عربي
Saturday 7th of December 2024
0
نفر 0

الصراط المستقيم‏

الصراط المستقيم‏


اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ إنها المفردات الحيّة التي تشير إلى الخط الإلهي في التطلّع الإنساني. فهذا الإنسان الحائر في غياهب الظلمات، التائه في صحارى التيه، الغارق في بحار الأوهام، السائر في طريق المجهول، هذا الإنسان المتطلع إلى مشارق النور في الغيب ليكتشفها في عقله و قلبه و حياته، في انتظار، لا يأكل القلق روحه، بل يملأ الأمل عينيه يناجي ربّه في طفولة الإحساس الروحي بالفقر إليه، و الذوبان في مواقع الشوق الباحث عنه. إنه يبحث عن الهدى في معرفة ربّه، و معرفة مواقع عظمته، و مفردات نعمته، و ما يريد له، و ما يريده منه، و ما يخطط له من خطط، و ما يثيره في داخله من أشواق و تطلعات.
إنه يناديه و يناجيه و يدعوه: ها هو عبدك الحائر، فأنقذه من حيرته، الضالّ، فاهده من ضلاله، و وجّهه نحو الطريق الذي تستقيم فيه النيّة، و يتوازن فيه العقل، و يطمئن له القلب، و ترتاح فيه الروح، و تثبت فيه الأقدام.
و لا بد لنا من أن نقف أمام هذه الكلمات وقفة تأمّل.
الهداية: الدلالة بلطف- كما في مفردات الراغب للأصفهاني- أمّا هداية اللَّه تعالى للإنسان، فيقول: إنها على أربعة أوجه:
الأول: الهداية التي عمّ بجنسها كل مكلّف من العقل و الفطنة و المعارف الضرورية التي أعمّ منها كل شي‌ء بقدر ما فيه حسب احتماله كما قال: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى‌ كُلَّ شَيْ‌ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى‌ [طه: 50].
الثاني: الهداية التي جعل للناس بدعائه إيّاهم على ألسنة الأنبياء و إنزال القرآن و نحو ذلك، و هو المقصود بقوله تعالى: وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا [السجدة: 24].                        تفسير من وحي القرآن، ج‌1، ص: 80
 الثالث: التوفيق الذي يختص به من اهتدى و هو المعنيّ بقوله تعالى:
وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً [محمد: 17] و قوله: وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [التغابن: 11] و قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ [يونس: 9] و قوله: وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا [العنكبوت:
69] وَ يَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً [مريم: 76] فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة: 213]، وَ اللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى‌ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة: 213].
الرابع: الهداية في الآخرة إلى الجنة المعنيّ بقوله: سَيَهْدِيهِمْ وَ يُصْلِحُ بالَهُمْ [محمد: 5]، وَ نَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إلى قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا [الأعراف: 43] «1».
الصراط: الطريق، و هو ما يتوصل بالسير فيه إلى المقصود، و قد يكون غير حسي، فيقال: الاحتياط طريق النجاة، و إطاعة اللَّه طريق الجنة. و إطلاقه على الطريق غير الحسيّ إما لعموم المعنى اللغوي، و إما من باب التشبيه و الاستعارة «2».
و في هذه الآية دعاء إلى اللَّه، يرفعه الإنسان المؤمن إلى ربه ليدلّه إلى الطريق المستقيم الذي يؤدّي به إلى رضوانه في مواقع النعيم المنفتح على جنته.
و لعلّ من الواضح أن الهداية بالمعنى التكويني من لوازم وجوده، في ما منحه اللَّه من عقل و حسّ و قدرة، كما أن الهداية، في مضمونها الرسالي، في ما أرسل اللَّه به الرسل من رسالاته في ما هي المفاهيم الأساسية للعقيدة و الحياة، هي الحقيقة الرسالية المتحركة في الواقع و في الوعي و يبقى للهداية
__________________________________________________
 (1) الأصفهاني، الراغب، معجم مفردات ألفاظ القرآن، دار الفكر، ص: 536.
 (2) البيان في تفسير القرآن، ص: 485.
                        تفسير من وحي القرآن، ج‌1، ص: 81
