كان الإمام بعد أبي جعفر محمد بن علي الجواد (عليه السلام) ابنه أبا الحسن علي ابن محمد الهادي (عليه السلام)، لاجتماع خصال الإمامة فيه، وتكامل فضله، وأنه لا وارث لمقام أبيه سواه، وثبوت النص عليه بالإمامة، والإشارة إليه من أبيه بالخلافة. وفيما يلي بعض الروايات الناصة عليه بالإمامة:
عن إسماعيل بن مهران، قال: لما أخرج أبو جعفر (عليه السلام) من المدينة إلى بغداد في الدفعة الأولى من خرجته، قلت له عند خروجه: جعلت فداك، إني أخاف عليك من هذا الوجه، فإلى من الأمر بعدك؟ قال: فكر بوجهه إلي ضاحكا، وقال: ليس حيث ظننت في هذه السنة. فلما استدعي به إلى المعتصم في المرة الثانية صرت إليه، فقلت له: جعلت فداك، أنت خارج، فإلى من هذا الأمر من بعدك؟ فبكى حتى اخضلت لحيته، ثم التفت إلي فقال: عند هذه يخاف علي، الأمر من بعدي إلى ابني علي (1).
وعن الخيراني، عن أبيه، أنه قال: كنت ألزم باب أبي جعفر (عليه السلام) للخدمة التي وكلت بها، وكان أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري يجئ في السحر من آخر كل ليلة ليتعرف خبر علة أبي جعفر (عليه السلام)، وكان الرسول الذي يختلف بين أبي جعفر وبين الخيراني إذا حضر قام أحمد الأشعري وخلا به. قال الخيراني: فخرج ذات ليلة، وقام أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري عن المجلس، وخلا بي الرسول، واستدار أحمد فوقف حيث يسمع الكلام، فقال الرسول: إن مولاك يقرأ عليك السلام، ويقول لك: إني ماض، والأمر صائر إلى ابني علي، وله عليكم بعدي ما كان لي عليكم بعد أبي. ثم مضى الرسول ورجع أحمد إلى موضعه، فقال لي: ما الذي قال لك؟ قلت: خيرا، قال: قد سمعت ما قال، وأعاد علي ما سمع، فقلت له: قد حرم الله عليك ما فعلت، لأن الله تعالى يقول: *(ولا تجسسوا)*(2) ، فإذا سمعت فاحفظ الشهادة لعلنا نحتاج إليها يوما ما، وإياك أن تظهرها إلى وقتها. قال: وأصبحت وكتبت نسخة الرسالة في عشر رقاع، وختمتها ودفعتها إلى عشرة من وجوه أصحابنا، وقلت: إن حدث بي حدث الموت قبل أن أطالبكم بها فافتحوها واعملوا بما فيها.
فلما مضى أبو جعفر (عليه السلام) لم أخرج من منزلي حتى عرفت أن رؤساء العصابة قد اجتمعوا عند محمد بن الفرج (هو محمد بن الفرج الرخجي، من أصحاب الرضا والجواد والهادي عليهم السلام)، يتفاوضون في الأمر، وكتب إلي محمد بن الفرج يعلمني باجتماعهم عنده ويقول: لولا مخافة الشهرة لصرت معهم إليك، فأحب أن تركب إلي. فركبت وصرت إليه، فوجدت القوم مجتمعين عنده، فتجارينا في الباب (يطلق الباب على صاحب السر الذي يتوصل إلى الإمام به)، فوجدت أكثرهم قد شكوا، فقلت لمن عنده الرقاع - وهم حضور - أخرجوا تلك الرقاع، فأخرجوها، فقلت لهم: هذا ما أمرت به. فقال بعضهم: قد كنا نحب أن يكون معك في هذا الأمر آخر ليتأكد القول. فقلت لهم: قد أتاكم الله بما تحبون، هذا أبو جعفر الأشعري يشهد لي بسماع هذه الرسالة فاسألوه، فسأله القوم، فتوقف عن الشهادة، فدعوته إلى المباهلة، فخاف منها، وقال: قد سمعت ذلك، وهي مكرمة كنت أحب أن تكون لرجل من العرب، فأما مع المباهلة فلا طريق إلى كتمان الشهادة، فلم يبرح القوم حتى اعترفوا بإمامة أبي الحسن وزال عنهم الريب في ذلك (3).
وعن الصقر بن دلف، قال: سمعت أبا جعفر محمد بن علي الرضا (عليه السلام) يقول: إن الإمام بعدي ابني علي، أمره أمري، وقوله قولي، وطاعته طاعتي، والإمامة بعده في ابنه الحسن (4).
وروى الحميري، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن أبيه: أن أبا جعفر (عليه السلام) لما أراد الخروج من المدينة إلى العراق ومعاودتها، أجلس أبا الحسن (عليه السلام) في حجره بعد النص عليه، وقال له: ما الذي تحب أن أهدي إليك من طرائف العراق؟ فقال (عليه السلام): سيفا كأنه شعلة نار، ثم التفت إلى موسى ابنه وقال له: ما تحب أنت؟ فقال: فرسا. فقال (عليه السلام): أشبهني أبو الحسن، وأشبه هذا أمه.
وعن أحمد بن هلال، عن أمية بن علي القيسي، قال: قلت لأبي جعفر الثاني (عليه السلام): من الخلف من بعدك؟ قال: ابني علي.
وعنه، قال: أخبرني محمد بن إسماعيل بن بزيع أنه حضر أمية بن علي وهو يسأل أبا جعفر الثاني (عليه السلام) عن ذلك فأجاب بمثل ذلك الجواب (5). والأخبار في هذا الباب كثيرة جدا إن عملنا على إثباتها جميعا طال بها الكتاب، وفي إجماع العصابة على إمامة أبي الحسن (عليه السلام)، وعدم من يدعيها سواه في وقته ممن يلتبس الأمر فيه غنى عن إيراد الأخبار بالنصوص على التفصيل.
قال ابن شهرآشوب: رواة النص على إمامة أبي الحسن علي بن محمد النقي (عليه السلام) جماعة، منهم: إسماعيل بن مهران، وأبو جعفر الأشعري، والخيراني، والدليل على إمامته إجماع الإمامية على ذلك وطريق النصوص والعصمة، والطريقان المختلفان من العامة والخاصة من نص النبي (صلى الله عليه وآله) على إمامة الاثني عشر، وطريق الشيعة النصوص على إمامته (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) (6).
