أتمثله شيخاً حاني الظهر ، ترتسم على وجهه سيماء الأولياء والصالحين ، وفي عينيه ألق ظل مشعاً بالأمل والحياة على هاتيك الفئات المظلومة من الناس . رمز اليقظة في الضمير الانساني المتعب ، كما هو في الضمير الاسلامي .
أتمثله ، وهو ينهب الأرض بقدميه ، في رحلته التأريخية الثأرية ، حاملا على ظهره هموم المظلومين والمعذبين ، وعلى لسانه تتجسد صرختهم .
فهو هكذا أراد ، أراد أن يخرج عن حدود الزمان والمكان ، ويرقى قمة الحرية . . حرية الكلمة ، وحرية التعبير ، فكان منبر الاسلام في فترة من فترات الحكم .
لقد بايع أبو ذر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، على أن لا تأخذه في الله لومة لائم ، وعلى أن يقول الحق ، ولو كان مُرَّا (1) .
فالتزم ببيعته . فكان جريئاً في جنب الله آخر عمره ، كما كان في أول أمره .
ولعل أجرأ نداء صريح في مسمع حاكم ظالم ، كان نداء أبي ذر ( رضي الله عنه ) على أبواب الخضراء . . « أتتكم القطار بحمل النار ! اللهم إلعن الآمرين بالمعروف التاركين له . اللهم العن الناهين عن المنكر ، المرتكبين له » (2) .
هذا هو أبو ذر ، صاحب الكلمة الجريئة ، التي لا تعرف المداهنة ، ولا الرياء ولا الوجل .
خاطب معاوية ذات مرة ، مجيباً إياه : « ما أنا بعدو لله ولا لرسوله ، بل أنت وأبوك عدوّان لله ولرسوله ، أظهرتما الاسلام ، وأبطنتما الكفر ، ولقد لعنك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ودعا عليك مرات أن لا تشبع .
فقال معاوية : ما أنا ذاك الرجل .
فقال أبو ذر : بل أنت ذلك الرجل ! أخبرني بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسمعته يقول ، وقد مررتَ به : اللهم إلعنه ، ولا تشبعه إلا بالتراب . . » (3) .
وخُيِّل لجلاديه الحاكمين ، أن غضبه إنما كان لنفسه . وأنه ربما كان عن فاقة ألمِّت به ، أو مطمع يدفعه الى ذلك . فساوموه رجاء أن يسكت أو يكف ، لكنهم وجدوا خلاف ما كانوا يتوقعون .
بعث اليه معاوية بثلاثمائة دينار ، فقال : إن كانت من عطائي الذي حرمتمونيه عامي هذا ، قبلتها . وان كانت صلة ، فلا حاجة لي فيها » (4) .
وقال له ـ ذات مرة ـ حبيب بن مسلمة أحد القادة : « لك عندي يا أبا ذر ، ألف درهم ، وخادم ، وخمسمائة شاة .
قال أبو ذر : إعطِ خادمك ، وألفَكَ ، وشويهاتِكَ ، من هو أحوج الى ذلك مني ! فاني إنما أسأل حقي في كتاب الله . . ! » (5) .
بهذه الصراحة ، وبهذا الوضوح يرسم لنا أبو ذر بعض مواقفه ، إنه لم يكن ليثأر ، ويغضب لنفسه ، بل للحق الذي طالب بتثبيته ، وبذلك جعل من نفسه رمزاً يدفع بالمقهورين والمظلومين الى المطالبة بحقوقهم ، وعرض ظلاماتهم . فكان في تصرفاته تلك رائدا من رواد الحق ، يجازف بنفسه من أجل الآخرين .
وما أغناه عن أن يقاسي ما قاسى ، لو أراد .
لقد كان بوسعه أن يعيش حياة الرفاهية والترف ، شأن بعض الصحابة ممن هم دونه في الفضل بمراتب . لو أراد .
ولكن في هذه النقطة تكمن احدى الفوارق ما بين الانسان الرسالي ، والانسان العادي .
بين الانسان الذي يحمل هموم ومستقبل أمة بأسرها ، وبين انسان ينشغل بنفسه ولهوه ، متخماً يتجشأ على موائد الترف !
