إذا كانت وحدة الأمة الإسلامية فرضا، فإن تفريق وفرقة الأمة الإسلامية جريمة كبرى ومفسدة عظمى، تترتب عليها مئات المفاسد، فهي تعطل الأمة كشخص اعتباري عن القيام بكل أدوارها وواجباتها، وتؤدي إلى التنازع والفشل وذهاب الريح والهيبة، وتعميق كل ذلك وترسيخه، فيتفرق المسلمون بعد وحدة، ويختلفون بعد انسجام، ويتحولون إلى شيع متباعدة متباغضة، وأحزاب متنافرة، يتلهى كل حزب بما لديه، وتزعم كل فئة أنها على الحق المبين، وأن غيرها على الباطل، مع أنه لا يوجد إلا حق واحد، وباطل واحد، ولو كانوا جميعا على الحق لاتحدوا تحت راية الحق الواحدة، ولكن لأنهم أحبوا الباطل وكرهوا ما أنزل الله، اختلفوا ودخلوا أبواب الهوى كما دخل المشركون من قبلهم قال تعالى (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم) الأنفال آية 45، وقال جل جلاله (ولا تكونوا من المشركين، من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون) آية 21 - 22 من سورة الروم، وقال أيضا (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شئ) آية 159 من سورة الأنعام، والخطاب في هذه الآية موجه للنبي.
سبب الفرقة والخلاف
يكمن سبب خلاف المسلمين واختلافهم، وتفرق كلمتهم، وإخفاقهم في تحقيق وحدتهم في أمر واحد لا شأن له، وهو بإيجاز عدم إعمالهم للترتيبات الإلهية مجتمعة.
فقد أخذوا من هذه الترتيبات الإلهية أمورا، وتركوا منها أمورا أخرى.
وهذا الذي تركوه من الترتيبات الإلهية أحدث فراغا هائلا وفجوة، فسدوا هذا الفراغ وتلك الفجوة بترتيبات بديلة، وضعوها على عجل وحسب رأيهم ومبلغهم من العلم، وأشيع في ما بعد أن هذه الترتيبات البديلة هي جزء لا يتجزأ من الترتيبات الإلهية، تقرأ معها، وتنفذ كما تنفذ الترتيبات الإلهية تماما.
الربط المتكرر
تولى قادة التاريخ السياسي الإسلامي عمليات ترك بعض الترتيبات الإلهية، وعمليات وضع ترتيبات بديلة، لسد الفراغ الحاصل، ثم عمليات الربط بين ما تبقى من الترتيبات الإلهية وبين الترتيبات البديلة التي وضعوها، وكرس هؤلاء القادة كل جهودهم وإمكانيات الدولة الإسلامية لتبدو هذه العمليات وكأنها لمصلحة المسلمين، ولمصلحة الإسلام، وشايعتهم الأكثرية الساحقة من الأمة على ذلك رغبة في ما عند هؤلاء القادة، أو رهبة منهم.
الإشاعة تتحول إلى قناعة
ثم أخذت وسائل الدولة الرسمية لهؤلاء القادة تروج لشيوع هذه الإشاعة، وتشيد بفضائل وحكمة واضعيها، ومع التكرار صارت كل هذه العمليات أعرافا ملزمة، وحالات واقعة، وسنة متمكنة في الحياة، وقناعات ضاربة الجذور، واعتقد اللاحقون أن الوحدة بين ما تبقى من الترتيبات الإلهية وبين الترتيبات البديلة التي وضعها قادة التاريخ، اعتقدوا أنها وحدة شرعية وحقيقية، وأن كافة الترتيبات التي بين أيديهم هي من صنع الله تعالى وحده، فتقبلوها على هذا الأساس، ودافعوا عنها على هذا الأساس، وأقاموا سورا بين العقل البشري وبين الولوج إلى حرمة هذه القناعات، مع أنها في أصلها وحقيقتها شائعات. ومن هذا الاعتقاد تكون نسيج عقيدتهم، وشاعت خلاصة نظرتهم.
اختلاط الدين بالأشخاص
من المسلمات أن ذات الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هي جزء من الدين، فيجب أن يتيقن المؤمن أن محمدا بالذات - وليس غيره - هو نبي الله ورسوله، وأن طاعته هي طاعة لله، ومعصيته هي معصية لله، فالقناعة بذلك هي جزء لا يتجزأ من دين الله، وتقرأ هذه القناعة مع الدين، وهي منبثة في كل نصوصه.
