّ إنّ كان يرضيك هذا، فهذا إلى رضاك قليل)، ولمّا ذُبح ولده الرضيع بين يديه، قال:(هوّن ما نزل بي أنّه بعين الله)(53).
أرأيتم هذا الإيمان الذي لا حدود له!
أرأيتم هذا الانقطاع والتبتل إلى الله!
وكانت حفيدة الرسول زينب سلام الله عليها كأبيها وأخيها في عظيم إيمانها وانقطاعها إلى الله، فقد وقفت على جثمان شقيقها الذي مزّقته سيوف الشرك، هو جثة هامدة بلا رأس، فرمقت السماء بطرفها، وقالت كلمتها الخالدة التي دارت مع الفلك وارتسمت فيه:(اللّهمّ تقبّل منّا هذا القربان)(54).
إنّ الإنسانية تنحني إجلالاً وخضوعاً أمام هذا الإيمان الذي هو السرّ في خلودها وخلود أخيها.
لقد تضرعت بطلة الإسلام بخشوع إلى الله تعالى أن يتقبّل ذلك القربان العظيم الذي هو ريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله).
فأيّ إيمان يماثل هذا الإيمان؟!
وأيّ تبتّل إلى الله تعالى يضارع هذا التبتّل؟!
لقد أظهرت حفيدة الرسول بهذه الكلمات الخالدة معاني الوراثة النبوية، وأظهرت الواقع الإسلامي وأنارت السبيل أمام كلّ مصلح اجتماعي، وأنّ كلّ تضحية تُؤدّى للاُمّة يجب أن تكون خالصة لوجه الله غير مشفوعة بأيّ غرض من أغراض الدنيا.
ومن عظيم إيمانها الذي يبهر العقول، ويحيّر الألباب أنّها أدّت صلاة الشكر إلى الله تعالى ليلة الحادي عشر من المحرّم على ما وفّق أخاها ووفّقها لخدمة الإسلام ورفع كلمة الله.
لقد أدّت الشكر في أقسى ليلة وأفجعها، والتي لم تمرّ مثلها على أيّ أحدٍ من بني الإنسان، فقد أحاطت بها المآسي التي تذوب من هولها الجبال، فالجثث الزواكي من أبناء الرسول وأصحابهم أمامها لا مغسّلين ولا مكفّنين، وخيام العلويات قد أحرقها الطغاة اللئام، وسلبوا ما على بنات رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من حُلي وما عندهنّ من أمتعة وهن يعجن بالبكاء لا يعرفن ماذا يجري عليهن من الأسر والذلّ إلى غير ذلك من المآسي التي أحاطت بحفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) وهي تؤدي صلاة الشكر لله على هذه النعمة التي أضفاها عليها وعلى أخيها.
تدول الدول وتفنى الحضارات وهذا الإيمان العلوي أحقّ بالبقاء، وأجدر بالخلود من هذا الكوكب الذي نعيش فيه.
الصبر
من النزعات الفذة التي تسلّحت بها مفخرة الإسلام وسيّدة النساء زينب (عليها السّلام) هي الصبر على نوائب الدنيا وفجائع الأيام، فقد تواكبت عليها الكوارث منذ فجر الصبا، فرزئت بجدّها الرسول (صلّى الله عليه وآله) الذي كان يحدب عليها، ويفيض عليها بحنانه وعطفه، وشاهدت الأحداث الرهيبة المروعة التي دهمت أباها وأمّها بعد وفاة جدّها، فقد اُقصي أبوها عن مركزه الذي أقامه فيه النبي (صلّى الله عليه وآله)، وأجمع القوم على هضم اُمّها حتى توفيت وهي في روعة الشباب وغضارة العمر، وقد كوت هذه الخطوب قلب العقيلة إلّا أنّها خلدت إلى الصبر، وتوالت بعد ذلك عليها المصائب، فقد رأت شقيقها الإمام الحسن الزكي(عليه السّلام) قد غدر به أهل الكوفة، حتى أضطر إلى الصلح مع معاوية الذي هو خصم أبيها وعدوّه الألد، ولم تمض سنين يسيرة حتى اغتاله بالسمّ وشاهدته وهو يتقيأ دماً من شدة السمّ حتى لفظ أنفاسه الأخيرة.
وكان من أقسى ما تجرعتّه من المحن والمصائب يوم الطف، فقد رأت شقيقها الإمام الحسين(عليه السّلام) قد استسلم للموت لا ناصر له ولا معين، وشاهدت الكواكب المشرقة من شباب العلويين صرعى قد حصدتهم سيوف الاُمويين، وشاهدت الأطفال الرضع يذبحون أمامها.