نعم . كان أبو ذر انساناً رسالياً ، ولم يكن انساناً عادياً . وكان في بعض مواقفه يمثل مواقف أمير المؤمنين علي عليه السلام . ولا غرو ولا عجب ، فهو تلميذ الإمام وواحد من أكثر الناس إخلاصاً له .
قال أمير المؤمنين عليه السلام :
«ولو شِئتُ لاهتديتُ الطريق الى مُصفى هذا العسلِ ، ولُبابِ هذا القمح ، ونَسائجِ هذا القزِّ ، ولكن هيهات أن يغلبني هواي ، ويقودني جَشعي الى تخيُّرِ الأطعمة ، ولعلَّ بالحجاز أو اليمامة ، من لا طمع له في القرص ، ولا عهد له بالشبع ، أوَ أبيت مبطاناً ، وحولي بطون غرثى ، وأكباد حرَّى ، أوَ أكونُ كما قال القائل :
وحـسـبـك داء أن تـبـيـت بـبـطـنـة * وحـولـك أكـبـاد تـحِـنُّ الـى الـقِـدِّ (6)
لقد كان أمير المؤمنين علي عليه السلام ، يقول هذا ، ومقدرات الأمة تحت قبضة يده ، بل المعروف أن صدقاته الخاصة وحدها كانت تساوي آلاف الدنانير ذهباً .
نعم . كان يقول هذا ـ ويعمل بما يقول مع نفسه ـ ليلفت أنظار المسلمين الى ضرورة تفقد الضعفاء ، والمقهورين ، والمدفوعين عن حقوقهم ، ويلفت انظار الولاة الى الرفق بالرعية وتفقد أحوالهم .
وكان أبو ذر ـ تلميذ الإمام ـ ممن سار على هذا الهدي ، فقد كان عطاؤه السنوي اربعماية ديناراً ذهباً . ومع هذا فانه كان لا يدخر منها
شيئاً . وكان يندد بالكانزين للذهب والفضة الذين لا يخرجون الزكاة الواجبة منها ، أو الذين أخذوها من طرق غير مشروعة أيام عثمان . وكان يطلب حقه ( في كتاب الله ) كما تقدم . ويرفض الألف درهم ، والعبد والخمسماية شاة .
أجل . انه لم يكن ليفعل هذا عن فاقة ، أو مطمع ، بل كان يريد إلفات المسؤولين ـ في حينه ـ الى انصاف المظلومين ، وايصال كل ذي حق الى حقه .
وأعيت الحيلة غرماءه الحاكمين في إسكاته ، فعمدوا الى طريقة ثانية قرروا فيها إسكاته ، وكانت طريقة ناجحة ـ في نظرهم ـ فنفوه الى الربذة .
حمل من الشام الى المدينة على مركب وعر ، حتى تسلخ فخذاه ، ثم بعد ذلك ، نفي الى الربذة (7) بعيداً عن مهاجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ومواطن الايمان ، حتى توفي غريباً هناك !
رحم الله أبا ذر ، لقد كان ينسى كل جراحه وآلامه في رحلته الثأرية تلك ، ليكتب على رمال الصحراء ملحمته الخالدة .
ملحمته التي ستبقى مع الشمس تشرق ، ولكنها لا تغيب !!
الـفَـارِسُ الـشّجَـاع
الشجاعة أو الجرأة . موهبة يتمتع بها غالب عظماء الانسانية ، فهي لا تقبل التكلُّفَ ولا تستقيم معها محاكاة . وهي ايضاً صفة كريمة تميَّز بها العرب بصورة عامة ، والمسلمون بصورة خاصة .
فالعربي بطبعه ـ غالباً ـ شجاع غير هياب ، يتقحم موارد الهلكة ، إن رأى في ذلك ما يرضي مزاجه ، حتى ولو كانت الخسارة عنده أكبر في ميزان الاحتمال . ولعل هذه الخصلة الكريمة ، هي احدى معطيات الطبيعة الصحراوية ، وما فرضته من خشونة العيش على هذا الانسان .
فالمعروف عن العرب القدامى ، أن ظروفهم المعاشية كانت صعبة للغاية ، فكانت جلُّ حياتهم الاقتصادية تقوم على الغزو أو السلب ، أو طَرق الاحياء أو ما شابه ذلك ، مما كان متسالم عليه لديهم آنذاك ، ولا يرون فيه أي إخلال بالشرف أو المكانة الاجتماعية ، بل على العكس من ذلك ، فقد كان هذا العمل يكسب القائم به رفعة وسؤدداً في قبيلته وبني قومه . فكان المغيرون على الأحياء يتفاخرون بذلك . وينشدون فيه الأشعار .