ونتيجة لترك بعض الترتيبات الإلهية، ووضع ترتيبات بديلة، لتسد محلها، أشيع في ما بعد أن الذين وضعوا هذه الترتيبات البديلة هم أيضا جزء من الدين، ويقرأ هذا الجزء مع الدين نفسه، وحجتهم في ذلك أن القول بغير ذلك سوء ظن بأولئك الذين قادوا التاريخ السياسي بعد وفاة النبي، وصنعوا وحققوا الانتصارات والأمجاد، وفتحوا الممالك والبلدان بفترة زمنية قصيرة، معتقدين أن سر العظمة بهؤلاء القادة، لا بدين الإسلام وحده، وكيف لا وقد صحبوا النبي، وكانوا خلفاءه والقائمين مقامه، وقد وحدوا الأمة طوعا وكرها، ونقلوا لنا الدين
نفسه، وبلغونا أحكامه، فهم عدول، لا يجوز عليهم تعمد الشر، ومن الواجب الاقتداء بهم، فعملهم سنة، ولكل واحد منهم سنة قولية وفعلية وتقريرية عند عدم وجود النص، راجع الباب الأول من كتابنا نظرية عدالة الصحابة والمرجعية السياسية في الإسلام تجد توثيق ذلك.
وهكذا اختلط الدين بالأشخاص اختلاطا كاملا، وقلت الفوارق بين ما وصفه الخالق، وما ابتدعه المخلوق، وحشر الاثنان على صعيد واحد، وقرءا معا!
وساعد على ترسيخ هذه القناعة المتولدة أصلا عن الإشاعة رسوخ فكرة أن الغالب مهما كانت وسائل غلبته بطل، وأن البطولة والغلبة محط هوى النفس البشرية، فقبول الناس هذه الترتيبات البديلة لأنها في جانب منها من صنع الأبطال الذين غلبوا، والغالب على حق، فلو لم يكن على حق لما انتصر - حسب رأيهم - فأخذوا بظاهر من القول: إن الله يؤتي ملكه من يشاء.
تقديس الغلبة وتمجيد الغالب
في هذا المناخ تقدست الغلبة، وأصبحت سببا شرعيا للخلافة، وتمجد الغالب وأحيط بهالة حقيقية من التقدير وبفيض من الطاعات، كأنه خليفة وإمام شرعي معين بالنص أو العهد، فاخترع ترتيب بديل مفاده: أنه لو خرج على الخليفة أو الإمام الشرعي خارج أي خارج على الإطلاق - فوقف مع الخليفة الشرعي فريق، ومع هذا الخارج فريق، وشب الصراع بين الفريقين، ثم أسفر عن انتصار هذا الخارج وسيطرته على مقاليد الأمور، فيجب التنكر عمليا للخليفة الشرعي المغلوب، وإطاعة هذا الخارج الغالب، وتتويجه خليفة شرعيا مكان السابق فقط لأنه غالب، فإذا غلب وجلس في مقام الخلافة، فيتوجب طاعته، والانقياد له، وتقديم واجبات الولاء له كائنا من كان، ولماذا لا؟ فهو خليفة رسول الله وأمير المؤمنين رسميا، وإن كنت في شك من ذلك فاقرأ مشكورا الأحكام السلطانية (1)
ولهذا الغالب أن يتمتع بكافة الحقوق والصلاحيات والامتيازات التي كان يتمتع بها الخليفة الشرعي المغلوب عندما كان غالبا، فهو خليفة حقيقي الآن، بل وبإمكان هذا الخليفة الغالب أن يعهد لمن يقود الأمة من بعده، فهو موضع ثقة نظر المسلمين حال حياته، وتبعا لذلك أن ينظر لهم حال موته، وإن كنت في شك من ذلك فاقرأ صفحة 177 من مقدمة ابن خلدون تجد هذا الترتيب البديل.
وزيادة في الأمان والاطمئنان على هذا الغالب فإنه يحرم قتاله، ويحرم الخروج عليه، ويحرم عزله، وله على الأمة حق الطاعة حتى ولو كان فاسقا ظالما، وإن كنت في شك من هذا فارجع مشكورا على سبيل المثال إلى صحيح مسلم باب الأمر بلزوم الجماعة، شرح النووي على صحيح مسلم، وسنن البيهقي... إلخ.(2)
أما لماذا هذه المبالغات بالطاعة والاحتياطات؟ ذلك لأنه خليفة رسول الله والقائم مقامه، والمتمتع بصلاحياته في القيادة!