النص على الإمام من بعده (عليه السلام):
كان الإمام بعد أبي الحسن علي بن محمد الهادي (عليه السلام) ابنه أبا محمد الحسن بن علي العسكري (عليه السلام) لاجتماع خلال الفضل فيه، وتقدمه على كافة أهل عصره فيما يوجب له الإمامة، ويقتضي له الرئاسة من العلم والزهد وكمال العقل والعصمة والشجاعة والكرم وكثرة الأعمال المقربة إلى الله، ثم لنص أبيه (عليه السلام) عليه، وإشارته بالخلافة إليه، وفيما يلي طرف من الأخبار الواردة بالنص عليه من أبيه (عليه السلام) والإشارة إليه بالإمامة من بعده:
عن يحيى بن يسار القنبري، قال: أوصى أبو الحسن علي بن محمد [الهادي] إلى ابنه الحسن (عليه السلام) قبل مضيه بأربعة أشهر، وأشار إليه بالأمر من بعده، وأشهدني على ذلك وجماعة من الموالي (7).
عن علي بن عمرو النوفلي، قال: كنت مع أبي الحسن (عليه السلام) في صحن داره، فمر بنا محمد ابنه الخلف، فقلت: جعلت فداك، هذا صاحبنا بعدك؟ فقال: لا، صاحبكم بعدي الحسن.
عن عبد الله بن محمد الأصبهاني، قال: قال أبو الحسن (عليه السلام): صاحبكم بعدي الذي يصلي علي، قال: ولم نكن نعرف أبا محمد قبل ذلك، قال: فخرج أبو محمد بعد وفاته (عليه السلام) فصلى عليه.
عند مضي أبي جعفر محمد بن علي (عليه السلام)، فجاء أبو الحسن (عليه السلام) فوضع له كرسي فجلس عليه، وحوله أهل بيته، وأبو محمد ابنه قائم في ناحية، فلما فرغ من أمر أبي جعفر التفت إلى أبي محمد (عليه السلام)، فقال: يا بني، أحدث لله شكرا، فقد أحدث فيك أمرا.
وعن علي بن مهزيار، قال: قلت لأبي الحسن (عليه السلام): إن كان كون - وأعوذ بالله - فإلى من؟ قال: عهدي إلى الأكبر من ولدي، يعني الحسن (عليه السلام).
عن علي بن عمرو العطار، قال: دخلت على أبي الحسن (عليه السلام) وابنه أبو جعفر يحيا ، وأنا أظن أنه هو الخلف من بعده، فقلت له: جعلت فداك، من أخص من ولدك؟ فقال: لا تخصوا أحدا حتى يخرج إليكم أمري. قال: فكتبت إليه بعد: في من يكون هذا الأمر؟ قال: فكتب إلي: في الأكبر من ولدي. قال: وكان أبو محمد (عليه السلام) أكبر من جعفر (8).
وعن سعد بن عبد الله، عن جماعة من بني هاشم منهم الحسن بن الحسين الأفطس ، أنهم حضروا يوم توفي محمد بن علي بن محمد (عليه السلام) دار أبي الحسن (عليه السلام) وقد بسط له في صحن داره، والناس جلوس حوله، فقالوا: قدرنا أن يكون حوله من آل أبي طالب وبني العباس وقريش مائة وخمسون رجلا سوى مواليه وسائر الناس، إذ نظر إلى الحسن بن علي (عليه السلام) وقد جاء مشقوق الجيب حتى قام عن يمينه، ونحن لا نعرفه، فنظر إليه أبو الحسن (عليه السلام) بعد ساعة من قيامه، ثم قال له: يا بني، أحدث لله شكرا، فقد أحدث فيك أمرا. فبكى الحسن (عليه السلام) واسترجع، فقال: الحمد لله رب العالمين، وإياه أسأل تمام نعمه علينا، إنا لله وإنا إليه راجعون. فسألناه عنه، فقيل لنا: هذا الحسن ابنه، فقدرنا له في ذلك الوقت عشرين سنة ونحوها، فيومئذ عرفناه وعلمنا أنه قد أشار إليه بالإمامة، وأقامه مقامه.
وعن محمد بن يحيى، قال: دخلت على أبي الحسن (عليه السلام) بعد مضي أبي جعفر ابنه، فعزيته عنه، وأبو محمد جالس، فبكى أبو محمد، فأقبل عليه أبو الحسن (عليه السلام)، فقال: إن الله تعالى قد جعل فيك خلفا منه، فأحمد الله عز وجل (9).
وعن أبي هاشم الجعفري، قال: كنت عند أبي الحسن (عليه السلام) بعدما مضى ابنه أبو جعفر، وإني لأفكر في نفسي، أريد أن أقول: كأنهما - أعني أبا جعفر وأبا محمد - في هذا الوقت كأبي الحسن موسى وإسماعيل ابني جعفر بن محمد (عليه السلام)، وإن قصتهما كقصتهما، فأقبل علي أبو الحسن قبل أن أنطق، فقال: نعم يا أبا هاشم، بدا لله في أبي محمد بعد أبي جعفر ما لم يكن يعرف له، كما بدا له في موسى بعد مضي إسماعيل ما كشف به عن حاله، وهو كما حدثتك نفسك وإن كره المبطلون، أبو محمد ابني الخلف من بعدي، عنده علم ما يحتاج إليه، ومعه آلة الإمامة.
وعن شاهويه بن عبد الله، قال: كتب إلي أبو الحسن (عليه السلام) في كتاب: أردت أن تسأل عن الخلف بعد أبي جعفر وقلقت لذلك، فلا تقلق فإن الله لا يضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون، صاحبك أبو محمد ابني، وعنده ما تحتاجون إليه، يقدم الله ما يشاء ويؤخر ما يشاء *(ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها)*
وعن داود بن القاسم الجعفري، قال: سمعت أبا الحسن (عليه السلام) يقول: الخلف من بعدي الحسن، فكيف لكم بالخلف من بعد الخلف؟ فقلت: ولم جعلني الله فداك؟ فقال: إنكم لا ترون شخصه، ولا يحل لكم ذكره باسمه، فقلت: فكيف نذكره؟ فقال: قولوا: الحجة من آل محمد (عليه السلام وعليهم).