وهم يرون في ذلك ردءاً لهم من الغارات التي يمكن أن تشنها عليهم القبائل الأخرى ، كما يرون في ذلك إظهارا لشجاعتهم وقوتهم حتى لا يفكر الآخرون بغزوهم .
والمسلم الحقيقي شجاع ايضا بمقتضى تركيبته الذهنية الخاصة التي صقلها الاسلام ، وروحه الرسالية المستمدة منه . فهو لا يعرف معنى الخوف من الموت ـ في الله ـ لأنه مؤمن بسلامة المصير ، فلا يرى غير الجنة أعدت للمتقين في الآخرة . ومتى كان الامر كذلك ، يهون عليه كل شيء في سبيل ذلك حتى نفسه . وتأريخنا الاسلامي حافل بالبطولات والتضحية كما هو بيِّن وواضح لدى كل من يتتبعه .
وصاحبنا أبو ذر رضي الله عنه ، الذي هو موضوع بحثنا الآن ، كان ممن اتسم بأعلى معاني البطولة والشجاعة ، في الجاهلية ، وفي الاسلام .
وحين اسلم أبو ذر ، زاده الاسلام شجاعة الى شجاعته ، ومنحه زخماً
لا تدرك حدوده ، فكان من فرسان الاسلام وأبطالهم ، من أول يوم . فقد قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم :
يا رسول الله ، اني منصرف الى أهلي ، وناظر متى يؤمر بالقتال ، فألحق بك ، فاني أرى قومك عليك جميعاً !
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أصبت .
فانصرف ، فكان يكون بأسفل ثنية غزال (8) فكان يعترض لعيرات قريش ، فيقتطعها فيقول : لا أرُدّ لكم منها شيئاً حتى تشهدوا أن لا إله إلا الله ، وان محمداً رسول الله . !
فان فعلوا ، ردَّ ما أخذ منهم ، وان أبوا ، لم يرد عليهم شيئاً ، فكان على ذلك ، حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومضى بدر ، وأحد ، ثم قدم فأقام بالمدينة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم (9) .
تعَـبُّـدهُ قبـلَ الإسـلاَم
قال عبد الله بن الصامت ، قال أبو ذر :
«وقد صليت ـ يا ابن أخي ـ قبل أن ألقى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بثلاث سنين .
قلت : لمن ؟
قال : لله .
قلت : فأين توجَّه ؟
قال : أتوجه حيث يوجهني ربي ، أصلي عشاء ، حتى اذا كان من آخر الليل ، أُلقيت ، كأني خِفَاء (10) حتى تعلوني الشمس (11) . وكان أكثر عبادته التفكر والاعتبار (12)
وفي الطبقات الكبرى لابن سعد : كان أبو ذر يتأله في الجاهلية ، ويقول لا إله إلا الله ، ولا يعبد الأصنام . فمرَّ عليه رجل من أهل مكة ـ بعدما أوحي الى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ـ فقال : يا أبا ذر ! إن رجلا بمكة يقول مثل ما تقول لا إله إلا الله ، ويزعم انه نبي (13)
إسْـلاَمـه
حين تناهى الى سمع أبي ذر ، نبأ ظهور النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مكة ودعوته الناس الى الاسلام عقد العزم على اللقاء به ، والاستماع منه . لكنه فضل بادئ الأمر أن يرسل أخاه ـ أنيساً ـ ليحمل اليه بعض أخباره ، فقال له :
«اركب الى هذا الوادي ، واعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم انه يأتيه الخبر من السماء ! واسمع من قوله ، ثم إإتني .
انطلق أنيس ، حتى قدم مكة ، وسمع من قوله .
ثم رجع الى أبي ذر ، فقال : رأيته يأمر بالمعروف ، وينهى عن المنكر ، ويأمر بمكارم الأخلاق ، وسمعت منه كلاماً ، ما هو بالشعر !
فقال له أبو ذر : ما شفيتني فيما أردتُ .