وقد توطد مركز الخلافة في ظلال هذه القناعات، حتى أعلن الحجاج بكل وضوح كما أسلفنا أن الخليفة أهم من الرسول نفسه، ومقامه أعظم من مقام النبوة نفسها!
وساعد على ترسيخ مكانة الخلافة مكانة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في النفوس، فصارت سيرتهما جزءا من المنظومة الحقوقية الإلهية تقرأ معها، فلا يكفي أن يتعهد الخليفة الجديد بالحكم بكتاب الله وسنة رسوله، بل يجب أن يتعهد أيضا بالعمل بسيرة الشيخين، وتلك مكانة لا مثيل لها، والشواهد على ذلك كثيرة، (3)
وما قاله الشيخان، وما فعلاه، وما أقراه يقرأ مع المنظومة الحقوقية الإلهية وكأنه جزء منها.
فولاية العهد لا سند شرعي لها من الناحية الرسمية إلا فعل أبي بكر وعمر، حيث عهد أبو بكر لعمر، وعهد عمر للستة نظريا ولعثمان عمليا، راجع كتابنا النظام السياسي في الإسلام الباب الأول صفحة 147، ونظام الحكم للقاسمي، ومجلد 2 صفحة 428 من تاريخ الطبري، وصفحة 37 من سيرة عمر لابن الجوزي، وصفحة 85 مجلد 2 من تاريخ ابن خلدون، وصفحة 11 من الإمامة والسياسة لابن قتيبة، وصفحة 177 من المقدمة لابن خلدون.
وإذا غلب غالب جديد يسري هذا القانون لصالحه.
ما هو السند الشرعي لترتيب الغلبة البديل للترتيب الإلهي؟
السند الشرعي لهذا الترتيب (نحن مع من غلب) ليس آية قرآنية، أو سنة نبوية كما يخطر على البال، إنما هو مجرد قول صدر عن الصحابي عبد الله بن عمر بن الخطاب يوم فتكت جيوش الخليفة يزيد بأهل المدينة المنورة، وروعتهم، ونكلت بهم، وأذلت أصحاب النبي، وختمت أعناق وأيدي من تبقى منهم على أنهم عبيد ليزيد، إمعانا بإذلالهم، وقتلت ما لا يقل عن عشرة آلاف مسلم! واستقرت الأمور لصالح يزيد بن معاوية، عندئذ قال عبد الله بن عمر (نحن مع من غلب) فتحولت مقولته إلى قاعدة دستورية شرعية تقرأ تماما مع المنظومة الحقوقية الإلهية، وهي أشهر من نار على علم، لأنها السند الوحيد للخلافة التاريخية،
طريق الخلاف ومفتاح الدمار
الضرر المدمر يأتي من أولئك الذين أعلنوا أن هذه الترتيبات إلهية، وأنهم يؤمنون بذلك، ولكنهم يخشون من إعمال هذه الترتيبات بحجة أنها غير مناسبة، أو أنها بالمآل ضارة بمصلحة المسلمين.
اليهود أنفسهم الذين طلبوا من نبيهم تعيين قائد لهم، فلما دلهم الله على هذا القائد اعترضوا، وقالوا: إنه غير مناسب للقيادة بحجة أن طالوت لم يؤت سعة من المال، وبصعوبة، وبعد أن جاءتهم البينات اضطروا لقبول قيادة طالوت، وتجد تفاصيل ذلك في سورة البقرة من القرآن الكريم.
وبعض الصحابة الكرام رفضوا ولاية علي بن أبي طالب بحجة أنه صغير السن، وأن مشيخة قومه أولى بالولاية منه، وبحجة أنه هاشمي، وأن الهاشميين قد أخذوا النبوة، فلا ينبغي أن يجمع الهاشميون النبوة والخلافة معا، فيجحفوا على قريش، ويذهبوا بالشرف كله.
نظرة الإمام علي مع أبي بكر وعمر وأبي عبيدة رضي الله عنهم على سبيل المثال في الإمامة والسياسة لابن قتيبة وما فوق من الجزء الأول، وراجع قول أبي عبيدة للإمام بأنه صغير السن ، وراجع أقوال عمر (رضي الله عنه) حول عدم أحقية الهاشميين بجمع الخلافة مع النبوة في الكامل في التاريخ لابن الأثير، وراجع شرح النهج لعلامة المعتزلة ابن أبي الحديد ،.(4)
وكما اعترض الكثير من الصحابة الكرام على ولاية علي اعترضت زعامة قريش على نبوة النبي، فتمنت لو أن القرآن قد أنزل على رجل من القرشيين عظيم، وهو عين اعتراض فرعون على نبوة موسى، بحجة أن موسى مهين ولا يكاد يبين.
