التوسّل بدعاء الأخ المؤمن تمسّك بالسبب الذي جعله الله سبحانه سبباً لاستجابة الدعاء، وقد دلّت الآيات على أنّ الملائكة يستغفرون للّذين آمنوا، وأنَّ المؤمنين اللاحقين يستغفرون للسابقين، وهذا يدل على أنّ دعاء الأخ في حقّ أخيه، أمر مرغوب ومطلوب ومستجاب،
فإذا كان كذلك فعلى المذنب أن يتوسّل بهذا السبب المشروع ويطلب من أخيه الدعاء له، قال سبحانه: { الذين يحملون العرش ومن حوله يسبّحون بحمد ربّهم ويؤمنون به ويستغفرون للَّذين آمنوا ربّنا وسعت كلَّ شيء رحمة وعلماً فاغفر للّذين تابوا واتّبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم } (1).
وقال سبحانه: { الذين جاءوا من بعدهم يقولون ربّنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا في الإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاًّ للّذين آمنوا ربّنا إنّك رؤوف رحيم } (2).
فدعاء حملة العرش واللاحقين من المؤمنين سبب صالح لإجابة الدعاء، فعلى المسلم الواعي التمسك بمثل هذا السبب وطلب الدعاء منهم.
وفي السنّة الشريفة ما يدل على ذلك، روى مسلم والترمذي عن عبد الله عن عمرو بن العاص أنّه سمع رسول الله يقول: " إذا سمعتم المؤذّن، فقولوا مثلما يقول، ثم صلّوا عليّ فانّه من صلّى عليّ صلاة، صلّى الله عليه بها عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة فانّها منزلة في الجنّة لا تنبغي إلاّ لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلّت له الشفاعة "(3).
فهذا الحديث يدل بظاهره على أنّ الرسول يتوسّل إلى الله تعالى بدعاء أُمته له، أن يؤتيه الوسيلة والمقام المحمود في الجنة ويكون جزاؤه شفاعتَه في حقّهم. فإذا كان هذا حال النبي فأولى لنا أن نتمسك بهذه الوسيلة:
وفي روايات أئمة أهل البيت تصاريح على ذلك، نذكر بعضها لتتجلّى الحقيقة بأجلِّ مظاهرها فانّ العترة الطاهرة أحد الثقلين اللّذين أمر النبي بالتمسك بهما والمتمسك بهما لن يضل:
1 ـ روى أبو بصير، عن أبي جعفر، قال: " إنّ عليّ بن الحسين قال لأحد علمائه: يا بنيّ اذهب إلى قبر رسول الله فصلِّ ركعتين، ثم قل:
اللّهمّ اغفر لعليّ بن الحسين خطيئته يوم الدين، ثم قال للغلام: اذهب فأنت حرّ لوجه الله "(4).
2 ـ روى محمد بن عجلان قال: سمعت أبا عبد الله يقول: " كان علي بن الحسين إذا دخل شهر رمضان لا يضرب عبداً له ولا أمة، وكان إذا أذنب العبد يكتب عنده، أذنب فلان، أذنبت فلانة يوم كذا وكذا ولم يعاقبه، فيجتمع عليهم الأدب حتى إذا كان آخر ليلة من شهر رمضان دعاهم وجمعهم حوله ثم أظهر الكتاب، ثم قال يا فلان:
فعلت كذا وكذا ولم أُؤدبك أتذكر ذلك؟ فيقول: بلى يابن رسول الله، ويقررهم جميعاً، ثم يقوم وسطهم ويقول لهم: ارفعوا أصواتكم وقولوا: يا علي بن الحسين إنّ ربّك قد أحصى عليك كل ما عملت كما أحصيت علينا... فاعف واصفح كما ترجو من المليك العفو، وكما تحب أن يعفو المليك عنك فاعف عنّا تجده عفوّاً ربك رحيماً ـ إلى أن قال: ـ فيقول لهم:
قولوا اللّهمّ اعف عن علي بن الحسين كما عفا عنّا، فأعتِقه من النار كما أعتق رقابنا من الرقّ، فيقولون ذلك، فيقول: اللّهمّ آمين ربّ العالمين، إذهبوا فقد عفوتُ عنكم وأعتقتُ رقابكم رجاءً للعفو عنّي وعتق رقبتي "(5).
3 ـ وكان أصحاب أئمة أهل البيت يتوسّلون بدعائهم، وهذا هو علي بن محمد الحجال كتب إلى أبي الحسن الإمام الهادي وجاء في كتابه: " أصابتني علّة في رجلي ولا أقدر على النهوض والقيام بما يجب فإن رأيت أن تدعو الله أن يكشف علّتي ويعينني على القيام بما يجب عليّ وأداء الأمانة في ذلك... "(6).