فتزود وحمل شنَّة له فيها ماء ، حتى قدم مكة . فأتى المسجد ، فالتمس النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) و ( هو ) لا يعرفه ، وكره أن يسأل عنه ، حتى أدركه الليل ، فاضطجع . فرآه علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) فقال : كأن الرجل غريب .
قال : نعم .
قال : انطلق الى المنزل .
قال أبو ذر : فانطلقت معه ، لا يسألني عن شيء ولا أسأله . فلما أصبحت من الغد ، رجعت الى المسجد ، فبقيت يومي حتى أمسيت ، وسرت الى مضجعي . فمر بي عليّ ، فقال : أما آن للرجل أن يعرف منزله ؟
فأقامه ، وذهب به معه ، وما يسأل واحد منهما صاحبه .
حتى اذا كان اليوم الثالث ، فعل مثل ذلك ، فأقامه عليّ معه .
ثم قال له علي ( عليه السلام ) : ألا تحدثني ما الذي اقدمك هذا البلد ؟
قال : إن اعطيتني عهداً وميثاقاً لترشدني . فعلت . ففعل .
فأخبره علي ( عليه السلام ) عنه أنه نبي ، وأن ما جاء به حق ، وأنه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) . ثم قال له : فاذا اصبحت ، فاتبعني ، فاني إن رأيت شيئاً أخاف عليك ، قمت كأني أريق الماء ، فان مضيت ، فاتبعني حتى تدخل معي مدخلي .
قال : فانطلقت أقفوه ، حتى دخل على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ودخلت معه ، وحييت رسول الله بتحية الاسلام ، فقلت : السلام عليك يا رسول الله ـ وكنت أول من حياه بتحية الاسلام ـ
فقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : وعليك السلام . من أنت ؟
قلت : رجل من بني غفار . فعرض علي الاسلام فاسلمت ، وشهدت أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله .
فقال لي رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ارجع الى قومك ، فأخبرهم ، واكتم أمرك عن أهل مكة فاني أخشاهم عليك .
فقلت : والذي نفسي بيده ، لأصوِّتن بها بين ظهرانيهم .
فخرج حتى أتى المسجد ، فنادى بأعلى صوته : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله .
فثار اليه القوم وضربوه حتى أضجعوه .
فأتى العباس ، فأكب عليه وقال : ويلكم ألستم تعلمون أنه من بني غفار ، وأن طريق تجارتكم الى الشام عليهم ، وأنقذه منهم .
ثم عاد من الغد الى مثلها ، وثاروا اليه فضربوه ، فأكب عليه العباس ، فأنقذه . ثم لحق بقومه (14)
ومن طريف ما يروى عنه :
أنه رأى إمرأة تطوف بالبيت ، وتدعو بأحسن دعاء في الأرض ، وتقول : اعطني كذا وكذا . . ثم قالت في آخر ذلك : يا إساف ، ويا نائلة . !! ( وهما صنمان لقريش ، زُعم أنهما كانا من أهل اليمن ، أحب أحدهما الآخر ، فقدما حاجين ، فدخلا الكعبة ، فوجداها خلواً من كل أحد ، ففجرا بها ، فمسخا حجرين ، فأصبح الحجاج ، فوجدوهما حجرين ، فوضعوهما الى جانب ليتعظ بهما الناس كي لا يتكرر هذا العمل ، ثم توالت الأيام ، فعبدتهما قريش كبقية الأصنام ).
فالتفت أبو ذر الى تلك المرأة ، قائلا : أنكحي أحدهما صاحبه ! .
فتعلقت به ، وقالت : أنت صابئ ، فجاء فتية من قريش فضربوه ، وجاء ناس من بني بكر ، فنصروه .
فجاء الى النبي ، فقال : يارسول الله ، أما قريش ، فلا أدعهم حتى أثأر منهم . . . ضربوني !!
فخرج حتى أقام بعسفان (15) وكلما أقبلت عير لقريش يحملون الطعام ، ينفِّر بهم على ثنية غزال فتلقي أحمالها ، فيجمعوا الحنط ، ( فيقول أبو ذر لهم ) : لا يمس أحد حبة حتى تقولوا ، لا إله إلا الله . فيقولون ، لا إله إلا الله ، ويأخذون الغرائر ! (16)
وحين رجع أبو ذر الى قومه ، نفذ وصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فدعاهم الى الله عز وجل ونَبذِ عبادة الأوثان والايمان برسالة محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فكان أول من أسلم منهم أخوه أنيس ، ثم اسلمت أمهما ، ثم أسلم بعد ذلك نصف قبيلة غفار ، وقال نصفهم الباقي : اذا قدم رسول الله المدينة ، أسلمنا .
