إذا كانت العبادةُ هي الخضوع أمام موجود بما أنّه إله أو ربّ أو من بيده مصير الاِنسان أو بيده أفعاله من شفاعة و مغفرة، فما هو المراد منها في الآيات التالية التي لايصحُّ تفسير العبادة فيها بالمعنى المذكور؟
قال سبحانه حاكياً عن الخليل - عليه السلام - :
"يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيطانَ كانَ للرَّحْمنِ عَصِيّاً" (1)
ومن المعلوم أنّ مخاطَبَ الخليل ، لم يكن يعبد الشيطان بالمعنى المذكور إذ لم يتخذه إلهاً و رباً، و إنّما كان يعبد التماثيل والاَصنام بما أنّها آلهة و أرباب و هذا إن دلّ على شيء، فإنّما يدل على أنّه يصحّ استعمالها في مورد لم يكن المخضوع له إلهاً ولا ربّاً لدى الخاضع.
وقال سبحانه:
"أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَني آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبينٌ" (2) و ليس الشيطان عند الكفّار والعصاة إلهاً ولا ربّاً، مع أنّه وصف الانقياد له بالعبادة .
وقال سبحانه:
"فَقالُوا أَنُوَمِنُ لِبَشَرينِ مِثْلِنا وَقَومُهُما لَنا عابِدُونَ" (3) و لميكن بنو إسرائيل عبدةً لفرعونَ و قومه بالمعنى المطلوب وإنّما كانوا أذلاّء بأيديهم .
الجواب
أمّا الآية الاَولى، فقد استعيرت العبادة فيها ، للطاعة العمياء ، للشيطان على الدوام، فكان اتباعهم الشيطان في كل ما يأمر و ينهى يمثِّل أنّهم اتّخذوه إلهاً و ربّاً فأطاعوه كإطاعة الموَمنين للّه على بصيرة من أمرهم بما انّه إلههم و ربّهم. فكأنّ الخليل يخاطب آزر و يقول له: يا أبت لا تطع الشيطان فيما يأمرك به من عبادة الاَصنام لاَنّ الشيطان عصِـيّ مقيم على معصية اللّه الّذي هو مصدر كلّرحمة و نعمة، فهو لا يأمر إلاّ بما فيه معصيته و الحرمان من رحمته.
ومثلها الآية الثانية، فالمراد هوالطاعة فاستعيرت لها العبادة تبييناً لاَمرها والمراد منها التبعيّة المطلقة العشوائية التي نهيت عنها في عدّة آيات بهذه اللفظة قال سبحانه: "كُلُوا مِمّا فِي الاَرْضِ حَلالاً طَيِّباً ولا تتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ" (4)و قال تعالى: "ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كافَّةً وَ لا تَبَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ"(5) و قال عزّمن قائل :"وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللّهِ بِغَيْرِعِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَريدٍ" (6)
و بالجملة: تبعيتهم للشيطان أو إطاعتهم للهوى و الميول النفسانية، يمثّل اتّخاذهم لها إلهاً، أو ربّاً قال سبحانه:"أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً" (7)
وقال عزّ من قائل: "أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَ أَضَلَّهُ اللّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ " (8) أي «انقاد لهواه كانقياده لاِلهه، فيرتكب ما يدعوه إليه ، نعم انّهم لم يتخذوا هواهم إلهاً حقيقة لكنّهم لمّا إنقادوا حيثما قادهم الهوى، فكأنّه صار إلهاً لهم.
ومثله قوله سبحانه: "أَنُوَمِنُ لِبَشَرَيْنِ وَ قَوْمَهُما لَنا عابدون" و المراد هو المعنى اللغوى المحض أي خاضعون، متذللون، و منه أيضاً إطلاق المعبّد على الطريق الذي يكثر المرور عليه. والآية نظير قوله: "وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائيلَ" (9) أي جعلتهم أذلاّء تَذْبَح أبناءهم و تستحيي نساءهم.
وحصيلة البحث: أنّ استعمال العبادة في مورد الشيطان، أو الاِله في مورد الهوى من باب مجاز الاستعارة، والغاية هو بيان فرط خضوعهم للشيطان أو الميول النفسانية، وأمّا استعمالها في قوم موسى فالمقصود هو المعنى اللغوي.
و ممّا ذكرنا تقف على مفاد العبادة في الحديث المعروف:
من أصغى إلى ناطق فقدعبده، فإن نطق عن اللّه فقد عبد اللّه، و إن نطق عن الشيطان فقد عبد الشيطان.(10)
فقد استعيرت العبادة في الحديث للطاعة المطلقة التي نعبر عنها بالاستسلام المطلق فيتقبل السامع كلّما يلقيه فيكون مطيعاً في أوامره و نواهيه، وفي مثل هذا الموقف بما أنّ الناطق مبلِّغ عن غيره فكأنّه مطيع للغير محقّاً كان أو مبطلاً.