إن أي واحدة من رزايا سيدة النساء زينب لو ابتلي بها أيّ إنسان مهما تذرّع بالصبر وقوة النفس لأوهنت قواه، واستسلم للضعف النفسي، وما تمكن على مقاومة الأحداث، ولكنّها سلام الله عليها قد صمدت أمام ذلك البلاء العارم، وقاومت الأحداث بنفس آمنة مطمئنة راضية بقضاء الله تعالى وصابرة على بلائه، فكانت من أبرز المعنيين بقوله تعالى: (وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون‌‌‌ أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة)(55)، وقال تعالى: (إنما يوفي الصابرون أجرهم بغير حساب)(56)، وقال تعالى: (ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانو يعملون)(57)، لقد صبرت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) وأظهرت التجلّد وقوة النفس أمام أعداء الله، وقاومتهم بصلابة وشموخ، فلم يشاهد في جميع فترات التأريخ سيدة مثلها في قوة عزيمتها وصمودها أمام الكوارث والخطوب.
يقول الحجّة الشيخ هادي آل كاشف الغطاء في صبرها وعظيم محنتها:

لله صــــــبر زيـــــنب العقــــــيلــــة          كـــم شـــــاهدت مــــصائباً مهولـة
رأت مـــــن الخــــطوب والــــرزايا          أمـــــراً تــــــهون دونــــــه المنايا
رأت كـــــرام قـــــومها الأمــــــاجد          مجـــــزرين فـــــي صــــــعيد واحد
تســـــفي عــــلى جـسومـها الرياح          وهــــــي لـــــذوبان الفـــــلا تـبـاح
رأت رؤوســـــاً بــــالقـنا تـــــشـال          وجثــــــثـاً أكفـــــانهـا الــــــــرمـال
رأت وضيـــــعـاً بـــــــالسهـام يفطم          وصبــــــية بـــــعد أبيــــهم أيتمـوا
رأت شـــــماتـة العـــــــدو فـــــيـها          وصنـــــعه مــــــــا شاء فـي أخيها
وإن مــــن أدهــــى الخطوب السود          وقوفـها بــــــين يــــــدي يــــــزيد

وقال السيّد حسن البغدادي:

يـــــا قـــــلب زينب ما لاقيت من محـن          فــيـك الـــرزايا وكل الصـبر قـد جمعـا
لـــو كــان مـا فيك من صبر ومن محن          في قلب أقوى جبال الأرض لانصدعـا
يكــــــفيك صـــــبراً قلوب الناس كلـهم          تـــفـطّـرت للـــــذي لاقـــــــيـته جـزعـاّ

لقد قابلت العقيلة ما عانته من الكوارث المذهلة والخطوب السود بصبر يذهل كل كائن حي.
العزة والكرامة
من أبرز الصفات النفسية الماثلة في شخصية سيدة النساء زينب (عليها السّلام) هي: العزة والكرامة، فقد كانت من سيّدات نساء الدنيا في هذه الظاهرة الفذة، فقد حُملت بعد مقتل أخيها من كربلاء إلى الكوفة سبية ومعها بنات رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قد نُهب جميع ما عليهنّ من حُلي وما عندهنّ من أمتعة، وقد أضرّ الجوع بأطفال أهل البيت وعقائلهم، فترفعت العقيلة أن تطلب من أولئك الممسوخين - من شرطة ابن مرجانة- شيئاً من الطعام لهم، ولمّا انتهى موكب السبايا إلى الكوفة، وعلمن النساء أنّ السبايا من أهل بيت النبوة سارعن إلى تقديم الطعام إلى الأطفال الذين ذوت أجسامهم من الجوع، فانبرت السيّدة زينب مخاطبة نساء أهل الكوفة قائلة:(الصدقة محرّمة علينا أهل البيت...).
ولما سمع أطفال أهل البيت من عمّتهم ذلك ألقوا ما في أيديهم وأفواههم من الطعام، وأخذ بعضهم يقول لبعض: إن عمتّنا تقول: الصدقة حرام علينا أهل البيت.
أيّ تربية فذّة تربّى عليها أطفال أهل البيت إنّها تربية الأنبياء والصدّيقين التي تسمو بالإنسان فترفعه إلى مستوى رفيع يكون من أفضل خلق الله.
ولمّا سُيِّرت سبايا أهل البيت من الكوفة إلى الشام لم تطلب السيّدة زينب طيلة الطريق أيّ شيء من الإسعافات إلى الأطفال والنساء مع شدّة الحاجة إليها، فقد أنفت أن تطلب أيّ مساعدة من أولئك الجفاة الأنذال الذين رافقوا الموكب.