التوسّل بدعاء النبي في حياته البرزخية
قد تلونا عليك دعوة القرآن الكريم المذنبين للتوسّل بدعاء النبي الأكرم، وهناك من يخص مفاد الآيات بحياة النبي الجسمانية قائلا بانقطاعه عنّا بموته وانتقاله إلى الحياة البرزخية، وما ذلك إلاّ أخذاً بظاهر الآية الواردة في حياته الدنيوية، وهذه الفكرة لها قيمتها لدى أصحابها، ولكن للمناقشة فيها مجال واسع.
فاذا دلّت الآيات الكريمة والسنّة النبوية على امتداد حياته بعد انتقاله إلى البرزخ ووجود الصلة بينه وبيننا، لزم القول بعموم مفاد الآية وشمولها لما بعد الموت، خصوصاً إذا دعمها عمل السلف الصالح والتابعين لهم بإحسان، فهناك مواضيع من البحث لا يمكن القضاء البات فيها إلاّ بعد دراستها في ضوء الكتاب والسنّة، وهذه المواضيع هي:
1 ـ حياة الأنبياء والأولياء بعد انتقالهم إلى البرزخ.
2 ـ وجود الصلة بيننا وبينهم، حيث يسمعون كلامنا ويجيبون دعوتنا.
3 ـ سيرة السلف الصالح على التوسّل بعد انتقالهم إلى البرزخ.
وإليك دراسة المواضيع واحداً تلو الآخر.
الأوّل: حياة الأنبياء والأولياء بعد انتقالهم إلى البرزخ:
هذا الموضوع هو المهم بين المواضيع، ويمكن الاستدلال عليه من خلال أُمور بعضها يدل على حياتهم بصورة مباشرة وأُخرى غير مباشرة، وإذا لاحظنا مجموع الأدلّة نقطع على حياتهم البرزخية بلا ريب وإليك هذه الأُمور:
أ ـ دلّت الآيات الشريفة على حياة الشهداء ; حياة حقيقية مقترنة بآثارها من الرزق والفرح والاستبشار ودرك المعاني والحقائق، قال سبحانه:
{ ولا تحسبنّ الَّذين قُتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياءٌ عند ربّهم يرزقون * فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالَّذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألاّ خوف عليهم ولا هم يحزنون * يستبشرون بنعمة من الله وفضله وأنّ الله لا يضيع أجر المؤمنين } (7)
فالآية تدل على حياة الشهداء وارتزاقهم عند ربهم مقترنة بالآثار الروحية من الفرح والاستبشار بالذين لم يلحقوا بهم من خلقهم، وتبشيرهم على أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، إلى غير ذلك ممّا جاء في الآيتين.
إنّ الله سبحانه يطرح حياتهم لأجل إظهار كرامته ونعمته عليهم، وبذلك يرد الفكرة السائدة في صدر الرسالة من أن موت الشهيد انتهاءُ
حياته. وإذا كان الشهداء أحياءً لأجل استشهادهم في سبيل دين الله الذي جاء به النبي الأكرم، فهل يُتصوّر أن يكون الشهداء أحياءً، ولا يكون النبيّ ـ الأفضل ـ القائد حيّاً، وهذا ما لا تقبله الفطرة السليمة، وأيّ مسلم لهج بخلافه فانّما يلهج بلسانه وينكره بقلبه وعقله.
ب ـ هذا هو حبيب النجار لم يكن له شأن سوى أنّه صدق المرسلين ولقى من قومه أذىً شديداً حتى قضى نحبه شهيداً. فنرى أنّه بعد موته خوطب بقوله سبحانه: { قيل ادخل الجنة } ثم إنّه بعد دخوله الجنة يتمنّى عرفان قومه مقامه ومصيره بعد الموت فيقول:
{ قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربّي وجعلني من المكرمين } فهو يتمنّى في ذلك الحال لو أنّ قومه الموجودين في الدنيا علموا أنّه سبحانه غفر له وجعله من المكرمين، يتمنّى ذلك لأجل أن يرغب قومه في مثله وليؤمنوا لينالوا ذلك.
فمن المعلوم أنّ الجنة التي حلّ فيها حبيب النجار كانت قبل يوم القيامة، بشهادة أنّه تمنّى عرفان أهله مقامه وكرامة الله عليه وهم على قيد الحياة الدنيوية، وإن لحقهم العذاب بعد ذلك، قال:
{ وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السّماء وما كنّا منزلين * إن كانت إلاّ صيحة واحدة فإذا هم خامدون } (8) فإذا كان الشهداء والصالحون ـ أمثال حبيب النجار المصدِّق للرسل ـ أحياءً يرزقون فما ظنّك بالأنبياء والصدّيقين المتقدّمين على الشهداء، قال سبحانه:
{ ومن يطع الله والرَّسول فأُولئك مع الَّذين أنعم الله عليهم من النَّبيّين والصِّدّيقين والشُّهداء والصّالحين وحسن أُولئك رفيقاً } (9) فلو كان الشهيد حياً يرزق فالرسول الأكرم الذي ربّى الشهداءَ واستوجب لهم تلك المنزلة العليا، أولى بالحياة بعد الوفاة وبعدهم الصدّيقون.