معناها الروحي المتمثل بالتوفيق و اللطف الإلهي الذي يثير في نفس الإنسان الأفكار و المشاعر و الأجواء، التي تفتح عقله و قلبه على الحق و الخير في الالتزام بالخط الإلهي، في النهج و الأمر و النهي في دائرة الإيمان، مضمونا و حركة و انفتاحا على اللَّه في أوسع الآفاق. و بذلك، تكون الهداية إلى جنّته نتيجة طبيعية لذلك، لأن ذلك ما يجعل خط السير في الآخرة نحو النجاة مفتوحا بكل رحابته و امتداده، لأن خطوط الآخرة في حركة الإنسان في سلامة المصير، تبدأ من خلال المضمون الإيماني العملي في خطوط السير في الدنيا نحو اللَّه.
إنه نوع من أنواع التطبيق العملي للاستعانة باللَّه، لأن الإنسان قد ينحرف في تفكيره عن وعي الإيمان في حقيقته الرسالية، فيضلّ عن طريق اللَّه في تصوراته و التزاماته الفكرية و الروحية، كما أنه قد يخضع لشهواته و أهوائه في الابتعاد عن الخط المستقيم، و في عدم الانضباط في الالتزام بأوامر اللَّه و نواهيه. و بذلك يلتفت الإنسان إلى ربه ليستعين به على تثبيت إرادته، و استقامة فكره، حتى لا يخطئ في تصوراته، و لا ينحرف في خطواته، و لا يهتزّ في مواقفه، من خلال ألطاف اللَّه بعباده، في ما يثيره في داخل شخصياتهم من المعاني الخفيّة التي تدفعهم إلى خط السلام الروحي المنفتح عليه. فهي مرشدة- في الخطوط الحركية- الإنسان إلى الطريق المستقيم حتى لا يشتبه عليه الحق و الباطل، و لا تختلط عليه صور الأشياء في ما يبتعد عنه وضوح الرؤية.
و لعلّ هذا الوجه أكثر رجحانا من التفسير القائل بأن المراد استمرار الهداية التي بدأها اللَّه في ما هو الخط التكويني في عناصر الهداية، أو في ما هو الخط الرسالي في مضمون الهداية، لأن ذلك خلاف الظاهر، فإن الظاهر منه هو إرادة المبدأ، الذي يراد من اللَّه إفاضته على عباده لا استمرار ما هو موجود. و هكذا نجد في هذا الطلب الإنساني الابتهالي حركة روحية عباديّة تعبّر عن الرغبة العميقة في الوصول إلى اللَّه من خلال طريقة المستقيم، انطلاقا                        تفسير من وحي القرآن، ج‌1، ص: 82
 من الحاجة إلى الرعاية الخاصة في الدلالة إلى مواقع هذا الطريق، بالوسائل التي يرسل اللَّه فيها ألطافه إلى عباده، من خلال ما هي إيحاءات الفكر، و همسات المشاعر، و إشارات الروح.
و لعلّنا لا نحتاج إلى المزيد من التأكيد على أن هذه الهداية التي يفيضها اللَّه على عباده ليست حالة تضغط على العقل لتشلّ اختياره، و على الإرادة لتجمّد حركتها، بل هي لطف إلهيّ يهيّئ الجوّ للاختيار الصحيح من خلال الانفتاح على اللَّه في مواقع رضاه من موقع قويّ منفتح.
طريق الأنبياء
و لكن كيف نتصور الصراط المستقيم، الذي هو خط معنويّ يتحرك فيه الإنسان في نشاطه الإنساني على مستوى المواقف و حركة المواقع و العلاقات؟
إن النظرة إلى الآيات القرآنية توحي بأن المراد هو الخط الذي تتحرك فيه أوامر اللَّه و نواهيه، و تتمثل فيه مناهجه، و تنطلق منه مواقع رضاه، وفقا لما جاء به رسله، و نزلت به رسالاته. و بذلك يمكن تلخيصه بطريق الأنبياء، و هو الإسلام الذي يتمثل في إسلام القلب و الوجه و اللسان و الكيان كله للَّه.
ضمن هذا الإطار، تكون الاستقامة على الصراط منطلقة من معنى الطاعة التي تحكم البداية و النهاية في خط اللَّه، بعيدا عما يتحدث فيه المتحدثون الغارقون في تحليل مضمون الإسلام، لجهة ما يتمثل فيه من التوازن التشريعي في نظرته إلى الإنسان و الحياة، فيما هي الدنيا و الآخرة، و المادة و الروح، و الفرد و المجتمع، و ما إلى ذلك من الشؤون العامة أو الخاصة، التي تنطلق في خط مصلحة الإنسان في علاقته باللَّه، و بالكون، و بمن                        تفسير من وحي القرآن، ج‌1، ص: 83
 حوله من الناس، بحيث لا يطغى جانب على جانب.
إن التأكيد على خط الاستقامة ينطلق من الخضوع للخط الإلهيّ الرسالي، فلا ينحرف الإنسان عنه، و لا يتمرد فيه على أوامر اللَّه و نواهيه.
أمّا الاستقامة في المضمون، فإنها تنطلق من حركة المصلحة التي أراد اللَّه لها أن تشمل كل حياة الإنسان في مفردات التشريع، بحيث يشعر بأن حياته مع الشريعة تنطلق في وضع طبيعيّ، و حركة موزونة، لا تبعد به عن سلامته الروحية و الجسدية، في حياته الفردية و الاجتماعية.
و هذا ما تختزنه كل الرسالات التي أنزلها اللَّه على رسله، ليبلّغوها عباده، ليقوم الناس بالقسط، لأن اللَّه أراد من الإنسان أن يصل إلى مستوى الكمال في خط التوازن في حاجاته و مصالحه.