لقد ورثت عقيلة بني هاشم من جدّها وأبيها العزّة والكرامة والشرف والإباء، فلم تخضع لأي أحدٍ مهما قست الأيام وتلبدت الظروف، إنها لم تخضع إلاّ إلى الله تعالى.
الشجاعة
ولم يشاهد الناس في جميع مراحل التأريخ أشجع ولا أربط جأشاً ولا أقوى جناناً من الاُسرة النبوية الكريمة، فالإمام أمير المؤمنين (سلام الله عليه) عميد العترة الطاهرة كان من أشجع خلق الله، وهو القائل:
(لو تضافرت العرب على قتالي لما وليت عنها)، وقد خاض أعنف المعارك وأشدّها قسوة، فجندل الأبطال، وألحق بجيوش الشرك أفدح الخسائر، وقد قام الإسلام عبل الذراع مفتول الساعد بجهاده وجهوده، فهو معجزة الإسلام الكبرى، وكان ولده أبو الأحرار الإمام الحسين(عليه السّلام) مضرب المثل في بسالته وشجاعته، فقد حيّر الألباب وأذهل العقول بشجاعته وصلابته وقوة بأسه، فقد وقف يوم العاشر من المحرم موقفاً لم يقفه أي أحدٍ من أبطال العالم، فإنه لم ينهار أمام تلك النكبات المذهلة التي تعصف بالحلم والصبر، فكان يزداد انطلاقا وبشراً كلما ازداد الموقف بلاءً ومحنةً، فإنه بعدما صُرعَ أصحابه وأهل بيته زحف عليه الجيش بأسره - وكان عدده فيما يقول الرواة ثلاثين ألفاً- فحمل عليهم وحده وقد طارت أفئدتهم من الخوف والرعب، فانهزموا أمامه كالمعزى إذا شدّ عليها الذئب - على حد تعبير بعض الرواة- وبقي صامداً كالجبل يتلقى الطعنات والسهام من كل جانب، لم يوهن له ركن، ولم تضعف له عزيمة.
يقول العلوي السيّد حيدر:
فـــــتــــــلـقى الجـــــــــــمـوع فــــــرداً          ولكن كل عضو في الروع منــه جموع
رمــــــحـه مـــــن بـــــنانه وكــــأن من          عزمه حـــــــد ســــــــيفه مــــطــبـوع
زوّج الســــــــــيف بـــــــالنفوس ولكن          مهرهــــــا الموت والخضـاب النجــيع
ولما سقط (سلام الله عليه) على الأرض جريحاً قد أعياه نزف الدماء تحامى الجيش الاُموي من الإجهاز عليه خوفاً ورعباً منه، يقول السيّد حيدر:
عفـــــــيراً متـــــى عـــاينته الكمـاة          يخــــتطف الــــــرعب ألـــــــوانـها
فـــــما أجـــــلت الحـــرب عن مثله          صــــريعاً يجـــــبّن شـــــجعانـــــها
وتمثلت هذه البطولة العلوية بجميع صورها وألوانها عند حفيدة الرسول وعقيلة بني هاشم السيّدة زينب (سلام الله عليها)، فإنّها لمّا مثلت أمام الإرهابي المجرم سليل الأدعياء ابن مرجانة احتقرته واستهانت به، فاندفع الأثيم يظهر الشماتة بلسانه الألكن قائلاً:
الحمد لله الذي فضحكم، وقتلكم، وكذّب اُحدوثتكم...
فانبرت حفيدة الرسول بشجاعة وصلابة قائلة:
(الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَكْرَمَنَا بِنَبِيِّهِ، وَطَهَّرَنَا مِنَ الرِّجْسِ تَطْهِيراً، إِنَّمَا يَفْتَضِحُ الْفَاسِقُ وَيَكْذِبُ الْفَاجِرُ، وَهُوَ غَيْرُنا، وَهُوَ غَيرنَا يَا بْنَ مَرْجَانَة..)(58).
لقد قالت هذا القول الصارم الذي هو أمض من السلاح، وهي والمخدرات من آل محمّد في قيد الأسر، وقد رفعت فوق رؤوسهن رؤوس حماتهن، وشهرت عليهن سيوف الملحدين.
لقد أنزلت العقيلة - بهذه الكلمات- الطاغية من عرشه إلى قبره، وعرّفته أمام خدمه وعبيده أنّه المفتضح والمنهزم، وأنّ أخاها هو المنتصر، ولم يجد ابن مرجانة كلاماً يقوله سوى التشفّي بقتل عترة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، قائلاً: كيف رأيت صنع الله بأخيك..؟(59).
