عربي
Sunday 24th of November 2024
0
نفر 0

الزهد والرغبة

حثّت الروايات الكثيرة على الزهد وذكرت فضله عند الله تعالى وما له من الأثر في الدنيا والآخرة، ففي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "جُعل الخير كلّه في بيت وجُعل مفتاحه الزهد في الدنيا"، ثمّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه واله: "لا يجد الرجل حلاوة الإيمان في قلبه حتّى لا يبالي من أكل الدنيا" ثمّ قال عليه السلام: "حرام على قلوبكم أن تعرف حلاوة الإيمان حتّى تزهد في الدنيا"(1). وفي رواية أخرى ع
الزهد والرغبة

حثّت الروايات الكثيرة على الزهد وذكرت فضله عند الله تعالى وما له من الأثر في الدنيا والآخرة، ففي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "جُعل الخير كلّه في بيت وجُعل مفتاحه الزهد في الدنيا"، ثمّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه واله: "لا يجد الرجل حلاوة الإيمان في قلبه حتّى لا يبالي من أكل الدنيا" ثمّ قال عليه السلام: "حرام على قلوبكم أن تعرف حلاوة الإيمان حتّى تزهد في الدنيا"(1).
وفي رواية أخرى عن أمير المؤمنين عليه السلام: "إنّ من أعون الأخلاق على الدين الزهد في الدنيا"(2).

ما هو الزهد؟

عن أمير المؤمنين عليه السلام: "الزهد بين كلمتين من القرآن، قال الله تعالى: ﴿لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ﴾(3)ومن لم يأس على الماضي ولم يفرح بالآتي فقد استكمل الزهد بطرفيه"(4). وهذه الرواية تشرح أمرين:
أوّلاً: ليس الزهد أن لا تحصل على شي‌ء أو أن ترفض نِعَم الدنيا وتبتعد عنها وتعيش حياة الفقراء والمساكين، فالآية الكريمة تقول: ﴿وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ﴾(5) فالله تعالى ينعم على الإنسان المؤمن وسيستفيد هذا المؤمن من النعمة "آتاكم" ولم يطلب الله تعالى من الزاهد أن يرفض النعم، وهذا واضح من شرح أمير المؤمنين عليه السلام فهو عليه السلام يؤكّد أنّ النعم سيحصل عليها الزاهد أيضاً "لم يفرح بالآتي". وهذا ما تشير له العديد من الروايات عن أهل البيت عليهم السلام، فعن الإمام الصادق عليه السلام: "ليس الزهد في الدنيا بإضاعة المال ولا تحريم الحلال، بل الزهد في الدنيا أن لا تكون بما في يدك أوثق منك بما عند الله عزَّ وجلَّ"(6).
ثانياً: الزهد هو صفة راسخة في نفس الإنسان تكون نتيجتها أمرين: لا يفرح بالدنيا المقبلة ولا يحزن على الدنيا المدبّرة. ليصل إلى مرحلة لو أصاب فيها حظّاً وافراً لم يفرح فرح المنتصرين، ولو أصيب بمصيبة لم يجزع جزع الحريصين. فالزاهد هو الّذي يستفيد من الدنيا دون أن يكون أسيراً لها.

كيف يُكتسب الزهد؟

يحصل الزهد في قلب الإنسان من خلال أمور، منها:

1- ذكر الموت‌

فإنّ ذكر الموت، الّذي هو عبارة عن تسخيف كلّ ما هو من متاع الدنيا؛ لأنّ ما بها من نعم كالمال فإنّه إمّا زائل أو منتقل للورثة، والأزواج إمّا أن تموت قبلنا أو نموت قبلها فتتزوّج من غيرنا لتستمّر الحياة، وهكذا كلّ متاع الدنيا فهو متروك من الإنسان عند الموت، والموت - كما سمّاه أمير المؤمنين عليه السلام هادم اللذّات - من الأمور الّتي تجعل الدنيا حقيرة في نفس الإنسان، وبالتالي يخرج حبّها من القلب عند تذكّره باستمرار، وفي الروايات الشريفة ما يدلّ على هذا المعنى، فقد قال أبو عبيدة للإمام الباقر عليه السلام: حدّثني بما أنتفع به فقال: "يا أبا عبيدة أكثر ذكر الموت، فإنّه لم يكثر إنسان ذكر الموت إلّا زهد في الدنيا"(7).

