العلم:
قال الشيعة الإمامية: «يجب ن يكون الإمام أفضل من جميع رعيته في صفات الكمال كلها من الفهم والرأي والعلم والحزم والكرم والشجاعة وحسن الخلق والعفة والزهد والعدل والتقوى والسياسة الشرعية ونحوها، وبكلمة يلزم أن يكون أطوع خلق اللّه للّه، وأكثرهم علماً وعملاً بالبر والخير»1 .
وفي هذه الشروط وشرط العصمة تتجلى روح الثورة على الباطل، وعلى كل من يتطفل على مناصب ليس بها بأهل. وقد يقال، أو يتوهم أن هذه الشروط جاءت كنتيجة لتنكيل الحكام بالشيعة وما لحقهم من الاضطهاد والتشريد، ولكن الأصل لهذه الشروط قول اللّه تعالى: «أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمَّن لا يهدي إلا ن يهدى فما لكم كيف تحكمون» - 35 يونس.
وجاء في الحديث: «أنا مدينة العلم وعلي بابها» وقال ابن عبد البر، من السنة في كتاب «الاستيعاب» الجزء الثالث المطبوع مع «الإصابة» ص 40 طبعة 1939:
_______________
____ 1 - تلخيص الشافي للطوسي ص 320 ، ودلائل الصدق للمظفر ج 2 ص 17 .
«قالت عائشة: إن علياً لأعلم الناس بالسنة، وقال ابن عباس: أُعطي علي بن أبي طالب تسعة أعشار العلم، وايم اللّه لقد شاركهم في العشر العاشر، وقال ابن عبد البر أيضاً: ما كان أحد يقول: سلوني غير علي».
وروى المحب الطبري في كتاب «الذخائر» ص 17 أن النبي قال: «النجوم أمان لأهل السماء، وأهل بيتي أمان لأمتي... نحن أهل بيت لا يقاس بنا أحد».
وبالتالي، فقد تبين بالشواهد والأرقام أن كل شرط اعتبره الشيعة بالإمام يستند إلى ما ثبت من حديث الرسول، تماماً كما يستند إليه أصل التشيع.
عُلومُ الإمَام
هل يعتقد الشيعة أن أئمتهم يعلمون كل شيء، حتى الصناعات واللغات؟ ثم هل علوم الأئمة ومعارفهم في عقيدة الشيعة، كعلوم سائر الناس ومعارفهم، أو هي وحي، أو إلهام وما أشبه؟
ولست أعرف مسألة ضلت فيها الأقلام، حتى أقلام بعض الإمامية أكثر من هذه المسألة. مع أنها ليست من المسائل الغيبية، ولا المشاكل النظرية.
وذكرنا في فصل سابق ان الحديث عن عقيدة طائفة من الطوائف لا يكون صادقاً، ولا ملزماً لها إلا إذا اعتمدت على أقوال الأئمة، والعلماء المؤسسين الذين يمثلونها حقاً، لذلك اعتمدنا في هذا البحث على أقوال الأئمة الأطهار، والشيوخ الكبار، كالمفيد والمرتضى والخواجا نصير الدين الطوسي، ومن إليهم أمانة وعلماً.
قال الشريف المرتضى في الشافي ص 188 ما نصه بالحرف: «معاذ اللّه أن نوجب للإمام من العلوم إلا ما تقتضيه ولايته، وأسند إليه من الأحكام الشرعية، وعلم الغيب خارج عن هذا». وقال في ص 189: «لا يجب أن يعلم الإمام بالحرف والمهن والصناعات، وما إلى ذاك مما لا تعلق له بالشريعة. إن هذه يرجع فيها إلى أربابها، وان الإمام يجب أن يعلم الأحكام، ويستقل بعلمه بها، ولا يحتاج إلى غيره في معرفتها، لأنه ولي إقامتها، وتنفيذها».