وعن السيد عبد العظيم الحسني قال: دخلت على سيدي علي بن محمد (عليه السلام)، فلما بصرني قال لي: مرحبا بك يا أبا القاسم أنت ولينا حقا. قال: فقلت له: يا بن رسول الله (صلى الله عليه وآله) إني أريد أن أعرض عليك ديني، فإن كان مرضيا ثبت عليه حتى ألقى الله عز وجل. فقال: هات يا أبا القاسم. فقلت: إني أقول: إن الله تبارك وتعالى واحد ليس كمثله شيء، خارج من الحدين: حد الإبطال، وحد التشبيه، وإنه ليس بجسم ولا صورة ولا عرض ولا جوهر، بل هو مجسم الأجسام، ومصور الصور، وخالق الأعراض والجواهر، ورب كل شيء ومالكه وجاعله ومحدثه، وأن محمدا عبده ورسوله، خاتم النبيين لا نبي بعده إلى يوم القيامة، وأن شريعته خاتمة الشرائع، ولا شريعة بعدها إلى يوم القيامة. وأقول: إن الإمام والخليفة وولي الأمر بعده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ثم الحسن، ثم الحسين، ثم علي بن الحسين، ثم محمد بن علي، ثم جعفر بن محمد، ثم موسى بن جعفر، ثم علي بن موسى، ثم محمد بن علي، ثم أنت يا مولاي. فقال (عليه السلام): ومن بعدي الحسن ابني، فكيف للناس بالخلف من بعده؟
قال: فقلت: وكيف ذلك يا مولاي؟ قال: لأنه لا يرى شخصه، ولا يحل ذكره باسمه حتى يخرج، فيملأ الأرض قسطا وعدلا، كما ملئت جورا وظلما. قال: فقلت: أقررت (10)... الحديث.
وعن شاهويه، عن عبد الله بن سليمان الخلال، قال: كنت رويت عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) في أبي جعفر (عليه السلام) روايات تدل عليه، فلما مضى أبو جعفر (عليه السلام) قلقت لذلك وبقيت متحيرا لا أتقدم ولا أتأخر، وخفت أن أكتب إليه في ذلك، ولا أدري ما يكون. وكتبت إليه أسأله الدعاء أن يفرج الله عنا في أسباب من قبل السلطان، كنا نغتم بها من غلماننا، فرجع الجواب بالدعاء ورد علينا الغلمان، وكتب في آخر الكتاب: أردت أن تسأل عن الخلف بعد مضي أبي جعفر (عليه السلام)، فقلقت لذلك، *(وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون)*. صاحبك بعدي أبو محمد ابني، عنده ما تحتاجون إليه، يقدم الله ما يشاء ويؤخر *(ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها)*( ، قد كتبت بما فيه بيان وإقناع لذي عقل يقظان (11).
وعن محمد بن يحيى، عن أبي بكر الفهفكي، قال: كتب إلي أبو الحسن (عليه السلام): أبو محمد ابني أصح آل محمد غريزة، وأوثقهم حجة، وهو الأكبر من ولدي، وهو الخلف، وإليه تنتهي عرى الإمامة وأحكامها، وما كنت سائلي عنه فسله عنه، فعنده ما تحتاج إليه، ومعه آلة الإمامة.
وعن الصقر بن دلف، قال: سمعت علي بن محمد بن علي الرضا (عليه السلام) يقول: الإمام بعدي الحسن، وبعد الحسن ابنه القائم، الذي يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما.
وعن أحمد بن عيسى العلوي من ولد علي بن جعفر، قال: دخلت على أبي الحسن (عليه السلام) بصريا، فسلمنا عليه، فإذا نحن بأبي جعفر وأبي محمد قد دخلا، فقمنا إلى أبي جعفر لنسلم عليه، فقال أبو الحسن (عليه السلام): ليس هذا صاحبكم، عليكم بصاحبكم، وأشار إلى أبي محمد (عليه السلام).
وعن علي بن محمد بن أحمد النهدي، عن يحيى بن يسار القنبري، قال: أوصى أبو الحسن (عليه السلام) إلى ابنه الحسن (عليه السلام) قبل مضيه بأربعة أشهر، وأشار إليه بالأمر من بعده، وأشهدني على ذلك وجماعة من الموالي (12).
فضائله (عليه السلام) ومكارم أخلاقه
إن لأئمة أهل البيت (عليهم السلام) بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) مكانة لا يرقى إليها أي مخلوق عند شيعتهم ومواليهم، لأنهم الامتداد الطبيعي المباشر لجدهم الكريم الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)، والأمناء على تبليغ رسالة السماء إلى البشرية والإنسانية كافة، وهم المتميزون على غيرهم علما ودراية وفقها وتقى وأخلاقا وحكمة، وهم الرواد لكل فضيلة، والرائد لا يكذب أهله، وقد ورثوا العلم والمكارم والصفات الحميدة كابرا عن كابر. والإمام علي بن محمد الهادي (عليه السلام) فرع من تلك الشجرة الطاهرة والدوحة العظيمة، ولا تمييز بين أحد منهم، ولقد أتي الإمام (عليه السلام) كما أوتي آباؤه الطاهرون من المكارم ما لم يؤت أحدا من العالمين بعد الأنبياء والمرسلين، وأنى لي وصف هذه المشكاة العظيمة والنور الباهر الذي يتحلون به. وهذه شذرات مما دبجته يراعات الأعاظم من العلماء في فضائله ومكارم أخلاقه. قال الشيخ المفيد (رحمه الله): كان الإمام بعد أبي جعفر (عليه السلام) ابنه أبا الحسن علي ابن محمد (عليه السلام)، لاجتماع خصال الإمامة فيه، وتكامل فضله، وثبوت النص عليه بالإمامة. وقال القطب الراوندي: وأما علي بن محمد الهادي (عليه السلام)، فقد اجتمعت فيه خصال الإمامة، وتكامل فضله وعلمه وخصاله الخيرة، وكانت أخلاقه كلها خارقة للعادة كأخلاق آبائه (عليهم السلام). وقال ابن حجر الهيتمي: كان - علي العسكري - وارث أبيه علما وسخاء. وقال ابن شهرآشوب: كان الإمام - أبو الحسن الهادي (عليه السلام) - أطيب الناس بهجة، وأصدقهم لهجة، وأملحهم من قريب، وأكملهم من بعيد، إذا صمت علته هيبة الوقار، وإذا تكلم سماه البهاء، وهو من بيت الرسالة والإمامة، ومقر الوصية والخلافة، شعبة من دوحة النبوة منتضاة مرتضاة، وثمرة من شجرة الرسالة مجتناة مجتباة. وفيما يلي نورد نبذة من فضائله وخصائصه التي ورثها عن آبائه المعصومين (عليهم السلام)، فتميز بها عن أهل زمانه. نبوغه المبكر: تميز الإمام الهادي (عليه السلام) ومنذ طفولته المبكرة بنبوغ مذهل وذكاء حاد، وهو في ذلك لا يختلف عن باقي أسلافه الكرام الأئمة المعصومين من آل البيت (عليهم السلام)،اولكنه تميز بذلك لأنه أسند إليه منصب الإمامة بعد شهادة أبيه (عليهم السلام) وهو في سن الثامنة من عمره الشريف، وهذا من أوضح الكرامات والمعجزات التي اختص بها الأئمة من عترة المصطفى (عليهم السلام)، ولا تفسير لهذه الظاهرة إلا القول بما تذهب إليه الشيعة من أن الله تعالى