نقطة الاعتراض على الترتيبات الإلهية
عادة ينصب اعتراض المعترضين على شخص القائد السياسي والمرجع، فإن نجحوا باعتراضهم يستبدلونه، ويعطلون كافة النصوص الشرعية المتعلقة بشخص القائد السياسي والمرجع، أو يؤولونها تأويلا يخرجها عن الغاية من وجودها، وقد يتمادى المعترضون إذا نجحوا، فيقومون بدور المرجع الشرعي، ويتجاوزون حدودهم، فيفتكون بالمنظومة الحقوقية الإلهية، فيعطلون ما شاءوا من النصوص، ويؤولون البعض الآخر منها، ويبدلون بعضها، ويعملون ببعضها مما لا يتعارض مع ما تهوى الأنفس.
عندئذ تضيع الأمة، وتتعطل الترتيبات الإلهية ويفسد أمر الناس، ويختلط الحابل بالنابل، والحق بالباطل، وتبدأ البنية العامة للأمة بالتآكل حتى تنهار نهائيا. فإذا انهارت، يستجد سبب جديد للفرقة، ويتعذر توحيد الأمة دون تشكيكها بشرعية سنة الغالب، تمهيدا لإبطالها، ثم إبطال سحر هذه السنة. والله غالب على أمره.
الترتيبات الإلهية معادلة رياضية
وحدة الأمة الإسلامية تتحقق عندما تطبق الشرعية الإلهية، وتنفذ الترتيبات الإلهية بأركانها الثلاثة المؤلفة من:
1 - قيادة سياسية ومرجعية تكون بالضرورة هي الأعلم والأفهم بالمنظومة الحقوقية الإلهية، وهي الأفضل، والأتقى، من بين أتباعها، وهي الأصلح والأنسب لقيادة هؤلاء الأتباع. وتلك صفات خفية لا يعملها علم اليقين إلا الله تعالى، ومن هنا فقد اختص وحده بتحديد هذه المرجعية، وبيان الشخص المتصف يقينيا بهذه الصفات، فهو تعالى الذي أعلن أن هذه الصفات متوفرة بالرسل الكرام كل في زمانه، فقد توفرت بموسى، وفي داود، وفي سليمان... إلخ.
وتوفرت في طالوت، وتوفرت هذه الصفات في محمد، وبختم النبوة، والرسالات الإلهية لبني البشر توفرت بعلي وبالأئمة الكرام. وقد عالجت هذا الموضوع علاجا علميا في كتابنا نظرية عدالة الصحابة والمرجعية السياسية في الإسلام وأقمت الأدلة القاطعة على ذلك.
2 - المنظومة الحقوقية الإلهية، وهي بمثابة القانون النافذ للأمة وللجماعة الإسلامية، وقد غطت هذه المنظومة من خلال فهم القائد السياسي والمرجع كل شئ يحتاجه الجنس البشري، وعلى كل صعيد.
ثمرة المعادلة
إذا أعملت هذه الترتيبات الإلهية، ونفذت استقام أمر الأمة تماما، وتحققت وحدتها، وأمكنها أن تتابع أهدافها المتمثلة: بإنقاذ الجنس البشري، وإقامة الدولة العالمية الواحدة، وتعمير الأرض، وتوزيع ثرواتها توزيعا عادلا على أبناء الجنس البشري، عندئذ يسود الحكم الإلهي، وتتحقق في ظلاله الحرية الحقيقية، والعدل الحقيقي، والمساواة الحقيقية أمام القانون، وفي مستوى المعيشة والتكاليف، لا فرق بين عربي وأعجمي، ولا بين أبيض وأسود وأصفر، الكل أعضاء في جسد واحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، وهكذا يتحقق الائتلاف، وتتحقق وحدة الأمة الإسلامية، ومن خلالها وحدة الجنس البشري في ظلال الحكم الإلهي.