وقال الطوسي في «تلخيص الشافي» المطبوع مع الكتاب المذكور ص 321: «يجب أن يكون الإمام عالماً بما يلزم الحكم فيه، ولا يجب أن يكون عالماً بما لا يتعلق بنظره» كالشؤون التي لا تخصه ولا يرجع إليه فيها.
وهذا يتفق تماماً مع قول الشيعة الإمامية بأن الإمام عبد من عبيد اللّه، وبشر
في طبيعته، وصفاته، وليس ملكاً ولا نبياً، أما رئاسته العامة للدين والدنيا فإنها لا تستدعي أكثر من العلم بأحكام الشريعة، وسياسة الشؤون العامة.
وكيف ينسب إلى الشيعة الإمامية القول بأن أئمتهم يعلمون الغيب، وهم يؤمنون بكتاب اللّه، ويتلون قوله تعالى حكاية عن نبيه «لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير». وقوله «إنما الغيب للّه». وقوله «قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا اللّه».
وقال الشيخ الطوسي في «مجمع البيان» عند تفسير الآية 123 من سورة هود: «وللّه غيب السموات والأرض»:
«لقد ظلم الشيعة الإمامية من نسب إليهم القول بأن الأئمة يعلمون الغيب. ولا نعلم أحداً منهم استجاز الوصف بعلم الغيب لأحد من الخلق. فأما ما نقل عن أمير المؤمنين (ع) ورواه عنه الخاص والعام من الإخبار بالغائبات في خطب الملاحم وغيرها مثل الإيماء إلى صاحب الزنج، وإلى ما ستلقاه الأمة من بني مروان، وما إلى ذلك مما أخبر به هو وأئمة الهدى من ولده، أما هذه الأخبار فإنها متلقاة عن النبي (ص) مما أطلعه اللّه عليه، فلا معنى لنسبة من يروي عنهم هذه الأخبار المشهورة إلى أنه يعتقد كونهم عالمين الغيب، وهل هذا إلا سب قبيح وتضليل لهم، بل تكفير، لا يرتضيه من هو بالمذاهب خبير، واللّه هو الحاكم وإليه المصير».
وإن افترض وجود خبر أو قول ينسب علم الغيب إلى الأئمة وجب طرحه باتفاق المسلمين، قال الإمام الرضا: «لا تقبلوا علينا خلاف القرآن، فإنا ان تحدثنا حدثنا بموافقة القرآن، فإذا أتاكم من يحدثكم بخلاف ذلك فردوه. إن لكلامنا حقيقة، وان عليه لنوراً، فما لا حقيقة له، ولا نور عليه فذاك قول الشيطان».
وبكلمة إن علوم الأئمة وتعاليمهم يحدها - في عقيدة الشيعة - كتاب اللّه 1
_______________
1 - قال الأمام زين العابدين في الصحيفة السجادية: اللهم انك انزلت القرآن على نبيك مجملاً، والهمته علم عجائبه مكملاً، وورثتنا علمه مفسرا، وفضلتنا على من جهل علمه وقويتنا عليه، لترفعنا فوق من لم يطق حمله.
وسنة نبيه، وإن كل إمام من الأول إلى الثاني عشر قد أحاط إحاطة شاملة كاملة بكل ما في هذين الأصلين من الألف إلى الياء، بحيث لا يشذ عن علمهم معنى آية من آي الذكر الحكيم تنزيلاً وتأويلاً، ولا شيء من سنة رسول الله قولاً وفعلاً وتقريراً. وكفى بمن أحاط بعلوم الكتاب والسنة فضلاً وعلماً، أن هذه المنزلة لا تتسنى ولن تتسنى لأحد غيرهم، ومن هنا كانوا قدوة الناس جميعاً بعد جدهم الرسول تماماً كالقرآن والسنة.