قد أمد أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بالعلم والحكمة وآتاهم من الفضل ما لم يؤت أحدا من العالمين من غير فرق بين الصغير والكبير منهم. وقد ذكر الرواة بوادر كثيرة من ذكائه، كان منها أن المعتصم بعدما اغتال الإمام الجواد (عليه السلام) عهد إلى عمر بن الفرج أن يشخص إلى يثرب ليختار معلما لأبي الحسن الهادي البالغ من العمر آنذاك نحو ثمان سنين على أكثر تقدير وقيل: ست سنين وأشهرا، وقد عهد إليه أن يكون المعلم معروفا بالنصب والانحراف عن أهل البيت (عليهم السلام)، ليغذيه ببغضهم. روى المسعودي بإسناده عن الحميري، عن محمد بن سعيد مولى لولد جعفر ابن محمد، قال: قدم عمر بن الفرج الرخجي المدينة حاجا بعد مضي أبي جعفر الجواد (عليه السلام)، فأحضر جماعة من أهل المدينة والمخالفين المعادين لأهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقال لهم: ابغوا لي رجلا من أهل الأدب والقرآن والعلم، لا يوالي أهل هذا البيت، لأضمه إلى هذا الغلام وأوكله بتعليمه، وأتقدم إليه بأن يمنع منه الرافضة الذين يقصدونه. فأسموا له رجلا من أهل الأدب يكنى أبا عبد الله، ويعرف بالجنيدي، وكان متقدما عند أهل المدينة في الأدب والفهم، ظاهر الغضب والعداوة. فأحضره عمر بن الفرج وأسنى له الجاري من مال السلطان، وتقدم إليه بما أراد، وعرفه أن السلطان أمره باختيار مثله وتوكيله بهذا الغلام. قال: فكان الجنيدي يلزم أبا الحسن (عليه السلام) في القصر بصريا، فإذا كان الليل أغلق الباب وأقفله، وأخذ المفاتيح إليه، فمكث على هذا مدة، وانقطعت الشيعة عنه وعن الاستماع منه والقراءة عليه، ثم إني لقيته في يوم جمعة، فسلمت عليه، وقلت له: ما حال هذا الغلام الهاشمي الذي تؤدبه؟ فقال منكرا علي: تقول الغلام، ولا تقول الشيخ الهاشمي! أنشدك الله هل تعلم بالمدينة أعلم مني؟ قلت: لا. قال: فإني والله أذكر له الحزب من الأدب، أظن أني قد بالغت فيه، فيملي علي بما فيه أستفيده منه، ويظن الناس أني أعلمه وأنا والله أتعلم منه. قال: فتجاوزت عن كلامه هذا كأني ما سمعته منه. ثم لقيته بعد ذلك، فسلمت عليه، وسألته عن خبره وحاله، ثم قلت: ما حال الفتى الهاشمي؟ فقال لي: دع هذا القول عنك، هذا والله خير أهل الأرض، وأفضل من خلق الله تعالى، وإنه لربما هم بالدخول فأقول له: تنظر حتى تقرأ عشرك. فيقول لي: أي السور تحب أن أقرأها؟ وأنا أذكر له من السور الطوال ما لم يبلغ إليه، فيهذها بقراءة لم أسمع أصح منها من أحد قط، بأطيب من مزامير داود النبي التي بها من قراءته يضرب المثل. قال: ثم قال: هذا مات أبوه بالعراق، وهو صغير بالمدينة، ونشأ بين هذه الجواري السود، فمن أين علم هذا؟ قال: ثم ما مرت به الأيام والليالي حتى لقيته فوجدته قد قال بإمامته وعرف الحق وقال به، وفي سبع سنين من إمامته (عليه السلام) مات المعتصم في سنة 227 هولأبي الحسن (عليه السلام) أربع عشرة سنة (13).
وهذا الحديث وغيره يدل على العلم الحضوري والنور الجلي والسر الخفي الذي حباه رب العالمين للأئمة الهداة من عترة المصطفى (عليه السلام). روى الصفار بالإسناد عن علي بن محمد النوفلي، قال: سمعت أبا الحسن العسكري (عليه السلام) يقول: اسم الله الأعظم ثلاثة وسبعون حرفا، وإنما كان عند آصف حرف واحد، فتكلم به فانخرقت له الأرض فيما بينه وبين سبأ، فتناول عرش بلقيس حتى صيره إلى سليمان، ثم انبسطت له الأرض في أقل من طرفة عين، وعندنا منه اثنان وسبعون حرفا، وحرف واحد عند الله تعالى مستأثر به في علم الغيب. علمه (عليه السلام): لقد ذكر المؤرخون وأرباب السير الإمام الهادي (عليه السلام) بوصفه علما بارزا من أعلام عصره في العلم والمعرفة والتقوى والعبادة والوجاهة والقيادة والريادة. ولقد تسالم العلماء والفقهاء على الرجوع إلى رأيه المشرق في المسائل المعقدة والغامضة من أحكام الشريعة الإسلامية ومسائل العقائد المختلفة، حتى إن المتوكل العباسي وهو ألد أعدائه كان يرجع إلى رأي الإمام (عليه السلام) في المسائل التي اختلف فيها علماء عصره، مقدما رأيه (عليه السلام) على آرائهم، ولذلك شواهد كثيرة سنذكر منها الكثير في بحوثه العقائدية وفي مناظراته وأجوبته، وهي جميعا تدل على أنه (عليه السلام) كان أعلم أهل عصره. وكان له (عليه السلام) دور كبير وتأثير معروف في إغناء المدرسة الإسلامية التي قاد أهل البيت (عليهم السلام) حركتها، وغذوها بروح الشريعة الغراء، وسنة المصطفى السمحاء، فقد عد الشيخ الطوسي في كتابه (الرجال) نحو 185 تلميذا وراويا أخذوا عنه العلم ورووا الحديث أو كاتبوه فأجابهم عن مسائلهم، وكان (عليه السلام) مرجع أهل العلم والفقه وأحكام الشريعة وقضايا الدين في عصره، وحفلت كتب الرواية والحديث والفقه والعقيدة والمناظرة والتفسير وأمثالها عند الإمامية بما أثر عنه واستفيد من علومه ومعارفه، وكتاب مسند الإمام الهادي (عليه السلام) الذي جمعه الشيخ عزيز الله العطاردي بصفحاته الأربعمئة خير شاهد على ما نقول. وكان بين أصحابه (عليه السلام) مؤلفون أغنوا المدرسة الإسلامية، منهم: أحمد بن إسحاق بن عبد الله بن سعد بن الأحوص الأشعري، والحسين بن سعيد بن حماد الأهوازي، وداود بن أبي زيد النيشابوري، وعلي بن مهزيار الأهوازي، والفضل ابن شاذان وغيرهم ممن سيأتي ذكرهم في أصحابه (عليه السلام). وفيما يلي نورد بعض الروايات الدالة على غزارة علمه الذي لا يحد وفقهه الذي لا يجارى:
كان المتوكل نذر أن يتصدق بمال كثير إن عافاه الله من علته، فلما عوفي سأل العلماء عن حد المال الكثير، فاختلفوا ولم يصيبوا المعنى، فسأل أبا الحسن (عليه السلام) عن ذلك، فقال (عليه السلام): يتصدق بثمانين درهما. فسئل عن علة ذلك، فقال: إن الله قال لنبيه (صلى الله عليه وآله): *(لقد نصركم الله في مواطن كثيرة)* ، فعددنا مواطن رسول الله (صلى الله عليه وآله) فبلغت ثمانين موطنا، وسماها الله كثيرة،فسر المتوكل بذلك وتصدق بثمانين درهما (14).