المعادلة السلبية
أما إذا عطلت هذه الترتيبات الإلهية، أو تهدم ركن منها، أو عدلت هذه الأركان، أو عدل بعضها، أو عطلت أجزاء منها، عندئذ تنهدم الشرعية الإلهية عاجلا أم آجلا، وتدخل الأمة والعالم في ليل بهيم إذا أخرجت يدك لم تكد تراها، وتنمو أسباب الشقاق والاختلاف، وتنهدم وحدة الأمة، وتموت عمليا روحها العامة، ويتقوقع كل فرد من أفرادها على ذاته، لأننا نكون في هذه الحالة أمام حكم وضعي وترتيبات وضعية، ونكون قد أبطلنا بأيدينا مفعول العلاج الإلهي الذي وصفه تعالى لشفائنا، وبهذه الحالة تبدأ عمليات التآكل، ومن الطبيعي أن ترافقها عمليات محاولات الإصلاح ، لكن هذه المحاولات بمثابة مخدر، لأنها قاصرة، ولأنه لا يوقف الدمار في العالم ولا يضع حدا له إلا عودة الأمة الإسلامية إلى الترتيبات الإلهية، وإعمال هذه الترتيبات كاملة غير منقوصة.
خطورة الترتيبات الإلهية
الترتيبات الإلهية من حيث الظاهر تشكل خطرا على الطبقة التي كانت تنعم وتسود على حساب السواد الأعظم قبل أن تشرق شمس تلك الترتيبات الإلهية، لذلك فإن هذه الطبقة تسعى جاهدة لإجهاض الترتيبات الإلهية، وللتشكيك بنسبة هذه الترتيبات لله سبحانه وتعالى، وتحاول ما وسعها الجهد أن تستخف أولئك المستفيدين من الترتيبات الوضعية، وأن توحد جهدها مع جهدهم، وتشكل جبهة لمواجهات خطر تلك الترتيبات الإلهية.
موضع الاعتراض في الترتيبات الإلهية
الطبقة التي تتنعم على حساب السواد الأعظم لا تجد في المنظومة الحقوقية الإلهية ما يخالف العقل، وما تأباه الفطرة السليمة، أو ما يتعارض مع مصلحة الإنسان، لذلك فإنها لا تجعل الاعتراض على المنظومة موضوعا رئيسيا في صراعها مع المشروع النهضوي الإلهي، ومن هنا فإنها تقصر موضوع الصراع على نقطتين:
1 - الحيلولة بين الناس وبين الإصغاء لصوت النبوة، حتى تقلل التابع، وتتمكن من حصر من اتبع.
2 - الطعن بشخص القائد أو المرجع والتركيز على عدم أهليته، وعدم استحقاقه ليكون نبيا، أو رسولا، أو قائدا، أو مرجعا، لأنه مجرد فرد من الناس، أو لأنه من العامة (فهو مهين ولا يكاد يبين) كما قال فرعون عن موسى، ولأنه ليس عظيما وفق معايير المجتمع المراد تغييره (لولا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) كما قال مشركوا العرب عن محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أو لأنه فقير لم يؤت سعة من المال كما قال الإسرائيليون عن طالوت، أو لأنه صغير السن، أو به دعابة، أو لأنه من بني هاشم، وقد أخذ الهاشميون النبوة فلا ينبغي أن يجمعوا الخلافة مع النبوة، كما اجتهد بعض الصحابة الكرام في عدم قبولهم لولاية علي بن أبي طالب (عليه السلام).... إلخ. هذه الاعتراضات.
نشوء الصراع وفتح أبواب الاختلاف
نتيجة لإعلان المشروع النهضوي الإلهي بأركانه الثلاثة، ولموقف الطبقة التي تقود المجتمع المراد تغييره من المشروع الإلهي ومقاومتها له، ينشأ الصراع المرير بين داعية المشروع الإلهي ومن والاه، وبين الطبقة المتحكمة في المجتمع المراد تغييره ومن والاها، وقد تتمكن هذه الطبقة من إجهاض المشروع الإلهي، ومن هزيمة الداعية ومن والاه، عندئذ وغالبا ما تتدخل العناية الإلهية، فتسلط على هذه الطبقة عذابا، وتقطع دابرها.
وأحيانا تنجح دعوة الإيمان وتتحول إلى دولة بقيادة النبي الداعية كما حدث لسليمان، ولداود، ولمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتستتب الأمور، ويوالي المجتمع دولة الإيمان لسببين:
1 - وضوح الحجة، وقيام الدليل على صدق الدعوة، ونسبتها إلى الله تعالى.
2 - ولأن دولة الإيمان هي التي غلبت، فجمعت بين الاقتناع بشرعيتها وبين حماية هذا الاقتناع بقوتها.