وقد أخذ أهل البيت علوم الكتاب والسنة وفهموها ووعوها عن رسول اللّه، تماماً كما أخذها ووعاها رسول اللّه عن جبرائيل، وكما وعاها جبرائيل عن اللّه، ولا فرق أبداً في شيء إلا بالواسطة فقط لا غير، ونظم الشاعر الإمامي هذا المعنى فقال:
إذا شئت أن تبغي لنفسك مذهباً*** ينجيك يوم البعث من لهب النار
فدع عنك قول الشافعي ومالك*** وأحمد والمروي عن كعب أحبار
ووالِ أناساً نقلهم وحديثهم*** روى جدنا عن جبرئيل عن الباري
أخذ علي عن النبي، وأخذ الحسنان عن أبيهما، وأخذ علي بن الحسين عن أبيه، وهكذا كل إمام يأخذ العلم عن إمام، ولم تروِ أصحاب السّير والتواريخ أن أحداً من الأئمة ال 12 أخذ عن صحابي أو تابعي أو غيره، فقد أخذ الناس العلم عنهم، ولم يأخذوه عن أحد، قال الإمام الصادق:
عجباً للناس يقولون: أخذوا علمهم كله عن رسول اللّه، فعملوا به واهتدوا، ويرون انا أهل البيت لم نأخذ علمه، ولم نهتد به، ونحن أهله وذريته في منازلنا أنزل الوحي، ومن عندنا خرج العلم إلى الناس، أفتراهم علموا، واهتدوا، وجهلنا وضللنا؟...
وقال الإمام الباقر: لو كنا نحدث الناس برأينا وهوانا لهلكنا، ولكنا نحدثهم بأحاديث نكتنزها عن رسول اللّه، كما يكنز هؤلاء ذهبهم وفضتهم.
وبهذا يتبين الجهل، أو الدس في قول من قال بأن الشيعة يزعمون أن علم
الأئمة إلهامي، وليس بكسبي، وترقى بعضهم، فنسب إلى الشيعة القول بنزول الوحي على الأئمة وبرد هذا الزعم بالإضافة إلى ما نقلناه من أحاديث الأئمة الأطهار ما قاله الشيخ المفيد في كتاب «أوائل المقالات»: «قام الإتفاق على أن من يزعم أن أحداً بعد نبينا يوحى إليه فقد أخطأ وكفر».
وهنا سؤال يفرض نفسه، وهو: بماذا يفتي الإمام إذا لم يجد نصاً في الكتاب والسنة؟ هل يجتهد، ويعمل بالرأي، كما يجتهد العلماء؟
الجواب:
إن القرآن والسنة فيهما تبيان كل شيء ولو بجنسه أو نوعه، وقد جاء في الحديث أن النبي أتى الناس بما اكتفوا به في عهده، واستغنوا به من بعده، وغير الإمام يضطر إلى الاجتهاد، حيث تخفى عليه مقاصد الكتاب ومعاني آياته، وحيث لا يهتدي إلى الأحاديث النبوية بالذات، كما لو سمعها من الرسول الأعظم، أما الإمام فإنه كما سبق وبيّنا يحيط بجميع علوم الكتاب والسنة، ولا يخفى عليه شيء يتصل بهما، فيفتي بالنص الخاص إن وجد، وإلا فبالأصل العام، والأصل العام بالنسبة إليه تماماً كالنص الخاص بلا تفاوت، لأن المفروض أن الإمام معصوم كالقرآن يدور الحق معه حيثما دار، وعليه فلا يخطئ في التفريع والتطبيق. وبكلمة ان غير الإمام عنده حديث ضعيف وحديث صحيح، وحديث معارض، وآخر بلا معارض، وحديث مجمل، وآخر مبين، أما الإمام فالحديث عنده هو عين ما قاله الرسول مع الصراحة والوضوح.