ما هو حكم إطاعة غير اللّه و الخضوع له ؟
انّه لا مطاع إلاّاللّه سبحانه فيقع الكلام في إطاعة غيره فنقول هي على أقسام:
الاَوّل: أن تكون طاعتُه بأمر من اللّه سبحانه كما هو الحال في إطاعة الرسول و خلفائه الطاهرين و هي في الحقيقة اطاعة للّه، قال سبحانه:"وَمَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللّهَ" (11)و قال عزّمن قائل: "وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّلِيُطاعَ بِإِذْنِ اللّهِ" (12)
الثاني: أن تكون طاعته منهيّاً عنها كإطاعة الشيطان و من يأمر بالعصيان
قال سبحانه:"يا أَيهَا النَبِيُّ اتَّقِ اللّهِ وَلا تُطِعِ الْكافِرينَ وَالْمُنافِقينَ إِنَّ اللّهَ كانَ عَليماً حَكيماً" (13) وقال عزّ من قائل: "وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاتُطِعْهُما" (14)
الثالث: أن لا يتعلّق بها أمر و لا نهي في الشرع فتكون حينئذٍ جائزة غير واجبة ولا محرّمة كإطاعة الجندي لآمره، و العامل لربّ عمل، وهكذا إطاعة كلّ مروَوس لرئيسه في أيّ تجمع كان، إذا لم يأمر بالحرام.
إنّ كلّ تجمع سواء كان عسكرياً أو مدنياً، يتشكّل من أعضاء ذوي مراتب مختلفة و لايصل إلى الغاية المنشودة إلاّإذا كانت بين الاَعضاء درجات في مستويات الاِمرة، ففي مثل هذا التجمع تلزم الطاعة من العناصر المقومة للوصول إلى الغاية، و لاتعد تلك الطاعة شركاً منافياً لحصر الطاعة في اللّه و ذلك لاَنّ الشارع أعطى حرية التعامل بين هذه المستويات بشرط أن لا يكون فيه تجاوز عن الحدود، و الطاعة بين المروَوس و رئيسه من لوازم انجاز الاَعمال وتحقيق الغاية ضمن عقد اجتماعي، وأين هي من طاعة اللّه سبحانه بما أنّه إله، خالق، ربّ.
وأمّا الخضوع للغير فهو على أقسام:
أحدها: الخضوع لمخلوق من دون أن يكون بينه و بين خالقه، إضافة خاصة كخضوع الولد لوالده، و الخادم لسيده و المتعلم لمعلّمه و غير ذلك من الخضوع المتداول بين الناس، و هذا الفرع من الخضوع جائز مالم يرد فيه نهي كالسجود لغير اللّه قال سبحانه: "وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَ قُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغيراً"(15)
ثانيها: الخضوع للمخلوق باعتقاد أنّ له إضافة خاصة إلى اللّه يستحقّمن أجلها، الخضوع له، مع كون العقيدة خاطئة، باطلة كخضوع أهل المذاهب الفاسدة لروَسائهم، فلا شكّ في أنّها حرام لكونها تشريعاً و إدخالاً في الدين لما ليس منه قال سبحانه: "فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرى عَلَى اللّهِ كَذِباً"(16)
ثالثها: الخضوع للمخلوق والتذلل له بأمر من اللّه و إرشاده، كما في الخضوع للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - و لاَوصيائه الطاهرين عليهم السَّلام بل الخضوع لكلّموَمن ، أو كلّما له إضافة إلى اللّه توجب له المنزلة و الحرمة، كالمسجد الحرام، و القرآن والحجر الاَسود وما سواها من الشعائر الاِلهية. و هذا القسم من الخضوع محبوب للّه فقد قال تعالى: "فَسَوفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَومٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُوَمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرينَ" (17)
بل هو لدى الحقيقة خضوع للّه، و إظهار للعبودية له فمن اعتقد بالوحدانية الخالصة للّه، و اعتقد أنّ الاِحياء والاِماتة والخلق والرزق والقبض والبسط والمغفرة و العقوبة كلّها بيده، ثمّ اعتقد بأنّ النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - و أوصياءه الكرام عليهم السَّلام "عِبادٌ مُكْرَمُونَ* لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَولِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ" (18) فعظّمهم و خضع لهم ، تجليلاً لشأنهم و تعظيماً لمقامهم، لم يخرج بذلك عن حدّالاِيمان، ولم يعبد غير اللّه.
ولقد علم كلّ مسلم أنّ رسول اللّه - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يقبّل الحجر الاَسود، و يستلمه بيده إجلالاً لشأنه و تعظيماًلاَمره.(19)
المصادر :
1- مريم/44
2- يس/60
3- الموَمنون/47
4- البقرة/168
5- البقرة/208
6- الحجّ/3
7- الفرقان/43
8- الجاثية/23
9- الشعراء/22
10- الكليني: الكافي4/434
11- النساء/80
12- النساء/64
13- الاَحزاب/1
14- لقمان/15
15- الاِسراء/24
16- الكهف/15
17- المائدة/54
18- الاَنبياء/26ـ27
19- السيد الخوئي: البيان: 468ـ 469
source : rasekhoon