العقل
و هو أيضا مشترك لمعان مختلفة ذكرناها في كتاب العلم و المتعلّق بغرضنا من جملتها معنيان: أحدهما أنّه قد صار يطلق و يراد به العلم بحقائق الأمور فيكون عبارة عن صفة العلم الّذي محلّه القلب، و الثاني أنّه قد يطلق و يراد به المدرك للعلوم فيكون هو القلب أعني تلك اللّطيفة، و نحن نعلم أنّ كلّ عالم فله في نفسه وجود هو أصل قائم بنفسه، و العلم صفة حالّة فيه، و الصّفة غير الموصوف، و العقل قد يطلق و يراد به صفة العالم، و قد يطلق و يراد به محلّ الإدراك، أعني المدرك و هو المرادبقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:«أوّل ما خلق اللّه العقل«»»
فإنّ العلم عرض لا يتصوّر أن يكون أوّل مخلوق بل لا بدّ أن يكون المحلّ مخلوقا قبله أو معه و لأنّه لا يمكن الخطاب معه. وفي الخبر أنّه«قال له: أقبل فأقبل، و قال له: أدبر
المحجةالبيضاء ج : 6 ص : 8
فأدبر - الحديث -»«»
فإذن قد انكشف لك أنّ معاني هذه الأسامي موجودة و هو القلب الجسماني، و الرّوح الجسماني، و النّفس الشّهوانيّة، و العقل العلميّ و هذه أربعة معان يطلق عليها الألفاظ الأربعة، و معنى خامس و هي اللّطيفة العالمة المدركة من الإنسان و الألفاظ الأربعة بجملتها تتوارد عليها، فالمعاني خمسة و الألفاظ أربعة، و كلّ لفظ أطلق لمعنيين و أكثر العلماء قد التبس عليهم اختلاف هذه الألفاظ و تواردها، فتراهم يتكلّمون في الخواطر و يقولون: هذا خاطر العقل، و هذا خاطر الرّوح، و هذا خاطر النّفس، و هذا خاطر القلب، و ليس يدري النّاظر اختلاف معاني هذه الأسماء، فلأجل كشف الغطاء عن ذلك قدّمنا شرح هذه الأسامي، و حيث ورد في القرآن و السنّة لفظ القلب فالمراد به المعنى الّذي يفقه من الإنسان و يعرف حقيقة الأشياء و قد يكنّى عنه بالقلب الّذي في الصّدر لأنّ بين تلك اللّطيفة و بين جسم القلب علاقة خاصّة، فإنّها و إن كانت متعلّقة بسائر البدن و مستعملة له و لكنّها يتعلّق به بواسطة القلب فتعلّقها الأوّل بالقلب فكأنّه محلّها و مملكتها و عالمها و مطيّتها، و لذلك شبّه سهل التستري القلب بالعرش و الصدر بالكرسيّ فقال: القلب هو العرش و الصّدر هو الكرسيّ و لا يظنّ به أنّه يريد عرش اللّه سبحانه و كرسيّه فإنّ ذلك محال بل أراد به أنّه مملكته و المجرى الأوّل لتدبيره و تصرّفه، فهما بالنسبة إليه كالعرش و الكرسيّ بالنّسبة إلى اللّه تعالى، فلا يستقيم هذا التشبيه أيضا إلا من بعض الوجوه و شرح ذلك لا يليق بغرضنا فلنتجاوزه.
بيان جنود القلب
قال اللّه تعالى:و ما يعلم جنود ربّك إلا هو 74: 31«»فللّه سبحانه في القلوب و الأرواح و غيرها من العوالم جنود مجنّدة لا يعرف حقيقتها و تفصيل عددها إلا هو، و نحن الآن نشير إلى بعض جنود القلب و هو الّذي يتعلّق بغرضنا، و له جندان
المحجةالبيضاء ج : 6 ص : 9
جند يرى بالأبصار و جند لا يرى إلا بالبصائر و هو في حكم الملك و الجنود في حكم الخدم و الأعوان، و هذا هو معنى الجند فأمّا جنده المشاهد بالعين فهي اليد و الرّجل و العين و الاذن و اللّسان و سائر الأعضاء الظّاهرة و الباطنة، فإنّ جميعها خادمة للقلب و مسخّرة له و هو المتصرّف فيها و المردّد لها، و قد خلقت مجبولة على طاعة القلب، لا تستطيع له خلافا و لا عليه تمرّدا، فإذا أمر العين بالانفتاح انفتحت، و إذا أمر الرّجل بالحركة تحرّكت، و إذا أمر اللّسان بالكلام و جزم الحكم به تكلّم، و كذا سائر الأعضاء، و تسخير الأعضاء و الحواسّ للقلب يشبه من وجه تسخير الملائكة للّه تعالى، فإنّهم جبلوا على الطّاعة، لا يستطيعون له خلافا بل«لا يعصون اللّه ما أمرهم و يفعلون ما يؤمرون»