وما دام الخطأ محالاً في حقه فلا يقال: إنه مجتهد يعمل بالرأي، لأن المجتهد يحتمل في حقه الخطأ والصواب على السواء، ولأجل هذا نقول: إن من استطاع أن يأخذ جميع ما يحتاج إليه من الأحكام مشافهة من المعصوم لا يجوز له الاجتهاد بحال، وإن بلغ من العلم ما بلغ، وقد ذهل عن هذه الحقيقة جماعة من السنة، فأجازوا الاجتهاد، والعمل بالرأي على النبي بالذات وليت شعري كيف يقال: إن النبي مجتهد، والمجتهد يخطئ ويصيب، وقول النبي هو الحجة البالغة، والدليل القاطع الذي يعتمده جميع المجتهدين والمحققين؟
_______________
____________________
1 - المستصفى للغزالي، وجامع الجوامع لابن السبكي، وأصول الفقه للخضري.
وسئل الإمام الصادق : بأي شيء يفتي الإمام؟ فقال: بالكتاب. فقال السائل: فما لم يكن في الكتاب؟ فقال الصادق: بالسنة. فقال السائل: فما لم يكن في الكتاب والسنة؟ فقال: ليس شيء إلا في الكتاب والسنة.
وقال أيضاً: ما رأيت علياً قضى قضاء إلا وجدت له أصلاً في السنة.
هذي هي أقوال أئمة الشيعة وعلمائهم الثقات، فأين الغلو وعلم الغيب؟... وأين الوحي والإلهام؟... ومن الخير أن نشير هنا إلى طرف من أقوال علماء السنة الثقات التي تتصل بهذا الموضوع، لنرى : هل الغلو فيما قالوه أو فيما قاله علماء الشيعة؟
روى البخاري في صحيحه ج 5 باب «مناقب عمر بن الخطاب» أن النبي قال : لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يكلمون - أي تحدثهم الملائكة - من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن من أمتي أحد فعمر».
وقال الغزالي في كتاب «المستصفى» ج 1 ص 270 طبعة 1322هجري :
قال النبي (ص) إن منكم لمحَدثين، وإن عمر لمنهم.
وقال الشاطبي في الجزء الثاني من الموافقات ص 266 :
عمل الصحابة بالفراسة والكشف والإلهام والوحي النومي، كقول عمر، وهو في المدينة يخاطب سارية بن حصن، وهو في إيران بقوله : «يا سارية الجبل» وقد سمع سارية الصوت وصعد الجبل.
إذا قيل بأن عمر علم الغيب وإن له ملكاً يحدثه فلا غلو، وإذا قيل بأن الأئمة من أهل البيت يقولون الحق ويعرفون علوم الكتاب والسنة فكفر وغلو.
وقال ابن السبكي في «جامع الجوامع» باب «الاجتهاد» : يجوز أن يقال من قبل اللّه تعالى لنبي أو عالم : احكم بما تشاء، فهو صواب، ويكون مدركاً شرعياً، ويسمى التفويض.
إذا قيل بأن اللّه يجوز أن يتخلى عن تشريع الأحكام، ويفوض أمر وضعها أو رفعها إلى عالم من العلماء فلا كفر ولا غلو، أما إذا قيل بأن أهل البيت يعرفون شريعة جدهم كاملة، كما أنزلها اللّه على نبيه فكفر وغلو.
وقال الشاطبي في «الموافقات» ج 2 ص 267 : «إن أبا بكر انفذ وصية رجل بعد موته برؤيا رؤيت»، أي ان رجلاً مات، ولم يوصِ في حياته،
ثم أوصى بوصايا بعد موته، وأبلغ وصيته لمن أراد في المنام، فنفذ أبو بكر هذه الوصية.
فحُكم أبي بكر استناداً إلى الأحلام والأطياف صحيح وحجة، أما أحكام أهل البيت المأخوذة من الكتاب والسنة ففيها نظر.
ولدي من هذه الأمثلة ما لا يبلغه الإحصاء، وقد ادخرته لوقت الحاجة، وقطعت على نفسي عهداً أن لا أذكر منها شيئاً إلا للدفاع. وفيما ذكرت يفي بالغاية والقصد، كما يدل بصراحة ووصوح أن الذين يتهمون الشيعة، ويرمونهم بالغلو أولى بهذه التهمة، وهي بهم الصق وأليق. واللّه سبحانه من وراء القصد.