و لعل الفكرة تزداد وضوحا إذا قرأنا الآيات التي تحدثت عن الصراط المستقيم. قال تعالى: وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام: 153] و الملحوظ أن الإشارة متعلقة بما ورد في الآيتين السابقتين في قوله تعالى: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ في الآيتين (150 و 151) من سورة الأنعام.
و قال تعالى في حديثه عن إبليس في خطابه للَّه: قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ وَ عَنْ أَيْمانِهِمْ وَ عَنْ شَمائِلِهِمْ وَ لا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ. [الأعراف: 16- 17].
فإن الشيطان يتحدث عن الحاجز الذي يضعه أمامهم في خط الصراط المستقيم لينحرف بهم عنه، فلا يشكرون اللَّه في ما يتمثل فيه ترك الشكر من تجسيد الانحراف عن طاعة اللَّه التي هي المضمون الحي للصراط المستقيم.                        تفسير من وحي القرآن، ج‌1، ص: 84
 قال تعالى: وَ هذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ هُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [الأعراف: 126- 127].
فالظاهر من الإشارة أن المقصود بها النهج الإلهي في العقيدة و الشريعة و المنهج الذي يقود الناس السائرين عليه إلى دار السلام التي هي الجنة في الآخرة. قال تعالى: وَ مَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى‌ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [آل عمران:
101]. فإن الاعتصام باللَّه هو السير في خط الإيمان به و برسله و بر برسالاته، مما يوحي بأن الخط المستقيم هو حركة الإنسان في هذا الاتجاه.
قال تعالى: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَ كِتابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَ يَهْدِيهِمْ إِلى‌ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [المائدة: 15- 16].
فالقرآن الذي يمثل النور الذي يشرق في عقل الإنسان و قلبه و حياته، يمثل الكتاب الواضح الهادي للذين يتبعون رضوانه إلى سبل السلام الروحي و العملي، و الدافع لهم إلى الجانب المشرق من الحياة في ما يأذن اللَّه به من إخراجهم من «الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ»، و يهديهم إلى «الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ» الذي يؤدي بهم إليه، فيما هو خط السير المتحرك بين البداية و النهاية. قال تعالى:
قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى‌ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَ نُسُكِي وَ مَحْيايَ وَ مَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَ بِذلِكَ أُمِرْتُ وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ. [الأنعام: 161- 163].
و هذه الآيات واضحة الدلالة على أن الصراط المستقيم هو دين اللَّه الذي يجسد التوحيد في إسلام الوجود الإنساني للَّه وحده، ليكون الإسلام هو الانتماء التوحيد، الذي يتمثل فيه الكمال الإنساني في وجوده الفكري و الحركي.                        تفسير من وحي القرآن، ج‌1، ص: 85
 و هكذا نجد أن الصراط المستقيم، الذي ندعو اللَّه أن يهدينا لنسير نحوه، هو دين اللَّه الذي أنزله على رسوله في كتابه، و في ما أوحى به إليه من شريعته و من منهجه الحق، الذي أراد اللَّه لنبيه الاستقامة عليه في خط الدعوة إليه من دون تغيير و لا تبديل، كما جعل الجنة للناس الذين يعلنون التوحيد ثم يستقيمون في خطه على أساس توحيد اللَّه في العبادة.
و
قد جاء عن علي عليه السّلام في تفسيره هذه الآية: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ يعني: أدم لنا توفيقك الذي أطعناك به في ماضي أيامنا حتى نطيعك كذلك في مستقبل أعمارنا «1».
و
عن الإمام جعفر الصادق عليه السّلام: يعني أرشدنا إلى لزوم الطريق المؤدّي إلى محبتك، و المبلغ إلى جنتك، و المانع من أن نتبع أهواءنا فنعطب، أو أن نأخذ بآرائنا فنهلك «2»


source : دار العرفان
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الخصوصية الصوفية للنظرية المهدوية
ماهية الصلاة البتراء والأحاديث الناهية عنها عند ...
وسوسة الشيطان
أين يقع غدير خُمّ؟
طبيعة الاستغفار في القرآن الكريم
حجر الاسود بدءه واستلامه
زيارة السيدة المعصومة عليها السلام
من تاريخ التشيع في الاندلس
ظلامات فاطمة الزهراء عليها السلام
دور النبي في حياة الأمة

 
user comment