و إنّما يفترقان في شيء و هو أنّ الملائكة عالمة بطاعتها و امتثالها لربّها و الأجفان تطيع القلب في الانفتاح و الانطباق على سبيل التسخير و لا خير لها من نفسها و لا من طاعتها للقلب، و إنّما افتقر القلب إلى هذه الجنود من حيث افتقاره إلى المركب و الزّاد لسفره الّذي لأجله خلق، و هو السّفر إلى اللّه تعالى و قطع المنازل إلى لقائه، فلأجله خلقت القلوب قال اللّه تعالى:و ما خلقت الجنّ و الإنس إلا ليعبدون 51: 56«»و إنّما مركبه البدن و إنّما زاده العلم و إنّما الأسباب الّتي توصله إلى الزّاد و تمكنه من التزوّد منه العمل الصالح، و ليس يمكن أن يصل القلب إلى اللّه تعالى ما لم يسكن البدن بالموت و لم يجاوز الدّنيا فإنّ المنزل الأدنى لا بدّ من قطعه للوصول إلى المنزل الأقصى، و الدّنيا مزرعة الآخرة و هي منزل من منازل الهدى، و إنّما سمّيت الدّنيا لأنّها أدنى المنزلتين فاضطرّ الإنسان إلى أن يتزوّد من هذا العالم، و البدن مركبه الّذي يصل به إلى هذا العالم، فافتقر إلى تعهّد البدن و حفظه، و إنّما يتحفّظ البدن بأن يجلب إليه ما يوافقه من الغذاء و غيره، و بأن يدفع عنه ما ينافيه و يهلكه أو يمكنه من أسباب الهلاك، فافتقر لأجل جلب الغذاء إلى جندين: باطن و هو الشهوة و ظاهر و هو اليد و الأعضاء الجاذبة للغذاء فخلق في القلب من الشّهوات ما احتاج إليه، و خلقت له الأعضاء الّتي هي آلات
المحجةالبيضاء ج : 6 ص : 10
الشهوة، و افتقر لأجل دفع المهلكات إلى جندين: باطن و هو الغضب الّذي به يدفع المهلكات و ينتقم من الأعداء، و ظاهر و هو اليد و الرّجل الّذي به يعمل بمقتضى الغضب، و كلّ ذلك بامور خارجة عن البدن كالأسلحة و غيرها، ثمّ المحتاج إلى الغذاء إذا لم يعرف الغذاء لا تنفعه شهوة الغذاء و آلته فافتقر للمعرفة إلى جندين:
باطن و هو إدراك البصر و الذّوق و الشمّ و السّمع و اللّمس، و ظاهر و هو العين و الاذن و الأنف و غيرها و تفصيل وجه الحاجة إليها و وجه الحكمة فيها يطول ذكره و لا يحويه مجلّدات كثيرة، و قد أشرنا إلى طرف يسير منها في كتاب الشّكر فليقنع به.
فجملة جنود القلب يحصرها ثلاثة أصناف: صنف باعث و مستحثّ إمّا إلى جلب الموافق النافع كالشهوة، و إمّا إلى دفع الضارّ المنافي كالغضب، و قد يعبّر عن هذا الباعث بالإرادة، و الثاني هو المحرّك للأعضاء إلى تحصيل هذه المقاصد، و يعبّر عن هذا الثاني بالقدرة و هي جنود مبثوثة في سائر الأعضاء لا سيّما العضلات منها و الأوتار، و الثالث هو المدرك المتعرّف للأشياء كالجواسيس و هي قوّة البصر و السّمع و الشمّ و الذّوق و غيرها، و هي مبثوثة في أعضاء معيّنة، و يعبّر عن هذا بالعلم و الإدراك، و مع كلّ واحد من هذه الجنود الباطنة جنود ظاهرة و هي الأعضاء المركّبة من اللّحم و الشحم و العصب و الدّم و العظم الّتي اعدّت آلات لهذه الجنود، فإنّ قوّة البطش إنّما تبطش بالأصابع، و قوّة البصر إنّما تدرك الشّيء بالعين، و كذا سائر القوى.
و لسنا نتكلّم في الجنود الظّاهرة أعني الأعضاء فإنّها من عالم الملك و الشهادة و إنّما نتكلّم الآن فيما أيّدت به من جنود لم تروها، و هذا الصّنف الثالث و هو المدرك من هذه الجملة ينقسم إلى ما قد أسكن المنازل الظاهرة و هي الحواسّ الخمس أعني السّمع و البصر و الشّمّ و الذّوق و اللّمس و إلى ما أسكن المنازل الباطنة و هي تجاويف الدّماغ و هي أيضا خمسة، فإنّ الإنسان بعد رؤية الشيء يغمض عينيه فيدرك صورته في نفسه و هو الخيال ثمّ يبقى تلك الصورة معه بسبب شيء يحفظه و هو الجند الحافظ ثمّ يتفكّر فيما حفظه فيركّب بعض ذلك إلى بعض ثمّ يتذكّر ما نسيه و يعود إليه ثمّ يجمع جملة معاني المحسوسات في خياله بالحسّ المشترك بين المحسوسات، ففي
المحجةالبيضاء ج : 6 ص : 11
الباطن حسّ مشترك و تخيّل و تفكّر و تذكّر و حفظ و لولا خلق اللّه قوّة الحفظ و الفكر و الذّكر و التخيّل لكان يخلو الدّماغ عنه كما يخلو عنه اليد و الرّجل، فتلك القوى أيضا جنود باطنة و أماكنها أيضا باطنة فهذه هي أقسام جنود القلب و شرح ذلك بحيث يدركه فهم الضّعفاء يطول، و مقصود مثل هذا الكتاب أن ينتفع به الأقوياء و الفحول من العلماء و لكنّا نجتهد في تفهيم الضّعفاء بضرب من الأمثلة ليقرب ذلك من أفهامهم إن شاء اللّه.
source : دار العرفان / المحجة البیضاء