قد علم كل عاقل جرّب الأمور، و عرف مجاريها أن الذي يبني أمره على الكذب و الافتراء في تشريعه و أخباره، لا بد من أن يقع منه التناقض و الإختلاف، و لا سيما إذا تعرّض لكثير من الأمور المهمة في التشريع و الاجتماع و العقائد، و النظم الأخلاقية المبتنية على أدق القواعد، و أحكم الاسس، و لا سيما إذا طالت على ذلك المفتري
__________________________________________________
(1) راجع الهدى إلى دين المصطفى. و الرحلة المدرسية لشيخنا البلاغي. و كتابنا الاعجاز، تجد في هذه الكتب، الشيء الكثير من نقل هذه الخرافات. (المؤلف)
البيان في تفسير القرآن، ص: 58
أيام، و مرّت عليه أعوام. نعم لا بد من أن يقع في التناقض و التهافت من حيث يريد أو لا يريد، لأن ذلك مقتضى الطبع البشري الناقص إذا خلا من التسديد. و قد قيل في المثل المعروف: «لا حافظة لكذوب».
و قد تعرض القرآن الكريم لمختلف الشؤون، و توسّع فيها أحسن التوسع فبحث في الإلهيات و مباحث النبوات، و وضع الأصول في تعاليم الأحكام و السياسات المدنية، و النظم الاجتماعية، و قواعد الأخلاق. و تعرّض لأمور أخرى تثعلق بالفلكيات و التاريخ، و قوانين السلم و الحرب، و وصف الموجودات السماوية و الأرضية من ملك و كواكب و رياح، و بحار و نبات و حيوان و إنسان، و تعرض لأنواع الأمثال، و وصف أهوال القيامة و مشاهدها فلم توجد فيه أية مناقضة و لا أدنى اختلاف، و لم يتباعد عن أصل مسلم عند العقل و العقلاء. و ربما يستعرض الحادثة الواحدة مرتين أو أكثر، فلا تجد فيه أقل تهافت و تدافع. و إليك قصة موسى عليه السّلام، فقد تكررت في القرآن مرارا عديدة، و في كل مرة تجد لها مزية تمتاز بها من غير اختلاف في جوهر المعنى.
و إذا عرفت أن الآيات نزلت نجوما متفرقة على الحوادث، علمت أن القرآن روح من أمر اللّه، لأن هذا التفرق يقتضي بطبعه عدم الملاءمة و التناسب حين يجتمع. و نحن نرى القرآن معجزا في كلتا الحالتين، نزل متفرقا فكان معجزا حال تفرقه، فلما اجتمع حصل له إعجاز آخر. و قد أشار إلى هذا النحو من الإعجاز قوله تعالى:
أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً «4: 82».
البيان في تفسير القرآن، ص: 59
و هذه الآية تدلّ الناس على أمر يحسّونه بفطرتهم، و يدركونه بغريزتهم، و هو أن من يعتمد في دعواه على الكذب و الافتراء لا بد له من التهافت في القول، و التناقض في البيان، و هذا شىء لم يقع في الكتاب العزيز.
و القرآن يتبع هذه الخطة في كثير من استدلالاته و احتجاجاته، فيرشد الناس إلى حكم الفطرة، و يرجعهم إلى الغريزة، و هي أنجح طريقة في الإرشاد، و أقربها إلى الهداية. و قد أحسّت العرب بهذه الاستقامة في أساليب القرآن، و استيقنت بذلك بلغاؤهم. و إن كلمة الوليد بن المغيرة في صفة القرآن تفسر لنا ذلك، حيث قال- حين سأله أبو جهل أن يقول في القرآن قولا:
«فما أقول فيه؟ فو اللّه ما منكم رجل أعلم في الأشعار مني و لا أعلم برجزه مني، و لا بقصيده، و لا بأشعار الجن. و اللّه ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا، و و اللّه إنّ لقوله لحلاوة، و إنه ليحطم ما تحته، و إنه ليعلو و لا يعلى.
قال أبو جهل: و اللّه لا يرضى قومك حتى تقول فيه قال الوليد:
فدعني حتى أفكر فيه فلما فكر. قال: هذا سحر يأثره عن غيره». «1»
و في بعض الروايات قال الوليد:
«و اللّه لقد سمعت منه كلاما ما هو من كلام الإنس و لا من كلام الجن، و إن له لحلاوة، و إن عليه لطلاوة و إن أعلاه لمثمر، و إن أسفله لمغدق، و إنه ليعلو و لا يعلى عليه، و ما يقول هذا بشر ...» «2»
__________________________________________________
(1) تفسير الطبري: 29/ 98.
(2) تفسير القرطبي: 19/ 72.
البيان في تفسير القرآن، ص: 60
و إذا أردت أن تحس ذلك من نفسك فانظر الى الكتب المنسوبة إلى الوحي، فانك تجدها متناقضة المعاني، مضطربة الأسلوب، لا تنهض و لا تتماسك. و إذا نظرت إلى كتب العهدين، و ما فيها من تضارب و تناقض تجلّت لك حقيقة الأمر، و بان لك الحق من الباطل. و هنا نذكر أمثلة مما وقع في الأناجيل من هذا الإختلاف.
1- في الإصحاح الثاني عشر من إنجيل متى، و الحادي عشر من لوقا: إن المسيح قال: «من ليس معي فهو عليّ، و من لا يجمع معي فهو يفرق». و قال في التاسع من مرقس، و التاسع من لوقا: «من ليس علينا فهو معنا».
2- و في التاسع عشر من متى، و العاشر من مرقس، و الثامن عشر من لوقا: إن بعض الناس قال للمسيح: «أيها المعلم الصالح. فقال: لما ذا تدعوني صالحا؟ ليس أحد صالحا إلا واحد و هو اللّه». و في العاشر من يوحنا أنه قال: «أنا هو الراعي الصالح ... أما أنا فإني الراعي الصالح».
3- و في السابع و العشرين من متى قال: «كان اللصّان اللذان صلبا معه- المسيح يعيرانه»، و في الثالث و العشرين من لوقا: «و كان واحد من المذنبين المعلقين يجدف عليه قائلا: إن كنت أنت المسيح فخلص نفسك و إيانا، فأجاب الآخر و انتهره قائلا:
أولا أنت تخاف اللّه؟ إذ أنت تحت هذا الحكم بعينه».
4- و في الإصحاح الخامس من إنجيل يوحنا: «إن كنت أشهد لنفسي فشهادتي لي
ست حقا». و في الثامن من هذا الإنجيل نفسه أنه قال: «و إن كنت أشهد لنفسي فشهادتي حق».
هذه نبذة مما في الأناجيل- على ما هي عليه من صغر الحجم- من التضارب
و التناقض. و فيها كفاية لمن طلب الحق، و جانب التعصب و العناد. «1»
البيان في تفسير القرآن، ص: 61
source : دار العرفان