عربي
Monday 6th of May 2024
0
نفر 0

فصل (انقسام حقيقة الإنسان و حالاته بالاعتبار)

فصل (انقسام حقيقة الإنسان و حالاته بالاعتبار)

فصل (انقسام حقيقة الإنسان و حالاته بالاعتبار)
اعلم أن الإنسان منقسم إلى سر و علن، و روح و بدن و لكل منهما منافيات و ملائمات، و آلام و لذات، و مهلكات و منجیات.
و منافيات البدن و آلامه هي الأمراض الجسمانيه. و ملائماته هي الصحة و اللذات الجسمانية. و المتكفل لبيان تفاصيل هذه الأمراض و معالجاتها هو علم الطب. و منافيات الروح و آلامه هي رذائل الأخلاق التي تهلكه و تشقيه، و صحته رجوعه إلى فضائلها التي تسعده و تنجيه و توصله إلى مجاورة أهل اللّه و مقربيه. و المتكفل لبيان هذه الرذائل و معالجاتها هو (علم الأخلاق).
ثم إن البدن مادي فإن، و الروح مجرد باق، فإن اتصف بشرائف الصفات كان في البهجة و السعادة أبدا، و إن اتصف برذائلها كان في العذاب و الشقاوة مخلدا، و لا بد لنا من الإشارة إلى تجرده و بقائه بعد خراب البدن ترغيبا للطالبين على السعي في تزكيته و حفظه عن الشقاوة الأبدية.

فصل (في تجرد النفس و بقائها)

لا ريب في تجرد النفس و بقائها بعد مفارقتها عن البدن. أما الأول (و المراد به عدم كونها جسما و جسمانية) فيدل عليه وجوه:
(منها) أن كل جسم لا يقبل صورا و أشكالا كثيرة لزوال كل صورة أو شكل فيه بطريان مثله، و النفس تقبل الصور المتعددة المختلفة من المحسوسات و المعقولات من دون أن تزول الأولى بورود الأخرى، بل كلما قبلت صورة

جامع‌السعادات ج : 1 ص : 38

ازدادت قوتها على قبول الأخرى، و لذلك تزيد القوة على إدراك الأشياء بالرياضيات الفكرية و كثرة النظر، فثبت عدم كونها جسما.
و (منها) أن حصول الأبعاد الثلاثة للجسم لا يتصور إلا بأن يصير طويلا عريضا عميقا و حصول الألوان و الطعوم و الروائح له لا يتصور إلا بأن يصير ذا لون و طعم و رائحة و هي تحصل للنفس و قوتها الوهمية بالإدراك من غير أن تصير كذلك، و أيضا حصول بعضها للجسم يمنع من حصول مقابله له، و لا يمنع ذلك في النفس بل تقبلها كلها في آن واحد على السواء.
و (منها) أن النفس تلتذ بما لا يلائم الجسم من الأمور الإلهية و المعارف الحقيقية، و لا تميل إلى اللذات الجسمية و الخيالية و الوهمية، بل تحن أبدا إلى الابتهاجات العقلبة الصرفة التي ليس في الجسم و قواه فيها نصيب، و هذا أوضح دليل على أنها غيرهما، إذ لا ريب في أن ما يحصل لبعض النفوس الصافية عن شواتب الطبيعة من البهجة و السرور بإدراك العلوم الحقة الكلية و الذوات المجردة النورية القدسية، و بالمناجاة و العبادة و المواظبة على الأذكار في الخلوات مع صفاء النيات لا مدخلية للجسم فيها و قواه الخيالية و الوهمية و غيرهما، إذ النفس قد تغفل في تلك الحالة عنها بالكلية، و ربما استغرقت بحيث لا تشعر بالبدن و لا تدري أن لها بدنا فكأنها منخلعة عنه، فهذا يدل على أنها من عالم آخر غير عالم الجسم و قواه، إذ التذاذهما منحصر بالملائمات الجزئية التي تدركها الحواس الظاهرة و الباطنة.
و (منها) أن النفس تدرك الصور الكلية المجردة فتكون محلا لها، و لا ريب في أن المادي لا يكون محلا للمجرد إذ كل مادي ذو وضع قابل للإنقسام، و كون المحل ذا وضع قابل للإنقسام يستلزم أن يكون حاله أيضا كذلك كما ثبت في محله، و المجرد لا يمكن أن يكون كذلك و إلا خرج عن حقيقته، فالنفس لا تكون مادية و إذا لم تكن مادية كانت مجردة لعدم الواسطة.

جامع‌السعادات ج : 1 ص : 39

و (منها) أن القوى الجسمية الباطنية لا تكتسب العلوم إلا من طريق الحواس الظاهرة إذ ما لم يدرك الشي‌ء بها لم تتمكن الحواس الباطنة أن تدركه و هذا وجداني و ضروري. و النفس قد تدرك ما لا طريق لشي‌ء من الحواس إلى إدراكه كالأمور المجردة و المعاني البسيطة الكلية، و أسباب الاتفاقات و الاختلافات التي بين المحسوسات، و الضرورة العقلية قاضية بأنه لا مدخلية لشي‌ء من الحواس في إدراك شي‌ء من ذلك.
و أيضا نحكم بأنه لا واسطة بين النقيضين، و هذا الحكم غير مأخوذ من مبادئ حسية إذ لو كان مأخوذا منها لم يكن قياسا أوليا، فمثله مأخوذ من المبادئ الشريفة العالية التي تبني عليها القياسات الصحيحة.