وهنالك صراع ينشأ بين أتباع الداعية الإلهي وغالبا بعد موته، فيأخذ الصراع شكل فتنة داخلية، ومن الطبيعي أن هذا الصراع سيكون بين فريقين أحدهما على الحق بالضرورة، والآخر على الباطل بالضرورة، بغض النظر عن قلة أو كثرة ناصري كل فريق، ونفس القانون يجري على هذا الصراع، فقد يهزم المحق وينتصر المبطل بموازين النصر التي يألفها العامة، كما حدث للأكثرية الساحقة من الرسل الكرام، عندئذ تقتص العناية الإلهية من الأمة التي آزرت المبطل، وخذلت المحق، فتذيق بعضها بأس بعض، وتسلط الظالمين
عليها يسومونها سوء العذاب. وأحيانا قد ينتصر المحق.
نفس الأطر ونفس موضوع الخلاف
عندما ينشأ الصراع بين أتباع الداعية الإلهي بعد موته، ينصب اعتراض المعترضين على شخصية القائد السياسي والمرجع، لأنه برأي وحسب اجتهاد هؤلاء المعترضين ليس أهلا للقيادة والمرجعية، أو لأنه من عشيرة النبي، أو لأنه صغير السن، أو لأنه فقير، أو لأنه أثخن في العرب... إلخ. فيغدو من المناسب حسب رأيهم واجتهادهم أن يتولى القيادة والمرجعية شخص آخر أكثر أهلية منه، فذلك أفضل لمصلحة الإسلام ولمصلحة المسلمين، وذلك أقرب لوحدة الكلمة، وأجدر بتحقيق الوفاق والائتلاف... إلخ.
نقض الترتيبات الإلهية
قد تبدو هذه الحجج مقبولة من حيث الظاهر ويبدو الإشفاق واضحا من أصحابها، ولكنها في حقيقتها وجوهرها تشكل نقضا للترتيبات الإلهية المتعلقة بالقيادة والمرجعية وتغييرا لطبيعة هذه الترتيبات، ومبررا لإيجاد ترتيبات بديلة، وهي في الحقيقة تهز هزا عنيفا المنظومة الحقوقية الإلهية خاصة القواعد المتعلقة بالقيادة والمرجعية، وبالتالي تستبدل الترتيبات الإلهية الدائمة والواضحة بترتيبات بشرية وضعية وغامضة.
الحرب خدعة والاجتهاد فن وظن
إن تكافأت الفرصة بين المعترضين والقائد والمرجع الشرعي على سواء، وكانت الشرعية هي الحكم، فإن القائد والمرجع الشرعي مؤهل إلهيا ليفوز، وليقيم الحجة على المعترضين، ويسلك بهم وبالأمة جادة الصواب، ويقودهم ضمن إطار الشرعية حتى يحقق للجميع السعادة في الدارين. لكن المعترضين أذكى من أن يتحركوا في فرصة متكافئة مع القيادة والمرجعية، وهم أعقل من أن يقبلوا بأقل من النصر على قائدهم ومرجعهم، وعلى الشرعية نفسها.
الحل الأمثل لهزيمة القائد والشرعية معا
إن الحل الأمثل لهزيمة القائد والمرجع الشرعي والشرعية معا يتمثل في ترتيب الأمور لما فيه مصلحة المسلمين في غياب القائد والمرجع الشرعي، بحيث يواجه القائد بأمر واقع لا قدرة له على دفعه، وإن حاول دفعه يقع المحظور، ويفرق الجماعة، بعد خروجه على الطاعة، ويثير الفتنة بعد أن نعمت العامة بالعافية، ولا يكون أمام العاقل من سبيل إلا طلب السلامة، وابتغاء رضى الغالب الذي دانت له الأمور، واستقامت لسلطته!!
وسترى أن هذا هو الذي حدث في مواجهة الترتيبات الإلهية لقيادة الأمة في مواجهة النبي الاکرم صلی الله عليه وآله وسلم وعند وفاته.
المصادر :
1- الأحكام السلطانية صفحة 5 – 11
2- صحيح مسلم مجلد 6 صفحة 20 - 22 باب الأمر بلزوم الجماعة، ومجلد 2 صفحة 229 من شرح النووي على صحيح مسلم، ومجلد 8 صفحة 158 - 159 من سنن البيهقي
3- مجلد 5 صفحة 15 من أنساب الأشراف للبلاذري، ومجلد 1 صفحة 26 من الإمامة والسياسة لابن قتيبة الدينوري.
4- الإمامة والسياسة لابن قتيبة صفحة 5 من الجزء الأول، وراجع قول أبي عبيدة للإمام بأنه
source : rasekhoon