و ربما كان من فوائد هذا الاتجاه في العبادة، على صعيد الدوافع الذاتية المتصلة بقضايا الإنسان في تطلعاته إلى اللَّه، أنه يؤكد الشعور بحضور اللَّه الدائم المتحرك في كل مفردات الحياة الإنسانية، من خلال كل الحاجات المتفرقة في الحياة اليومية، بشكل شموليّ، و التي يحتاج فيها إلى رعاية اللَّه و عنايته، لارتباطه باللَّه بشكل مباشر أو غير مباشر، فلا يغيب عنه الإحساس باللَّه من خلال أنه لا يغيب عن كل مواقع حياته التفصيلية في جزئياتها و كلياتها. كما أن ذلك يحرّك المضمون العقيدي في داخل إحساسه، في ما يختزنه في داخل عقله من التدبير الإلهي لكل شيء من أمور الإنسان، على أساس علاقة كل شيء به، فتنمو العقيدة في دائرة نموّ الحاجات، و تتأكد الطمأنينة النفسية في ذلك كله، من خلال الثقة باللَّه، الرحمن الرحيم، في حالة الشدة و العسر.
فقد ورد أنه: «من أراد أن يكون أغنى الناس، فليكن واثقا بما عند اللَّه جلّ و عزّ، و روي: فليكن بما في يد اللَّه أوثق منه بما في يديه» «1».
__________________________________________________
(1) البحار، م: 24، ج: 68، ص: 440، باب: 86، رواية: 17.
تفسير من وحي القرآن، ج1، ص: 69
و بذلك تستريح حاجاته في حركتها في دائرته الشعورية عند ما يستريح إيمانه باللَّه في دائرته العقيدية و الروحية.
التوحيد في الاستعانة باللَّه
و إذا كانت الآية الكريمة قد أكدت على التوحيد في العبادة، فقد أكدت على التوحيد في الاستعانة. فإذا كان اللَّه لا يريد لنا أن نعبد غيره، فإنه لا يريد لنا أن نستعين بغيره، لتكون الاستعانة به وحده.
و لكن كيف نفهم معنى التوحيد في الاستعانة باللَّه؟
فهل نفهم من ذلك أن الإنسان لا يملك الاستقلال في أموره، و بالتالي لا بد له من الاستعانة باللَّه في كل شيء، ليكون فعله مظهرا لفعل اللَّه، فتكون نسبته إلى اللَّه هي النسبة الحقيقية، بينما تكون نسبته إلى نفسه بالطريقة الآلية أو الشكلية؟ أو نفهم من ذلك أن الإنسان يملك القدرة على الفعل، و لكن من حيث ما أعطاه اللَّه، مع بقاء الارتباط باللَّه مستمرّا في حركة هذه القدرة في وجوده، فهو الذي يمدّها بالقوة في طبيعتها، و هو القادر على أن يأخذها منه، فيكون للفعل نسبة إلى اللَّه من خلال أنّ إرادته هي عمق القوة في قوّة الإنسان و حركته، فلولاه لما وجد و لما تمكن من الحركة، و لما استمرّ في ممارسة إرادته الحركية، كما يكون للفعل نسبة إلى الإنسان الفاعل باعتبار صدوره منه من خلال إرادته المنطلقة من مواقع قوّته الكامنة في طبيعة وجوده؟
إننا نفهم المسألة في الخط الثاني، لأن الخط الأول يلغي عنصر الاختيار في الإنسان، فيبطل الثواب و العقاب على هذا الأساس. أمّا الخط الثاني فيؤكد الاختيار كما يؤكد الإرادة الإلهية في المعونة التكوينية في البدء و الاستمرار. تفسير من وحي القرآن، ج1، ص: 70
و هذا ما يريد اللَّه للإنسان أن يعيشه في وجدانه العقيدي، و في إحساسه الروحي، فلا ينحرف به إحساسه بالحركة الإرادية، في وجوده، عن الخط المستقيم في العقيدة الذي يحركه نحو الإحساس بفقره إلى اللَّه، و حاجته إلى إمداده بعناصر البقاء في حركة وجوده، بحيث يستعين به بمنطق وجوده التكويني الفقير إليه في كل لحظة، كما يستعين به بمنطق إحساسه بالعجز الطارئ في كل شدّة، ليتأكد عنده الإحساس بالعون التكويني في مسألة الوجود، و العون العملي في مرحلة العجز
تفسير من وحي القرآن، ج1، ص: 70
source : دار العرفان