وفي شرح شافية أبي فراس، قال: ومما نقل أن قيصر ملك الروم كتب إلى خليفة من خلفاء بني العباس كتابا يذكر فيه: إنا وجدنا في الإنجيل أنه من قرأ سورة خالية من سبعة أحرف حرم الله تعالى جسده على النار ، وهي: الثاء والجيم والخاء والزاي والشين والظاء والفاء، فإنا طلبنا هذه السورة في التوراة فلم نجدها، وطلبناها في الزبور فلم نجدها، فهل تجدونها في كتبكم؟ فجمع العلماء وسألهم في ذلك، فلم يجب منهم أحد عن ذلك إلا النقي علي ابن محمد بن الرضا (عليه السلام)، فقال: إنها سورة الحمد، فإنها خالية من هذه السبعة أحرف. فقيل: الحكمة في ذلك أن الثاء من الثبور، والجيم من الجحيم، والخاء من الخيبة، والزاي من الزقوم، والشين من الشقاوة، والظاء من الظلمة، والفاء من الفرقة، أو من الآفة. فلما وصل إلى قيصر وقرأه فرح بذلك فرحا شديدا، وأسلم لوقته، ومات على الإسلام،(15)
مؤلفاته (عليه السلام):
1 - رسالته (عليه السلام) في الرد على أهل الجبر والتفويض وإثبات العدل والمنزلة بين المنزلتين، أوردها بتمامها الحسن بن علي بن شعبة الحراني في تحف العقول، سوف نأتي على ذكرها في بحوثه العقائدية والكلامية.
2 - أجوبته ليحيى بن أكثم عن مسائله، وهذه أيضا أوردها ابن شعبة في تحف العقول، وسنذكرها في مناظراته (عليه السلام).
3 - قطعة من أحكام الدين، ذكرها ابن شهرآشوب في المناقب عن الخيبري - أو الحميري - في كتاب مكاتبات الرجال عن العسكريين.
4 - وروي عنه (عليه السلام) في أجوبة المسائل في الفقه وغيره من أنواع العلوم الشيء الكثير، وقد تكفلت بنقلها كتب الحديث والأخبار، وقد جمعها الشيخ عزيز الله العطاردي في مسند الإمام الهادي (عليه السلام) .
وفيما يعود إلى التشريع كان الرواة والعلماء أكثر ما يراجعونه (عليه السلام) فيما يشتبه عليهم عن طريق الكتابة، ولعل مرد ذلك إلى أن محدثي الشيعة الذين كانوا يتدارسون فقه الأئمة (عليهم السلام) ومروياتهم قد انتشروا في طول البلاد وعرضها، وكان لمدينة قم النصيب الأكبر من أولئك الرواة، هذا بالإضافة إلى أن السلطات الحاكمة كانت تضيق على الأئمة (عليهم السلام) وتراقب جميع تصرفاتهم وتحركاتهم، وقد فرضت عليهم الإقامة الجبرية في عواصم الحكام للحد من تجمع أصحابهم حولهم، بل ومن الاتصال بهم، لذا فإن الرواة والعلماء كانوا يتصلون في الغالب بالأئمة الثلاثة: الجواد والهادي والعسكري (عليهم السلام) بالمراسلة، ويجد المتتبع لكل واحد منهم (عليهم السلام) عشرات بل مئات المرويات بهذا الطريق في مختلف الأبواب الفقهية والمسائل التشريعية، وللاطلاع على بعض الأمثلة من تلك المكاتبات يمكن إلقاء نظرة ولو سريعة على كتاب (مكاتيب الأئمة عليهم السلام) لملاحظة حجم المراسلات للأئمة المتأخرين (عليهم السلام).
عبادته (عليه السلام):
لم ير الناس في زمان إمامنا الهادي (عليه السلام) مثله في عبادته وتقواه، سائرا في ذلك على نهج آبائه المعصومين (عليهم السلام)، فعندما أمر المتوكل بتفتيش داره (عليه السلام) في سامراء، اقتحم سعيد الحاجب دار الإمام، قال سعيد: فنزلت فوجدت عليه جبة صوف وقلنسوة منها، وسجادته على حصير بين يديه وهو مقبل على القبلة. وفي مرة أخرى هوجمت دار الإمام (عليه السلام) من قبل جند المتوكل الأتراك، فوصف أصحاب السير حال الإمام (عليه السلام) حين هوجم ليلا وفتشت داره حيث قالوا: وجدوه في بيت مغلق عليه، وعليه مدرعة من صوف، وهو جالس على الرمل والحصى، وهو متوجه إلى الله تعالى يتلو آيا من القرآن الكريم، وسنأتي على تفصيل هذين الخبرين في مواقف الحكام من الإمام (عليه السلام). ولم يترك الإمام (عليه السلام) نافلة من النوافل المستحبة وصلوات التطوع إلا أتى بها حتى في أحلك الظروف القاسية التي مرت به (عليه السلام)، فكان (عليه السلام) يقرأ في الركعة الثالثة من نافلة المغرب سورة الحمد وأول سورة الحديد إلى قوله تعالى: *(إنه عليم بذات الصدور)* ، ويقرأ في الركعة الرابعة سورة الحمد وآخر سورة الحشر . ونسبت إليه صلاة نافلة كان (عليه السلام) يصلي فيها ركعتين، يقرأ في الأولى الفاتحة وياسين، وفي الثانية سورة الفاتحة وسورة الرحمن.