وانطلقت عقيلة بن هاشم ببسالة وصمود، فأجابت بكلمات الظفر والنصر لها ولأخيها قائلة:
(ما رَأَيْتُ إِلاّ جَميلاً، هؤُلاءَ قَوْمُ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْقَتَلَ، فَبَرَزُوا إِلى مَضَاجِعِهِمْ، وَسَيَجْمَعُ اللهُ بَيْنكَ وَبَيْنَهُمْ، فَتَحَاحُّ وَتُخَاصَمُ، فَانْظُرْ لِمَنِ الْفَلجُ يَوْمَئِذٍ، ثَكَلَتْكَ اُمُّكَ يَا بْنَ مَرْجَانَةَ..).
أرأيتم هذا التبكيت الموجع؟ أرأيتم هذه الشجاعة العلوية؟ فقد سجلت حفيدة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم بموقفها وكلماتها فخراً للإسلام وعزاً للمسلمين ومجداً خالداً للاُسرة النبوية.
أما موقفها في بلاط يزيد، وموقفها مع الشامي وخطابها الثوري الخالد فقد هزّ العرش الاُموي، وكشف الواقع الجاهلي ليزيد ومن مكّنه من رقاب المسلمين، وسنعرض لخطابها وسائر مواقفها المشرّفة في البحوث الآتية.
الزهد في الدنيا
ومن عناصر سيدة النساء زينب (عليها السّلام): الزهد في الدنيا، قد بذلت جميع زينتها ومباهجها مقتدية بأبيها الذي طلّق الدنيا ثلاثاً لا رجعة له فيها، ومقتدية باُمّها سيّدة نساء العالمين زهراء الرسول، فقد كانت فيما رواه المؤرّخون لا تملك في دارها سوى حصير من سعف النخل وجلد شاه، وكانت تلبس الكساء من صوف الإبل، وتطحن بيدها الشعير، إلى غير ذلك من صنوف الزهد والإعراض عن الدنيا، وقد تأثرت عقيلة الرسول (صلّى الله عليه وآله) بهذه الروح الكريمة فزهدت في جميع مظاهر الدنيا، وكان من زهدها أنّها ما ادّخرت شيئاً من يومها لغدها حسب ما رواه عنها الإمام زين العابدين عليه السّلام(60). وقد طلقت الدنيا وزهدت فيها وذلك بمصاحبتها لأخيها أبي الأحرار، فقد علمت أنه سيستشهد في كربلاء أخبرها بذلك أبوها، فصحبته وتركت زوجها الذي كان يرفل بيته بالنعيم ومتع الحياة، رفضت ذلك كلّه وآثرت القيام مع أخيها لنصرة الإسلام والذبّ عن مبادئه وقيمه، وهي على علم بما تشاهده من مصرع أخيها، وما يجري عليها بالذات من الأسر والذل، لقد قدّمت على ذلك خدمة لدين الله تعالى.

[الهوامش:]
1 ـ المصدر : زينب الكبرى ، للعلامة الشيخ جعفر النقدي ـ رضوان الله عليه ، المتوفى سنة 1370 هـ ـ ص 17 ، باب إسمها وتاريخ ولادتها.
2 ـ لمعرفة تفاصيل ذلك يمكن لك مراجعة كتاب ( زينب الكبرى ) للنقدي ص 17 ، وكتاب ( رياحين الشريعة ) للمحلاتي ج 3 ص 33.      المحقق
3 ـ كتاب ( بطلة كريلاء ) لعائشة بنت الشاطئ ، ص 16.
4 ـ ناسخ التواريخ ، المجلد الخاص بحياة السيدة زينب ، المسمى بـ ( الطراز المذهب في أحوال سيدتنا زينب ).
وجاء في هذا المصدر ـ أيضاً ـ : لما ولدت السيدة زينب ، مضى عليها عدة أيام ولم يعين لها إسم.
فسالت السيدة فاطمة من الإمام أمير المؤمنين ( عليهما السلام ) عن سبب التأخير في التسمية ؟
فأجاب الإمام : أنه ينتظر أن يختار النبي الكريم لها إسماً.
فاقبلت السيدة فاطمة ببنتها إلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأخبرته بذلك.
فهبط الامين جبرئيل وقال : يا رسول الله إن ربك يقرئك السلام ويقول : يا حبيبي إجعل اسمها زينب.