2- التفكّر

فالتفكّر في حال الدنيا والآخرة، وما فيهما من الباقي والفاني، وإجراء بعض الحسابات النفسيّة لما يدّعيه الإنسان من محبّة الله تعالى، يجعلانه يصل إلى النتيجة المطلوبة وهي الزهد، ففي الراوية عن جابر قال: دخلت على الإمام الباقر عليه السلام فقال: "يا جابر والله إنّي لمحزون، وإنّي لمشغول القلب، قلت: جعلت فداك وما شغلك؟ وما حزن قلبك؟ فقال: يا جابر إنّه من دخل قلبه صافي خالص دين الله شُغل قلبه عمّا سواه، يا جابر ما الدنيا وما عسى أن تكون الدنيا هل هي إلا طعام أكلته أو ثوب لبسته أو امرأة أصبتها؟!. يا جابر إنّ المؤمنين لم يطمئنّوا إلى الدنيا، ببقائهم فيها ولم يأمنوا قدومهم الآخرة، يا جابر الآخرة دار قرار، والدنيا دار فناء وزوال ولكنّ أهل الدنيا أهل غفلة، وكأنّ المؤمنين هم الفقهاء أهل فكرة وعبرة، لم يصمّهم عن ذكر الله جلّ اسمه ما سمعوا بآذانهم، ولم يعمهم عن ذكر الله ما رأوا من الزينة بأعينهم ففازوا بثواب الآخرة، كما فازوا بذلك العلم. واعلم يا جابر أنّ أهل التقوى أيسر أهل الدنيا مؤونة وأكثرهم لك معونة، تذكر فيعينونك وإن نسيت ذكروك، قوّالون بأمر الله قوّامون على أمر الله، قطعوا محبّتهم بمحبّة ربّهم ووحشوا الدنيا لطاعة مليكهم ونظروا إلى الله عزَّ وجلَّ وإلى محبّته بقلوبهم وعلموا أنّ ذلك هو المنظور إليه، لعظيم شأنه، فأنزل الدنيا كمنزلٍ نزلتَه ثمّ ارتحلت عنه، أو كمال وجدته في منامك فاستيقظت وليس معك منه شي‌ء، إنّي (إنّما) ضربت لك هذا مثلاً، لأنّها عند أهل اللبّ والعلم بالله كفي‌ء الظلال، يا جابر، فاحفظ ما استرعاك الله عزَّ وجلَّ‌ من دينه وحكمته ولا تسألنّ عمّا لك عنده إلّا ما له عند نفسك..."(8).

الحرص والرغبة في الدنيا

في مقابل الزهد هناك الرغبة في الدنيا الّتي تحدّثت عنها الروايات الكثيرة، وقد عدّت حبّها رأس كلّ خطيئة، ووصفتها روايات أخرى بالأفعى، فعن الإمام الصادق عليه السلام أنّ في كتاب الإمام عليّ عليه السلام: "إنّما مثل الدنيا كمثل الحيّة ما ألين مسّها، وفي جوفها السمّ الناقع، يحذرها الرجل العاقل، ويهوى إليها الصبيّ الجاهل"(9).
ولحبّ الدنيا والحرص عليها والرغبة بها آثار كثيرة، منها:

1- الكآبة:

فالإنسان الحريص على الدنيا تراه كئيباً مشغولاً فكره من الصباح إلى المساء بها بحيث لا يجد لنفسه ساعة من الراحة إلّا حين ينام بعد القلق الّذي يتعبه في اليقظة، وتراه إذا فقد منها أمراً أو أصيب بضائقة، سيّئ الطباع تعيس الحال، فمثله كما عبرت عنه الرواية عن الإمام الباقر عليه السلام: "مثل الحريص على الدنيا كمثل دودة القز، كلّما ازدادت على نفسها لفّاً كان أبعد لها من الخروج حتّى تموت غمّاً"(10).

2- البعد عن الآخرة:

فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه واله: "إنّ في طلب الدنيا إضراراً بالآخرة، وفي طلب الآخرة إضراراً بالدنيا، فأضرّوا بالدنيا فإنّها أولى بالإضرار"(11).
والطلب بمعنى جعلها الهدف الأساس لحركة الإنسان، فيجب أن يكون للإنسان هدفٌ أساسٌ واحدٌ يسعى إليه، تكون له الأولويّة عند تعارضه مع غيره.
ومثاله ما لو وقع الإنسان العاطل عن العمل بين خيارين؛ بين أن يعصي الله تعالى من خلال كسبٍ فيه شبهات أو محرّم واضح، وبين الانتظار إلى أن يجد عملاً حلالاً ولا شبهة فيه، فإن كان هدفه الأساس هو الدنيا فسيعمل بهذا المكسب المحرّم ويكون حبّ الدنيا قد استولى على قلبه، أمّا إن كان هدفه الآخرة فإنّه سيستبعد الأمر ويصبر حتّى يُهيّى‌ء الله تعالى له رزقاً حلالاً، وهذا هو الزاهد.