كرمه وعطاؤه (عليه السلام):
ومن المظاهر البارزة في سيرته (عليه السلام) الكرم والسخاء والعطاء، فقد كان (عليه السلام) من أندى الناس كفا وأسمحهم يدا، وروى المؤرخون بوادر كثيرة تدل على بره وإحسانه إلى البائسين والمحرومين، قلما تجد لها نظيرا إلا عند عترة المصطفى الميامين (سلام الله عليهم)، وفيما يلي نورد بعضا منها: 1 - قال ابن شهرآشوب: دخل أبو عمرو عثمان بن سعيد، وأحمد بن إسحاق الأشعري، وعلي بن جعفر الهمداني على أبي الحسن العسكري، فشكا إليه أحمد ابن إسحاق دينا عليه، فقال: يا أبا عمرو - وكان وكيله - ادفع إليه ثلاثين ألف دينار، وإلى علي بن جعفر ثلاثين ألف دينار، وخذ أنت ثلاثين ألف دينار، فهذه معجزة لا يقدر عليها إلا الملوك، وما سمعنا بمثل هذا العطاء (16).
وروى علي بن عيسى الإربلي عن كمال الدين بن طلحة الشافعي، قال: إن أبا الحسن (عليه السلام) كان يوما قد خرج من سر من رأى إلى قرية لمهم عرض له، فجاء رجل من الأعراب يطلبه، فقيل له: قد ذهب إلى الموضع الفلاني، فقصده، فلما وصل إليه قال له: ما حاجتك؟ فقال: أنا رجل من أعراب الكوفة المتمسكين بولاء جدك علي بن أبي طالب، وقد ركبني دين فادح أثقلني حمله، ولم أر من أقصده لقضائه سواك. فقال له أبو الحسن (عليه السلام): طب نفسا وقر عينا، ثم أنزله، فلما أصبح ذلك اليوم قال له أبو الحسن (عليه السلام): أريد منك حاجة، الله الله أن تخالفني فيها. فقال الأعرابي: لا أخالفك، فكتب أبو الحسن (عليه السلام) ورقة بخطه معترفا فيها أن عليه للأعرابي مالا عينه فيها يرجح على دينه، وقال: خذ هذا الخط، فإذا وصلت إلى سر من رأى احضر إلي وعندي جماعة فطالبني به، وأغلظ القول علي في ترك إيفائك إياه، الله الله في مخالفتي! فقال: أفعل، وأخذ الخط. فلما وصل أبو الحسن إلى سر من رأى وحضر عنده جماعة كثيرون من أصحاب الخليفة وغيرهم، حضر ذلك الرجل وأخرج الخط وطالبه، وقال كما أوصاه، فألان أبو الحسن (عليه السلام) له القول ورققه، وجعل يعتذر إليه، ووعده بوفائه وطيب نفسه، فنقل ذلك إلى الخليفة المتوكل، فأمر أن يحمل إلى أبي الحسن ثلاثون ألف درهم، فلما حملت إليه تركها إلى أن جاء الرجل، فقال: خذ هذا المال فاقض منه دينك، وأنفق الباقي على عيالك وأهلك، واعذرنا. فقال له الأعرابي: يا بن رسول الله، والله إن أملي كان يقصر عن ثلث هذا، ولكن الله أعلم حيث يجعل رسالاته. وأخذ المال وانصرف، وهذه منقبة من سمعها حكم له بمكارم الأخلاق، وقضى له بالمنقبة المحكوم بشرفها بالاتفاق (17).
وروى الشيخ الصدوق بالإسناد عن أبي هاشم الجعفري، قال: أصابتني ضيقة شديدة، فصرت إلى أبي الحسن علي بن محمد (عليه السلام) فأذن لي، فلما جلست قال: يا أبا هاشم، أي نعم الله عز وجل عليك تريد أن تؤدي شكرها؟ قال أبو هاشم: فوجمت، فلم أدر ما أقول له، فابتدأ (عليه السلام) فقال: رزقك الإيمان، فحرم به بدنك على النار، ورزقك العافية، فأعانك على الطاعة، ورزقك القنوع، فصانك عن التبذل. يا أبا هاشم، إنما ابتدأتك بهذا لأني ظننت أنك تريد أن تشكو لي من فعل بك هذا، وقد أمرت لك بمائة دينار فخذها (18).
وروى الطبري عن أبي عبد الله القمي، قال: حدثني ابن عياش، قال: حدثني أبو طالب عبيد الله بن أحمد، قال: حدثني مقبل الديلمي، قال: كنت جالسا على بابنا بسر من رأى، ومولانا أبو الحسن (عليه السلام) راكب لدار المتوكل الخليفة، فجاء فتح القلانسي، وكانت له خدمة لأبي الحسن (عليه السلام)، فجلس إلى جانبي، وقال: إن لي على مولانا أربعمائة درهم، فلو أعطانيها لانتفعت بها. قال: قلت له: ما كنت صانعا بها؟ قال: كنت أشتري منها بمائتي درهم خرقا تكون في يدي، أعمل منها قلانس، وأشتري بمائتي درهم تمرا فأنبذه نبيذا. قال: فلما قال لي ذلك أعرضت عنه بوجهي، فلم أكلمه لما ذكر، وأمسكت، وأقبل أبو الحسن (عليه السلام) على أثر هذا الكلام، ولم يسمع هذا الكلام أحد ولا حضره، فلما أبصرت به قمت إجلالا له، فأقبل حتى نزل بدابته في دار الدواب، وهو مقطب الوجه، أعرف الغضب في وجهه، فحين نزل عن دابته دعاني، فقال: يا مقبل، ادخل فأخرج أربعمائة درهم، وادفعها إلى فتح هذا الملعون، وقل له: هذا حقك فخذه واشتر منه خرقا بمائتي درهم، واتق الله فيما أردت أن تفعله بالمائتي درهم الباقية. فأخرجت الأربعمائة درهم فدفعتها إليه وحدثته القصة فبكى، وقال: والله، لا شربت نبيذا ولا مسكرا أبدا، وصاحبك يعلم ما نعمل (19).
ومن مظاهر كرمه وصلته ذوي القربى ما رواه إسحاق الجلاب، قال: اشتريت لأبي الحسن الهادي (عليه السلام) غنما كثيرة يوم التروية، فقسمها (عليه السلام) في أقاربه .
