مقام القرب
وهو أعلى مرتبة وآخر درجة يمكن أن يبلغها السالك في طريقة إلى اللَّه وهذا لا يتحقق إلّامن خلال العمل الصالح واجتناب كل ما هو محرّم حيث التقوى والورع شعار الانسان في كل شؤون حياته والمحافظة على استقامته في كل الظروف والاحوال ان طاعة اللَّه والانقطاع إلى عبادته سبحانه هي التي تيسّر بلوغ العبد إلى مقام القرب الالهي حيث تتجلّى حقيقة التوحيد في كل تفاصيل حياته ويصل المرء حالة الفناء فتكون ارادته هي ارادة اللَّه عزوجل وهذا ما يصرّح به الحديث القدسي:
«عَبدِى! أَطِعنِى حَتّى أَجْعَلْكَ مِثْلى، أَقولُ لِشَىءٍ: كُنْ، فَيَكُونُ. تَقُولُ لِشَىءٍ: كُنْ، فَيَكُونُ» «2»
. وجاء في حديث آخر:
«أَنَا مَلِكٌ حَىٌّ لَاأَمُوتُ أَبَداً، عَبدِى أَطِعْنِى أَجْعَلكَ مَلِكاً حَيّاً لَايَمُوتُ أَبَداً» «3»
. ان اهل المعرفة يعتقدون ان الهدف من جميع الطاعات والعبادات سواء كانت طاعات بدنية أو قلبية، ظاهرية أو باطنية، إنما هي الوصول إلى مقام القرب
______________________________
(1)- مفاتيح الجنان/ دعاء أبي حمزة الثمالي.
(2)- انيس الليل: 152.
(3)- روح البيان.
رحلة فى الآفاق والأعماق شرح دعاء كميل،للعلامة انصاریان ص: 177
الالهي، لأن العبد يقصد في كل اعماله القربة وانقياد ارادته إلى ارادة الحق تبارك وتعالى؛ يعني فناء ارادته في ارادة الرب بحيث لا تبقى ارادة إلّاارادة اللَّه عزوجل.
والمسالك يخطو في طريق الطاعة صوب الحق تغمره رحمة من اللَّه وتعضده اسماؤه الحسنى واوصافه العليا ولهذا جاء في الحديث القدسي:
«مَن تَقَرَّبَ إِلَىَّ شِبْراً تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعاً، وَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَىَّ ذِرَاعاً تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعاً، مَنْ أَتَانِى مَشْياً أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً» «1»
. اجل ان غاية الطاعة والعبادة هو بلوغ العبد مولاه وقرب المولى من العبد وهو ما عبّر عنه في الروايات ب «مقام القرب».
ان أهل المعرفة والعاشقين يعتبرون كل افعال المقربين وصفاتهم قد ذابت تماماً وفنيت في افعال اللَّه عزوجل وصفاته وهذا ما نجده في مفاد الآيات القرآنية والاحاديث القدسية والروايات المعتبرة الواردة عن سيدنا محمّد صلى الله عليه و آله وأهل بيته الاطهار:
«إِنَّ اللّهَ يَقولُ: لا يَزَالُ عَبدٌ يَتَقَرَّبُ إِلَىَّ بِالنَّوافِل حَتَّى أُحِبَّهُ، فَأكونُ أَنا سَمْعَهُ الَّذِى يَسْمَعُ بِه، وَبَصَرَهُ الَّذِى يُبْصِرُ بِهِ، وَلِسانَهُ الَّذِى يَنْطِقُ بِه، وَقَلْبَهُ الَّذِى يَعْقِلُ بِه، فَإذَا دَعَانِى أَجَبْتُه، وَإذَا سَأَلَنِى أَعْطَيْتُهُ» «2»
. وجاء في الأثر الشريف، قال النبى صلى الله عليه و آله و سلم:
«كَلامُ المُتَّقِينَ بِمَنْزلَةِ الوَحْىِ مِنَ السَّمآءِ، إِذَا وُجِدَتْ كَلِمَةٌ عَلَى لِسانِ بَعضِهِم
______________________________
(1)- مستدرك الوسائل: 5/ 298، باب استحباب ذكر اللّه، حديث 5910؛ نفحات الليل: 66.
(2)- كنز العمال: 1155.
رحلة فى الآفاق والأعماق شرح دعاء كميل،للعلامة انصاریان ص:178
فَقِيلَ لَهُ: مَن حَدَّثَكَ بِهَذِهِ؟ فَيُقولُ: حَدَّثَنِى قَلْبِى عَنْ فِكْرِى عَنْ سِرِّى عَنْ رَبِّي» «1»
. ولقد بلغ سيدنا محمّد صلى الله عليه و آله ذروة هذا المقام. من أجل هذا روي عنه أنه قال:
«مَن رَآنِى فَقَدْ رَأَى الحَقَّ» «2»
. وعنه صلى الله عليه و آله أيضاً قال:
«لِى مَعَ اللّهِ وَقْتٌ لَايَسَعُنِى فِيهِ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلَا نَبِىٌّ مُرْسَلٌ» «3»
. ويلي سيدنا محمّد صلى الله عليه و آله في بلوغ هذه المرتبة الرفيعة وصيّه وخليفته من بعده سيدنا علي عليه السلام وقد روي عنه قوله:
«مَعْرِفَتِى بِالنُّورانِيَّةِ مَعْرِفَةُ اللَّه» «4»
رحلة فى الآفاق والأعماق شرح دعاء كميل،للعلامة انصاریان
source : دار العرفان