ج ـ دلّت الآيات الكريمة والبراهين العقلية على أنّ الموت ليس فناء الإنسان ونفاذه، وإنّما هو انتقال من عالم إلى آخر، نعم الماديون المنكرون لعالمِ الأرواح، والنافون لما وراء الطبيعة يعتقدون بأنّ الموت فناء الإنسان وضلاله في الأرض بحيث لا يبقى شيء من بعد ذلك إلاّ الذرّات المادية المبعثرة في الأرض، ولهذا كانوا ينكرون إمكان إعادة الشخصية البشرية، إذ ليس هناك شيء متوسط بين المبتدأ والمعاد.
جاء الوحي يندد بتلك الفكرة ويفنِّد دليلهم المبني على قولهم:
{ أ إذا ضللنا في الأرض أإنّا لفي خلق جديد } فردّهم بقوله:
{ قل يتوفّاكم ملك الموت الَّذي وكّل بكم ثم إلى ربّكم ترجعون } (10).
وتوضيح الردّ أنّ الموت ليس ضلالا في الأرض وأنّ شخصية الإنسان ليست هي الضالة الضائعة في ثنايا التراب، وإنّما الضال في الأرض هو أجزاء البدن المادّي، فهذه الأجزاء هي التي تتبعثر في الأجواء والأرض، ولكن هذه لا تشكّل شخصية الإنسان، بل شخصيته شيء آخر هو الذي يأخذه ملك الموت، وهو عند الله محفوظ، كما يقول:
{ يتوفّاكم ملك الموت الَّذي وكّل بكم ثم إلى ربِّكم ترجعون } فإذاً لا معنى للتوفّي إلاّ الأخذ وهو أخذ الأرواح والأنفس ونزعها من الأبدان وحفظها عند الله.
وهناك آية أُخرى تفسّر لنا معنى التوفّي بوضوح وأنّه ليس بمعنى الموت والفناء، بل الأخذ والقبض أي قبض شيء موجود وأخذ شيء واقعي، يقول سبحانه:
{ الله يتوفّى الأنفس حين موتها والّتي لم تمت في منامها فيمسك الّتي قضى عليها الموتَ ويرسل الأُخرى إلى أجل مسمّى إنّ في ذلك لآيات لقوم يتفكّرون } (11) فمفاد الآية أنّ الله يقبض الأنفس ويأخذها في مرحلتين: حين الموت وحين النوم، فما قضى عليها بعدم الرجوع إلى الدنيا أمسكها، ولم يردّها إلى الجسد، وما لم يقض عليها كذلك أرسلها إلى أجل مسمّى. كل ذلك يكشف عن أنّ الموت ليس فناءَ الإنسانِ وآية العدم، بل هناك انخلاع عن الجسد وارتحال إلى عالم آخر.
د ـ وهناك كلمة قيّمة لأبي الشهداء الحسين بن علي (عليه السلام) توضح هذه الحقيقة إذ قال لأصحابه في يوم عاشوراء: " صبراً يا بني الكرام فما الموت إلاّ قنطرة تعبر بكم عن البؤس والضراء، إلى الجنان الواسعة والنعم الدائمة فأيّكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر، وما هو لأعدائكم إلاّ كمن ينتقل من قصر إلى سجن وعذاب، إنّ أبي حدّثني عن رسول الله أنّ الدنيا سجن المؤمن، وجنّة الكافر، والموت جسر هؤلاء إلى جنانهم وجسر هؤلاء إلى جحيمهم ما كذبتُ ولا كُذِّبتُ "(12).
وفي هذه الآيات غنى وكفاية لثبوت الحياة البرزخية للأنبياء والشهداء والصديقين، بل لغيرهم وقد شهدت بذلك الآيات الكريمة التي لا مجال لنقلها، وهذه الحقيقة ممّا أجمع عليها أئمة أهل السنّة، فهذا الإمام الأشعري يقول: " ومن عقائدنا أنّ الأنبياء (عليهم السلام) أحياءٌ " وقد ألّف كتاباً أسماه "حياة الأنبياء"(13).
المصادر :
1- غافر/7
2- الحشر/59
3- مسلم: الصحيح: 2/4، كتاب الصلاة، الباب 6 ; الترمذي: الصحيح: 5/589، كتاب المعاقب، الباب الأول، واللفظ للأوّل.
4- المجلسي: البحار: 46/92، نقلا عن كتاب الزهد لحسين بن سعيد الأهوازي.
5- المجلسي:البحار:46/102،نقلا عن كتاب الإقبال للسيد ابن طاووس المتوفى عام 664هـ.
6- الأربلي: كشف الغمة: 3/251.
7- آل عمران/169 ـ 171
8- يس/28 ـ 29
9- النساء/69
10- السجدة/10 ـ 11
11- الزمر/42
12- مصطفى الموسوى: بلاغة الحسين: ص 47.
13- السبكي: طبقات الشافعية: 3/406.
source : rasekhoon