الهداية والإرشاد:
اهتم الإمام الهادي (عليه السلام) بإرشاد الضالين والمنحرفين عن جادة الحق وسعى سعيا حثيثا إلى هدايتهم إلى سواء السبيل، وكان من بين من أرشدهم الإمام وهداهم جعفر بن القاسم الهاشمي البصري، الذي كان يقول بالوقف، فالتقى به الإمام الهادي (عليه السلام) في بعض الطرق فقال له: إلى كم هذه النومة؟ أما آن لك أن تنتبه منها؟ فأثرت هذه الكلمة في نفسه فرجع إلى الحق. ومن مظاهر إرشاده الضالين والمنحرفين إلى طريق الله وصراطه المستقيم ما رواه المسعودي بإسناده عن الفتح بن يزيد الجرجاني لما ضمه مع الإمام (عليه السلام) الطريق حين قدموا به من المدينة - في حديث - قال: تلطفت في الوصول إليه فسلمت عليه، فرد السلام، فقلت: يا بن رسول الله، تأذن لي في كلمة اختلجت في صدري ليلتي الماضية؟ فقال (عليه السلام): سل واصغ إلى جوابها سمعك، فإن العالم والمتعلم شريكان في الرشد مأموران بالنصيحة، فأما الذي اختلج في صدرك، فإن يشاء العالم أنبأك أن الله *(لم يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول)* ، وكل ما عند الرسول فهو عند العالم، وكل ما أطلع الرسول عليه فقد أطلع أوصياءه عليه. يا فتح، عسى الشيطان أراد اللبس عليك، فأوهمك في بعض ما أوردت عليك، وأشكك في بعض ما أنبأتك حتى أراد إزالتك عن طريق الله وصراطه المستقيم، فقلت: متى أيقنت أنهم هكذا، فهم أرباب، معاذ الله إنهم مخلوقون مربوبون مطيعون، داخرون راغمون، فإذا جاءك الشيطان بمثل ما جاءك به، فاقمعه بمثل ما نباعلي، فقد كان أوقع في خلدي أنكم أرباب! قال: فسجد (عليه السلام) فسمعته يقول في سجوده: راغما لك يا خالقي، داخرا خاضعا، ثم قال: يا فتح، كدت أن تهلك، وما ضر عيسى أن هلك من هلك، إذا شئت رحمك الله. قال: فخرجت وأنا مسرور بما كشف الله عني من اللبس، فلما كان في المنزل الآخر دخلت عليه، وهو متكئ، وبين يديه حنطة مقلوة يعبث بها، وقد كان أوقع الشيطان لعنه الله في خلدي أنه لا ينبغي أن يأكلوا ولا يشربوا. فقال: اجلس يا فتح، فإن لنا بالرسل أسوة، كانوا يأكلون ويشربون ويمشون في الأسواق، وكل جسم متغذي إلا خالق الأجسام الواحد الأحد منشئ الأشياء ومجسم الأجسام، وهو السميع العليم، تبارك الله عما يقول الظالمون وعلا علوا كبيرا، ثم قال: إذا شئت رحمك الله. وكان (عليه السلام) دقيقا في تتبع أصحابه حريصا على إرشادهم إلى الصواب، قال الحسن بن مسعود: دخلت على أبي الحسن علي بن محمد (عليه السلام) الهادي وقد نكبت (أي مالت لعلة أصابتها، أو خدشت) إصبعي، وتلقاني راكب وصدم كتفي، ودخلت في زحمة فخرقوا علي بعض ثيابي فقلت: كفاني الله شرك من يوم، فما أشأمك. فقال (عليه السلام) لي: يا حسن، هذا وأنت تغشانا! ترمي بذنبك من لا ذنب له. قال الحسن: فأثاب إلي عقلي، وتبينت خطأي، فقلت: يا مولاي، أستغفر الله. فقال: يا حسن، ما ذنب الأيام حتى صرتم تتشأمون بها إذا جوزيتم بأعمالكم فيها. قال الحسن: أنا أستغفر الله أبدا، وهي توبتي يا بن رسول الله. قال (عليه السلام): والله ما ينفعكم، ولكن الله يعاقبكم بذمها على ما لا ذم عليها فيه، أما علمت يا حسن أن الله هو المثيب والمعاقب والمجازي بالأعمال عاجلا وآجلا؟ قلت: بلى يا مولاي. قال (عليه السلام): لا تعد، ولا تجعل للأيام صنعا في حكم الله. قال الحسن: بلى يا مولاي. لقد كان الإمام (عليه السلام) يدعو إلى الإصلاح والإرشاد بمكارم أخلاقه وحسن سيرته وتواضعه وإحسانه، وقد استطاع ببركة وعظه وإرشاده أن ينقذ جماعة ممن أغرتهم الدنيا فضاعوا في متاهتها، فتركوا ما هم فيه وساروا إلى ساحل الأمان. ولقد أسمع الموعظة والإرشاد حتى لألد أعدائه وهو المتوكل العباسي، حين استنشده الشعر، فأنشده (عليه السلام): باتوا على قلل الأجبال تحرسهم * غلب الرجال فما أغنتهم القلل القصيدة (20)، فجعل المتوكل يبكي ويبكي الحاضرين من ندمائه وهو في نشوة السكر والتكبر والزهو.
حلمه (عليه السلام):
كان الإمام الهادي (عليه السلام) يسير على هدى آبائه (عليهم السلام) في العفو والصفح عن المسيئين لانتزاع روح الشر والأنانية من نفوسهم، والصبر على كيد الأعداء والظالمين، ومقابلة الإساءة بالإحسان، ويكفي مثالا على سعة حلمه، موقفه من بريحة عامل المتوكل على المدينة الذي كان يقصد الإمام (عليه السلام) بالإساءة والوشاية والافتراء والتهديد، ومع ذلك فإنه (عليه السلام) قابل ذلك بالعفو وكظم الغيظ. زهده (عليه السلام): لقد واظب الإمام (عليه السلام) على العبادة والورع والزهد، ولم يحفل كشأن آبائه المعصومين (عليهم السلام) بمظاهر الحياة الفانية ونعيمها الزائل ومتعها الزائفة، بل اتجه إلى الله تعالى ورغب فيما أعده له في دار الخلود من النعيم والكرامة، وآثر طاعة الله تعالى على كل شيء عاملا كل ما يقربه إليه زلفى. فلقد داهمت قوات السلطة العباسية في زمان المتوكل داره (عليه السلام) في يثرب، ففتشوها بدقة، فلم يجدوا شيئا من متاع الدنيا وزخرفها، قال يحيى بن هرثمة، وهو الموكل بإشخاص الإمام (عليه السلام) من المدينة إلى سامراء بأمر المتوكل: كان ملازما للمسجد، ولم يكن عنده ميل إلى الدنيا، وقد فتشت منزله فلم أجد فيه إلا مصاحف وأدعية وكتب العلم (21).
ومرة أخرى في سامراء اقتحم داره ليلا جماعة من الأتراك من جند المتوكل، فلم يجدوا فيها شيئا، ووجدوه في بيت مغلق عليه، وعليه مدرعة من صوف، وهو جالس على الرمل والحصى ليس تحته فراش، وهو متوجه إلى الله تعالى يتلو آيا من القرآن. قال سعيد الحاجب: صرت إلى دار أبي الحسن (عليه السلام) بالليل، ومعي سلم، فصعدت منه إلى السطح، ونزلت فوجدت عليه جبة صوف وقلنسوة منها، وسجادته على حصير بين يديه وهو مقبل على القبلة. ونقل ابن أبي الحديد عن المفاخرة بين بني هاشم وبني أمية للجاحظ، قال: وأين أنتم عن علي بن محمد الرضا، لابس الصوف طول عمره مع سعة أمواله وكثرة ضياعه وغلاته (22).