صحّة الروح‌

من مواعظ الإمام الخميني قدس سره في كتاب "الأربعون حديثاً":
اعلم أيّها العزيز أنّه مثلما يكون لهذا الجسد صحّة ومرض، وعلاج ومعالج، فإنّ للنفس الإنسانيّة أيضاً صحّة ومرضاً، وسقماً وسلامة، وعلاجاً ومعالجاً. إنّ صحّة النفس وسلامتها هي الاعتدال في طريق الإنسانيّة، ومرضها وسقمها هو الاعوجاج والانحراف عن طريق الإنسانيّة، وإنّ الأمراض النفسيّة أشدّ فتكاً آلاف المرّات من الأمراض الجسميّة؛ وذلك لأنّ هذه الأمراض إنّما تصل إلى غايتها بحلول الموت. فما إن يحلّ الموت، وتفارق الروح البدن، حتّى تزول جميع الأمراض الجسميّة والاختلافات الماديّة، ولا يبقى أثر للآلام أو الأسقام في الجسد. ولكنّه إذا كان ذا أمراض روحيّة وأسقام نفسيّة - لا سمح الله - فإنّه ما إن تفارق الروح البدن، وتتوجّه إلى ملكوتها الخاصّ، حتّى تظهر آلامها وأسقامها.
إنّ مَثَل التوجّه إلى الدنيا والتعلّق بها، كمثل المخدّر الّذي يسلب الإنسان شعوره بنفسه. فعندما يزول ارتباط الروح بدنيا البدن، يرجع إليها الشعور بذاتها، ومن ثَمّ الإحساس بالآلام والأسقام الّتي كانت في باطنها، فتظهر مهاجمة لها بعد أن كانت مختفية كالنار تحت الرماد. وتلك الآلام والأسقام إمّا أن تكون ملازمة لها (للروح) ولا تزول عنها أبداً، وإمّا أن تكون قابلة للزوال. وفي هذه الحال يقتضيها أن تبقى آلاف السنين تحت الضغط والعناء والنار والاحتراق قبل أن تزول، إذ إنّ آخر الدواء الكيّ. قال الله تعالى: ﴿يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ﴾(12).
إنّ الأنبياء هم بمنزلة الأطبّاء المشفقين، الّذين جاءوا بكلّ لطف ومحبّة لمعالجة المرضى، بأنواع العلاج المناسب لحالهم، وقاموا بهدايتهم إلى طريق الرشاد "إنّنا أطبّاء وتلاميذ الحقّ" وإنّ الأعمال الروحيّة القلبيّة والظاهريّة والبدنيّة هي بمثابة الدواء للمرض كما أنّ التقوى، في كلّ مرتبة من مراتبها، بمثابة الوقاية من الأمور المضرّة للأمراض ومن دون الحميّة لا يمكن أن ينفع العلاج، ولا أن يتبدّل المرض إلى صحّة.
قد يغلب الدواء والطبيعة على المرض في الأمراض الجسميّة حتّى مع عدم الحمية جزئيّاً. وذلك لأنّ الطبيعة هي نفسها حافظة للصحّة ودواء لها. ولكنّ الأمر في الأمراض النفسيّة صعب؛ وذلك لأنّ الطبيعة قد تغلّبت على النفس منذ البداية، فتوجّهت هذه نحو الفساد والانتكاس: ﴿إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾، وعليه، فإنّ من يتهاون في الحمية تصرعه الأمراض، وتجد مناطق للنفوذ إليه، حتّى تقضي على صحّته قضاء مبرماً.
إذاً، فالإنسان الراغب في صحّة النفس، والمترفّق بحاله إذا تنبّه إلى أنّ وسيلة الخلاص من العذاب تنحصر في أمرين:
الأوّل: الإتيان بما يصلح النفس ويجعلها سليمة.
والآخر: هو الامتناع عن كلّ ما يضرّها ويؤلمها.
ومن المعلوم أنّ ضرّر المحرّمات أكثر تأثيراً في النفس من أيّ شي‌ءٍ آخر، ولهذا كانت محرّمة، كما أنّ الواجبات لها أكبر الأثر في مصلحة الأمور، ولهذا كانت واجبة وأفضل من أيّ شي‌ء، ومقدّمة على كلّ هدف، وممهّدة للتطوّر إلى ما هو أحسن.

خلاصة

- الزاهد هو الذي يستفيد من الدنيا دون أن يكون أسيراً لها
- يحصل الزهد في قلب الإنسان من خلال أمور منها: ذكر الموت، التفكّر في فناء العالم
- من آثار الحرص على الدنيا: الكآبة، البعد عن الاخرة
المصادر :
1- - الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص128
2- میزان الحکمة
3- الحديد:23
4- وسائل الشيعة (آل البيت)، الحر العاملي، ج16، ص19
5- الحديد:23
6- الكافي، الشيخ الكليني، ج5، ص70
7- الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص131
8- الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص132
9- وسائل الشيعة (آل البيت)، الحر العاملي، ج16، ص17
10- الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص134
11- الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص131
12- التوبة:35


source : rasekhoon
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

بعض اقوال علماء اهل السنة والجماعة في يزيد ابن ...
الله سبحانه وتعالى احيا الموتى لعزير
کيف نشأة القاديانية و ماهي عقيدتها
وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكرَى تَنفَعُ ...
العلاقة بين رجل الدين والمجتمع
مسؤوليات الشباب في كلام القائد
ما تفسیر آیة "ما یَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ ...
ارضاء الروح
تنصيص النبي السابق على نبوة اللاحق
في قول النبي لأهل بيته: (أنا حرب لمن حاربكم) ...

 
user comment