جاء في صحيح مسلم : عن أبي ذر قوله :
فأتيت أنيساً ، فقال : ما صنعت ؟ قلت : صنعت ، أني قد أسلمت وصدَّقت . قال : ما بي رغبة عن دينك . !
فأتينا أمَّنا . فقالت : ما بي رغبة عن دينكما ! فاني قد أسلمت وصدقت .
فاحتملنا حتى أتينا قومنا غفاراً . فأسلم نصفهم .
وقال نصفهم : أذا قدم رسول الله المدينة ، أسلمنا . فقدم رسول الله المدينة ، فأسلم نصفهم الباقي . وجاءت أسلم فقالوا : يارسول الله ! اخوتنا ، نسلم على الذي أسلموا عليه . فأسلموا .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم « غفَار غَفر الله لها . وأسلَم سالمها الله »(17)
ومجمل القول : فان أبا ذر ( رضی الله عنه ) كان من المبادرين الأول لاعتناق الاسلام حتى قيل انه رابع من أسلم ، وقيل خامسهم .
قال في الاستيعاب :
كان إسلام أبي ذر قديماً . يقال بعد ثلاثة ، ويقال : بعد أربعة ، وقد روي عنه أنه قال : أنا ربع الاسلام . وقيل : كان خامساً (18)
وقال الواقدي : وأسلم أبو ذر ، قالوا رابعاً ، أو خامساً (19)
مـعَ الرَسُـول (صلى الله عليه وآله وسلم)
لم يأمر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أبا ذر ( رضی الله عنه ) باللحاق بقومه ، ودعوتهم الى الاسلام ، إلا لأنه توسم فيه صفات الكمال ، لما يتمتع به من روح عالية ، وثبات لا يتزعزع ، وتفان في العقيدة . فوجده أهلا لأن يقوم بدور من هذا النوع ، والاسلام يمر بأدق المراحل وأخطرها .
نحن نعلم أن النبي صلوات الله عليه كان ـ في بدء رسالته المباركة ـ يحتاج الى مزيد من المؤيدين والأعوان في داخل مكة ، وفي خارجها . في داخل مكة ، لتقوية الصف فيها ، وليمنع نفسه من قريش ! وفي خارج مكة ، لنشر مبادئ هذا الدين الجديد الحنيف ، واستقطاب أكبر عدد ممكن من الأفراد المسلمين كي ينهض بهذا الأمر جهرة وعلى الصعيد العام ، وتكون لديه القوة الكافية لصد أعدائه الذين يتربصون به الغيلة ويخططون للقضاء عليه وعلى الرسالة في مهدها .
لقد آثر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إيفاد أبي ذر الى قومه بني غفار ، على بقائه معه ، لثقته العالية بأنه سينجح في نشر الاسلام بينهم .
وهذا ما حصل ، فقد نجح أبو ذر في ذلك ، فقد أسلم نصف قومه على يده ، وأسلم النصف الباقي عند مجيء النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الى المدينة كما اسلفنا .
وبقي أبو ذر بينهم فترة طويلة . لم يحضر في خلالها غزاة بدر ولا أحد ، ولا الخندق ( كما تقول الروايات ) ، بقي بينهم في خندق الجهاد الآخر ، حيث كان يفقههم في دينهم ، ويعلمهم أحكام الاسلام ، وهذا جهاد يحتاج الى عزيمة وحكمة ودراية ونفس طويل .
وليس من الوارد في ذهن من يعرف أبا ذر ، أن يعتقد بتخلفه عن هذه الغزوات الثلاث بمحض ارادته واختياره ، بل من المؤكد أن تخلفه عنها ، وبقاؤه في قومه إنما كان بايعاز من الرسول الكريم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) . والجهاد بالسيف مقرون مع الجهاد في اللسان ، بتعليم الناس أحكام دينهم ، وتفقيههم بها . بعد تعلمها من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
قال تعالى : « وما كانَ المؤمنونَ لِينفورا كافِّة فَلولا نَفَر مِن كُل فِرقة مِنهم طَائِفَة لِيَتفقَّهوا في الدِّين وليُنذِروا قَومَهم اذا رَجِعوا اليهم لَعَلَّهم يَحذرون »
قضى أبو ذر ، فترة بين بني قومه ، ثم عاد ليصحب النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ويأخذ عنه العلم والمعارف والحكمة .