هيبته (عليه السلام) في قلوب الناس:
لقد ورث الإمام الهادي (عليه السلام) من آبائه الكرام (عليهم السلام) العلم ومكارم الأخلاق والهيبة في قلوب الناس، ولقد كانت هيبته تملأ القلوب إكبارا وتعظيما، وذلك ناشئ من طاعته لله تعالى وزهده في الدنيا وتحرجه في الدين، وقد بلغ من عظيم هيبته أن جميع السادة العلويين والطالبيين وغيرهم المعاصرين له، قد أجمعوا على تعظيمه والاعتراف له بالزعامة والفضل مع كونهم من المشايخ الكبار والسادة المقدمين أمثال عم أبيه زيد بن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام). روى ابن جمهور عن سعيد بن عيسى، قال: رفع زيد بن موسى إلى عمر ابن الفرج مرارا يسأله أن يقدمه على ابن أخيه، ويقول: إنه حدث وأنا عم أبيه، فقال عمر ذلك لأبي الحسن (عليه السلام) فقال: إفعل واحدة، أقعدني غدا قبله، ثم انظر، فلما كان من الغد أحضر عمر أبا الحسن (عليه السلام) فجلس في صدر المجلس، ثم أذن لزيد بن موسى فدخل فجلس بين يدي أبي الحسن (عليه السلام)، فلما كان يوم الخميس أذن لزيد بن موسى قبله فجلس في صدر المجلس، ثم أذن لأبي الحسن (عليه السلام) فدخل، فلما رآه زيد قام من مجلسه وأقعده في مجلسه وجلس بين يديه. وعن محمد بن الحسن الأشتر العلوي الحسيني، قال: كنت مع أبي على باب المتوكل، وأنا صبي، في جمع من الناس في ما بين طالبي إلى عباسي إلى جعفري إلى غير ذلك، إذ جاء أبو الحسن علي بن محمد (عليه السلام) فترجل الناس كلهم، حتى دخل فقال بعضهم لبعض: لم نترجل لهذا الغلام؟ فما هو بأشرفنا ولا بأكبرنا سنا ولا بأعلمنا! فقالوا: والله لا ترجلنا له. فقال أبو هاشم الجعفري: والله لتترجلن له [على] صغره إذا رأيتموه، فما هو إلا أن طلع وبصروا به حتى ترجل له الناس كلهم، فقال لهم أبو هاشم: ألستم زعمتم أنكم لا تترجلون له؟ فقالوا: ما ملكنا أنفسنا حتى ترجلنا (23). وعندما أرسل المتوكل يحيى بن هرثمة إلى المدينة لإشخاص الإمام الهادي (عليه السلام) إلى سامراء، فدخل المدينة، ضج أهلها ضجيجا عظيما ما سمع الناس بمثله خوفا على الإمام (عليه السلام)، قال يحيى: وقامت الدنيا على ساق، لأنه كان محسنا إليهم ملازما للمسجد، لم يكن عنده ميل إلى الدنيا. وعندما وصل موكب الإمام (عليه السلام) إلى الياسرية نزل هناك، فرأى يحيى بن هرثمة تشوق الناس إلى الإمام (عليه السلام) وهيبته في قلوبهم واجتماعهم لرؤيته، فأنفذه ليلا إلى بغداد، وأقام بعض تلك الليلة، ثم سار فيها إلى سامراء. وبلغ من عظيم هيبة الناس له أنه كان إذا دخل على المتوكل لا يبقى أحد في القصر إلا قام بخدماته، وكانوا يتسابقون إلى رفع الستائر وفتح الأبواب ولا يكلفونه بشيء من ذلك. ومن مظاهر تعظيم الإمام (عليه السلام) أنه لما أقيمت الصلاة عليه بعد استشهاده (عليه السلام) كثر الناس واجتمعوا وكثر بكاؤهم وضجتهم، فرد النعش إلى داره، فدفن فيها (24).
المصادر :
1- الإرشاد 2: 298، الكافي 1: 260 / 1، إعلام الورى: 356، مناقب ابن شهرآشوب 4: 408، بحار الأنوار 50: 118 / 2، الفصول المهمة: 277.
2- الحجرات: 12.
3- الإرشاد 2: 298، الكافي 1: 260 / 2، إعلام الورى: 356، بحار الأنوار 50: 119 / 3.
4- بحار الأنوار 50: 118.
5- كفاية الأثر: 280.
6- المناقب 4: 402.
7- الإرشاد 2: 314، الكافي 1: 261 / 1، غيبة الطوسي: 200 / 166، إعلام الورى: 370.
8- بصائر الدرجات: 492 / 13، الكافي 1: 262 / 6-7، بحار الأنوار 50: 244 / 16. الإرشاد 2: 316،إعلام الورى: 368، بحار الأنوار 50: 244 / 17.
9- الإرشاد 2: 318، الكافي 1: 262 / 9- 8، إعلام الورى: 369، بحار الأنوار 50: 245 / 18.
10- كفاية الأثر: 282، بحار الأنوار 36: 412 / 2، كمال الدين: 379 / 1، التوحيد: 81 / 37.
11- الغيبة للطوسي: 201 / 168، الثاقب في المناقب: 548، إثبات الوصية: 208، بحار الأنوار 50: 242 / 11.
12- إعلام الورى: 369. / بحار الأنوار 50: 239 / 4.
13- إثبات الوصية: 222.
14- تحف العقول: 481، التهذيب 8: 309 / 1147، بحار الأنوار 50: 162 / 41.
15- شرح شافية أبي فراس الحمداني: 563.
16- مناقب ابن شهرآشوب: 409، بحار الأنوار 50: 173.
17- كشف الغمة 3: 166، الإتحاف بحب الأشراف: 67 - 68.
18- بحار الأنوار 50: 129 / 7، الأنوار البهية: 228.
19- دلائل الإمامة: 418، نوادر المعجزات: 186 / 5.
20- تحف العقول: 482.
21- تذكرة الخواص: 360.
22- تذكرة الخواص: 361. / الإرشاد 2: 303. / شرح ابن أبي الحديد 15: 273.
23- إعلام الورى: 365. / الثاقب في المناقب: 542، الخرائج والجرائح 2: 675 / 7، المناقب 4: 407.
24- تذكرة الخواص: 359. / تأريخ اليعقوبي 3: 217.234 / بحار الأنوار 50: 128 / 6. ص 57
source : rasekhoon