ثم بكى جبرئيل ، فسأله النبي عن سبب بكائه ؟
فقال : إن حياة هذه البنت سوف تكون مقرونة بالمصائب والمتاعب ، من بداية عمرها إلى وفاتها.
5 - سورة المجادلة: الآية 11.
6 - بحار الانوار ج45 ص 138 ب 39 ح1.
7 - الاحتجاج ص305 فصل خطبة زينب بنت علي ابن ابي طالب (عليه السلام).
8 - الاحتجاج ص305 فصل خطبة زينب بنت علي ابن ابي طالب (عليه السلام).
9 - سورة مريم: الآية 1.
10 - سورة مريم: الآية 1.
11 - الكبريت الأحمر ج3 ص13.
12 - كامل الزيارات ص261.
13 - بحار الأنوار ج41 ص14 ب101 ح4.
14 - سورة طه: الآية 1-2.
15 - بحار الانوار ج10 ص 40 ب2 ح 1.
16 - سورة الأحزاب: الآية 33.
17 - بحار الانوار ج37 ص73 ب50 ح40.
18 - كنز العمّال 110:7. صحيح البخاري - كتاب الأدب. مجمع الزوائد 181:9. تأريخ ابن عساكر 39:13.
19 - سورة الأنفال: الآية 28.
20 - صحيح الترمذي 306:2. مسند أحمد بن حنبل 354:5. اُسد الغابة 12:2. صحيح النسائي 201:1. سنن البيهقي 218:3.
21 - تيسير الوصول - ابن الدبيغ 276:3.
22 - الطراز المذهّب: 38.
23 - بطلة كربلاء: 21.
24 - زينب الكبرى: 16-17.
25 - المصدر السابق: 17.
26- زينب الكبرى: 18.
27 - زينب الكبرى: 22.
28 - زينب الكبرى: 35.
29 - أعيان الشيعة 140:7.
30 - الاستيعاب 242:1، وجاء فيه أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) قال له: (أشبهت خَلُقي وخُلُقي يا جعفر).
31 - الاستيعاب 243:1.
32 - اُسد الغابة 287:1.
33 ـ اُسد الغابة 287:1.
34 ـ المصدر السابق.
35 ـ الاستيعاب 242:1، كان قدوم جعفر إلى يثرب في السنة السابعة من الهجرة.
36 ـ الاستيعاب 242:1.
37 ـ اُسد الغابة 289:1.
38 ـ اُسد الغابة 289:1.
39 ـ المصدر السابق 395:5.
40 ـ حياة الإمام الحسين(عليه السّلام) 271:1.
41 ـ تهذيب التهذيب 171:5.
42 ـ اُسد الغابة 134:3.
43 ـ الاستيعاب 881:3، 882، 288.
44 ـ المصدر السابق.
45 ـ المصدر السابق.
46 ـ عمدة الطالب: 37-38.
47 ـ حياة الإمام الحسين(عليه السّلام) 258:3، نقلاً عن الفتوح.
48 ـ الإرشاد: 268.
49 - مقاتل الطالبيّين: 91.
50 - زينب الكبرى: 126.
51 - ينبع: تبعد عن المدينة بسبع مراحل، فيها عيون ماء عذب غزيرة، قيل: إنّها لبني الحسن، وقيل: إنّها حصن به نخيل وزرع، وبها وقوف الإمام عليّ(عليه السّلام) يتولاّها ولده، جاء ذلك في معجم البلدان 450:5.
52 - زينب عقيلة بني هاشم: 27.
53 - حياة الإمام الحسين(عليه السّلام) 276:3.
54 - المصدر السابق 304:3.
55 - سورة البقرة: الآية 155-157.
56 - سورة الزمر: الآية 10.
57 - سورةالنحل: الآية96.
58 - تاريخ الطبري: 263:6.
59 - زنيب الكبرى: 61.
60 - صحيح الترمذي 319:2، وقريب منه رواه الحاكم في مستدركة 149:3، وابن الأثير في اُسد الغابة 523:5، والخطيب في تأريخ بغداد 36:7، وغيرهم.


source : alhassanain
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

التشيّع إتجاه فكري وسياسي
الحياة العلمية والسياسية في زمن الإمام الباقر ...
البدعة الحسنة والسيئة
المعصومة سلام الله علیها
فکرة عمل الدیود باعث للضوء
حبّ أهل البیت علیهم السلام فی السُنّة المطهّرة
الإمام الباقرعليه السلام وإصلاح الأمّة
استهداف نبي الرحمة (ص) من الراهب بحيرى حتى براءة ...
مع الثورة الحسينية
رساله الامام الهادي ( عليه السلام ) فى الرد على ...

 
user comment