وقد حظي من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالاهتمام الكبير ، والعناية الخاصة . فقد كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يبتدئه بالسؤال والكلام اذا حضر ، ويسأل عنه اذا غاب .
فعن ابي الدرداء قال : « كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يبتدئ أبا ذر اذا حضر ، ويتفقده اذا غاب » (20)
ويظهر من بعض الأخبار انه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان يمازحه ، كما كان هو يمازح النبي صلوات الله عليه وهذا إن دل على شيء ، فانما يدل على مكانته الخاصة لدى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
فقد روي انه قدم الى المدينة ، فلما رآه النبي قال له : « أنت أبو نملة !
فقال : أنا أبو ذر .
قال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : نعم ، أبو ذر (21)
وعن الصادق عليه السلام ، قال :
طلب أبو ذر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقيل إنه في حائط ( بستان ) كذا وكذا .
فتوجه في طلبه ، فوجده نائماً ، فأعظمه أن ينبهه . فأراد أن يستبرئ نومه من يقظته ، فتناول عسيباً يابساً ، فكسره ليسمعه صوته . فسمعه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فرفع رأسه فقال :
يا أبا ذر ، تخدعني . أما علمت أني أرى أعمالكم في منامي ، كما أراكم في يقظتي ! إن عينيَّ تنامان ، ولا ينام قلبي (22)
وكان رضي الله عنه في صحبته للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حريصاً على اقتباس العلوم ، فكان يغتنم الفرصة في ذلك ، ويحدثنا هو عن نفسه ، فيقول :
لقد سألت النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عن كل شيء حتى سالته عن مس الحصى ( في الصلاة ) ، فقال : مسَّه مرة ، أو دع (23)
وقال : لقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما يحرك طائر جناحيه في السماء ، إلا ذكَّرنا منه علما (24)
وقال : دخلت ذات يوم في صدر نهاره على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في مسجده ، فلم أر في المسجد أحداً من الناس إلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وعلي عليه السلام جالس الى جانبه ، فاغتنمت خلوة المسجد ، فقلت : يارسول الله ، بأبي أنت وأمي ، أوصني بوصية ينفعني الله بها .
فقال صلى الله عليه وآله وسلم : نعم ، واكرم بك يا أبا ذر ، إنك منا أهل البيت (25) . . وقد ذكرت وصيته بكاملها في آخر الكتاب ، وهي من عظيم كلامه (صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وتصلح أن تكون بذاتها موضوعاً مستقلا يدرس .
وفي ميدان معارفه وعلومه التي اكتسبها من النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) نذكر ما قاله أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) حين سئل عن أبي ذر . فروي أنه قال في ذلك :
وعى أبو ذر علما عجز الناس عنه ، ثم أوكأ عليه ، فلم يخرج شيئاً منه (26) . وانما أوكأ أبو ذر على ذلك العلم ، ومنعه عن الناس ، لأنه لا تحتمله عقولهم .
وفي رواية أخرى عن علي عليه السلام ، فيه :
« وعى علما عُجز فيه ، وكان شحيحاً حريصاً على دينه ، حريصا على العلم ، وكان يكثر السؤال ، فيُعطى ويَمنع ، أما ان قد ملئ في وعائه حتى امتلأ » (27)
وجاء عن كتاب حلية الأولياء : في هذا الصدد :
كان أبو ذر رضي الله تعالى عنه ، للرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم )
ملازما وجليسا ، وعلى مسائلته والاقتباس منه حريصا ، وللقيام على ما استفاد منه أنيسا ، سأله عن الأصول والفروع ، وسأله عن الايمان والاحسان ، وسأله عن رؤية ربه تعالى ، وسأله عن أحب الكلام الى الله تعالى ، وسأله عن ليلة القدر أترفع مع الأنبياء ، أم تبقى ؟ وسأله عن كل شيء حتى مس الحصى في الصلاة (28). الخ .