و أيضا هي حاكمة على الحس في صدقه و كذبه و قد تخّطئه في أفعاله و تردّ عليه أحكامه كتخطئته للبصر فيما يراه أصغر مما هو عليه في الواقع أو بالعكس، و فيما يراه مستديرا و هو مربع، أو مكسورا و هو صحيح، أو معوجا و هو مستقيم، أو منكوسا و هو منتصب، أو مختلفا في وضعه الواقعي، و في رؤيته للأشياء المتحركة على الاستدارة كالحلقة و الطوق، و كتخطئته للسمع فيما يدركه في المواضع الصقيلة المستديرة عند الصدى، و للذوق في ادراكه الحلو مرا و مثله، كذا الحال في الشم و اللمس، و لا ريب في أن تخطئة النفس الحواس في هذه الإدراكات و حكمها بما هو المطابق للواقع إنما يكون مسبوقا بالعلم الذي لا يكون مأخوذا من الحس، لأن الحاكم على الشي‌ء أعلى رتبة منه فلا يكون علمه الذي هو مناط الحكم مأخوذا عنه.
و مما يؤكد ذلك أنها عالمة بذاتها و بكونها مدركة لمعقولاتها. و معلوم أن هذا العلم مأخوذ من جوهرها دون مبادئ أخر.
و (منها) أنا نشاهد أن البدن و قواه يضعفان في أفعالهما و آثارهما، و النفس تقوى في إدراكاتها و صفاتها، كما في سن الكهولة، أو يكونان

جامع‌السعادات ج : 1 ص : 40

قويين في الأفعال مع كونها ضعيفة فيها كما في سن الشباب، فلو كانت جسما أو جسمانيا لكانت تابعة لهما في الضعف و القوة.
(فإن قلت) الإدراك و سائر الصفات الكمالية للنفس يضعف أو يختل بضعف البدن أو اختلاله كما نشاهد في المشايخ و المرضى و تجردها ينافي ذلك.
(قلنا) الضعف أو الاختلال إنما يحدث في الإدراك و الأفعال المتعلقة بالقوي الجسمية، و أما ما يحصل للنفس بجوهرها أو بواسطة القوى الجسمية بعد صيرورته ملكة لها فلا يحصل فيه اختلال و ضعف، بل يصير ظهوره أشد و تأثيره أقوى.
و أما الثاني أعني بقائها بعد المفارقة عن البدن فالدليل عليه بعد ثبوت تجردها أن المجرد لا يتطرق إليه الفساد لأنه حقيقة و الحقيقة لا تبيد كما صرح به المعلم الأول و غيره، و وجهه ظاهر.

فصل (في بيان تلذذ النفس و تألمها)


إذا عرفت تجرد النفس و بقاءها أبدا، فاعلم أنها ملتذة متنعمة دائما أو معذبة متألمة كذلك. و التذاذها يتوقف على كمالها الذي يخصها، و لما كانت لها قوتان: النظرية و العملية، فكمال القوة النظرية الإحاطة بحقائق الموجودات بمراتبها و الاطلاع على الجزئيات غير المتناهية بإدراك كلياتها. و الترقي منه إلى معرفة المطلوب الحقيقي و غاية الكل حتى يصل إلى مقام التوحيد و يتخلص عن وساوس الشيطان و يطمئن قلبه بنور العرفان. و هذا الكمال هو الحكمة النظرية.
و كمال القوة العملية التخلي عن الصفات الردية و التحلي بالأخلاق المرضية ثم الترقي منه إلى تطهير السر و تخليته عما سوى الله سبحانه. و هذا هو الحكمة

جامع‌السعادات ج : 1 ص : 41
العملية التي يشتمل هذا الكتاب على بيانها.
و كمال القوة النظرية بمنزلة الصورة و كمال القوة العملية بمنزلة المادة، فلا يتم أحدهما بدون الآخر، و من حصل له الكمالان صار بانفراده عالما صغيرا مشابها للعالم الكبير، و هو الإنسان التام الكامل الذي تلألأ قلبه بأنوار الشهود و به تتم دائرة الوجود.


source : دار العرفان /جامع‏السعادات
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

حركة الارض كما في الروايات
أيهما أكثر خوفاً، الرجل أم المرأة؟
المرأة وتحديات المجتمع
مصلحة المرض
القوات البحرينية تفرض حصارا في سترة وتلقي القبض ...
السلطات تضلل الرأي العام بالبحرين وتأمر ...
عيد الفطر تهنئة للأرواح والأجساد
الصيف.. والأمراض الجلدية
العلاقة الزوجية بين الرومانسية والجنس
اقوال الامام الخميني (ره) أهمية و مكانة الشهادة

 
user comment