وقد منحه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أوسمة عالية أهمها :
قوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ما أظلت الخضراء ، ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر . ومن سرّه أن ينظر الى تواضع عيسى بن مريم ، فلينظر الى أبي ذر (29)
وقد سئل الإمام الصادق عليه السلام عن صحة هذا الحديث ، فصدَّقه .
ففي معاني الأخبار بسنده ، عن رجل . قال :
قلت لأبي عبد الله عليه السلام : أليس قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أبي ذر ـ رحمة الله عليه ـ ما أظلَّت الخضراء ، ولا أقلَّت الغبراء على ذي لهجة ، أصدق من أبي ذر ؟
قال : بلى .
قال : قلت : فأين رسول الله ، وأمير المؤمنين ؟ وأين الحسن والحسين ؟
قال ، فقال لي : كم السنة شهراً ؟
قلت : إثنا عشر شهراً .
قال : كم منها حُرُم ؟
قال : قلت : أربعة أشهر .
قال : فشهر رمضان منها ؟
قال : قلت : لا .
قال ( عليه السلام ) : إن في شهر رمضان ليلة أفضل من ألف شهر ! إنَّا أهلُ بيت لا يقاس بنا أحد ! (30)
فـي غـزوة تبـوك
في غزوة تبوك ، وقف بأبي ذر جمله ، فتخلف عليه ، فقيل : يارسول الله : تخلف أبو ذر .
فقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ذروه ، فان يك فيه خير ، فسيلحقه الله بكم ، فكان يقولها لكم من تخلف عنه .
فوقف أبو ذر على جمله ، فلما أبطأ عليه ، أخذ رحله عنه ، وحمله على ظهره ، وتبع النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ماشياً .
فنظر الناس ، فقالوا : يارسول الله ، هذا رجل على الطريق وحده .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : كن أبا ذر !
فلما تأمله الناس ، قالوا : هو أبو ذر !
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : يمشي وحده ، ويموت وحده ، ويبعث وحده ويشهده عصابة من المؤمنين (31)
المصادر :
1- أعيان الشيعة / 16 / 319 نقلا عن أسد الغابة
2- شرح النهج ج 8 / 257
3- شرح النهج 8 / 257
4- الغدير 8 / 293
5- اعيان الشيعة 16 / 364 عن آمالي الطوسي
6- نهج البلاغة 3 / 71 / 72 ( الجشع ـ الحرص ـ البطنة ـ الاشر ـ والبطر ) . القد : سير من جلد غير مدبوغ
7- الربذة : موضع على بعد ثلاثة ايام من المدينة . . . معجم البلدان 3 / 24
8- ثنية غزال موضع بين مكة والمدينة
9- أعيان الشيعة 16 / 321 عن الطبقات الكبرى لابن سعد
10- الخفاء ـ الكساء الذي يغطَّى به السَّقاء
11- صحيح مسلم ـ 4 ـ ص 1920 ب 28 ـ فضائل الصحابة
12- الخصال ص 42
13- الغدير 8 / 308
14- اعيان الشيعة ج 16 / 316 ـ 317 نقلا عن : الاستيعاب / باب الكنى . وفي الاصابة 4 / ص 62 ـ 63
15- عسفان : موضع على بعد ستة وثلاثين ميلا ، ( بين مكة والمدينة ) المعجم
16- أعيان الشيعة 16 / 320 ـ 321 . الكلمات التي بين قوسين خارجة عن الأصل
17- صحيح مسلم 4 / ك الفضائل ص 1922
18- الاستيعاب / حاشية على كتاب الاصابة / م 1 ص 213
19- الكامل 2 / 60
20- الاصابة 4 / 63 والاستيعاب ص 64
21- الاصابة 4 / 63 والاستيعاب ص 64
22- معجم رجال الحديث 4 / 171
23- الغدير 8 / 312 عن مسند أحمد
24- الاستيعاب 4 / 64
25- تنبيه الخواطر 2 / 300
26- الاستيعاب / حاشية على الاصابة 4 / 64
27- الغدير 8 / 311
28- نفس المصدر 312
29- الاستيعاب / الاصابة 1 / 216
30- معاني الاخبار ص 179
31- الكامل 2 / 280 والاصابة ج 4 / 64 بلفظ قريب
source : rasekhoon