عن أمير المؤمنين عليه الصلاة و السلام:[إنّ] أوّل رحمة نزلت من السماء إلى الأرض في خمس و عشرين من ذي القعدة. و من صام ذلك اليوم و قام تلك اللّيلة فله عبادة مائة سنة، صام نهارها و قام ليلها، و أيّما جماعة اجتمعت ذلك اليوم في ذكر ربّهم عزّ و جلّ لم يتفرّقوا حتّى يعطوا سؤلهم، و ينزل في ذلك اليوم ألف ألف رحمة [يصنع] منها تسعة و تسعون [الف] في حلق الذاكرين و الصائمين في ذلك اليوم و القائمين تلك اللّيلة«».
و رويأنّه يصلّي في هذا اليوم ركعتين عند الضحى بالحمد مرّة، و الشّمس و ضحيها خمس مرّات، و يقول بعد التسليم: لا حول و لا قوّة إلا باللّه العليّ العظيم و يدعو و يقول: «يا مقيل العثرات أقلني عثرتي، يا مجيب الدعوات أجب دعوتي، أ سامع الأصوات اسمع صوتي، و ارحمني و تجاوز عن سيّئاتي و ما عندي يا ذا الجلال و الإكرام» [1].
__________________________________________________
[1] إقبال الأعمال: 314، فصل في صلاة غريبة في هذا اليوم، الطبعة الحجرية، الطبعة الثانية - 1390 ه، منشورات دار الكتب الإسلامية - طهران. عنه الوسائل: 8 - 182 ح 1 -
المراقبات ص : 307
و يستحبّ أن يقرأ بما روي فيه من الدعاء الّذي أوّله: يا داحي الكعبة«».
و أمّا معرفة نصب الكعبة، و دحو الأرض، اعلم أنّ لهذه النعمة صورة و حقيقة أمّا صورتها فهي [ما] أشار إليها في «الإقبال» أنّ اللّه تبارك و تعالى بني في هذا اليوم الأرض لسكنى بني آدم و عيشه، و الأرض و ما فيها من النعم حتّى أبداننا و أرزاقنا كلّها قد انتشرت ممّا نزل في هذا اليوم من الرحمة، فكلّ نعمة في الدنيا على أجناسها و أنواعها و أصنافها الّتي لا يقدر على إحصائها أحد إنّما نزولها و انتشارها في هذا اليوم.
فعلى العبد المراقب لمولاه، المريد لشكر نعمه، أن يتفكّر فيما ينتهي إليه فطنته من نعمه العظيمة الفاخرة، و الّتي أنعم بها عليه بخلق الأرض و ما عليها.
مثلا يتفكّر أوّلا في داخل بدنه من نعم اللّه تعالى، و هي من كثرتها و لطفها لا يبلغها علمه قطعا و من أراد تصديق ذلك فليراجع إلى علم التشريح، و قد رأيت من تأليفات متأخّري الإفرنج ما تحتوي لعكوس تشريحات الأعضاء، و كان فيها عكوس ما في حجب كلّ عضو عضو مصبوغا بألوان يبيّن العروق و السواقي الدقيقة و رأيت فيها من كثرة المدارات و السواقي و العروق و سائر الأجزاء ما يبهر
__________________________________________________
- و قد سقط هذا الحديث أو بالأحرى هذا الفصل من الطبعة الحديثة المحقّقة من قبل المحقّق جواد القيّومي الأصفهاني و من منشورات مكتب الإعلام الإسلامي المطبوع في عام 1415 ه، و قد كان هناك إشكال في الطبعة الحجرية حيث ورد هذا الفصل ضمن فصل [14] «فيما نذكره مما ينبغي أن يكون عليه المكلّف عليه في اليوم المشار إليه» حيث قطع كلام فصل [14] و ذكر الصلاة ضمن فصل خاص، و بعد الانتهاء منه عاد إلى تكملة الفصل [14] فوقع الاشتباه في الطبعة الحديثة حيث ذكر فصل [14] بصورة كاملة صحيحة، و لكنه لم يذكر فصل في «صلاة غريبة في هذا اليوم» بعد فصل [14] و اللّه العالم.
المراقبات ص : 308
عقل اللّبيب و الطبيب، حيث يرى لكلّ ذلك دخلا في صحّة مزاج ذلك العضو بلا واسطة أو بوسائط، و بواسطتها في صحّة مزاج الإنسان، فالمحسوس منها يزيد على الكرورات و يعلم منها أنّ غير المحسوس أزيد من المحسوس.
هذا كلّه صنف واحد من النعم البدنيّة، و لها أصناف أخرى لعلّها أكثر عددا و أعجب أمرا من ذلك.
منها القوى الغير المرئيّة الّتي هي عمّالة في هذه الأجزاء بإحداث و تحريك، و تصوير، و تغذية، و تنمية، و هضم، و دفع، و غيرها من ضروريّات التأثيرات الخارجيّة.
و منها كلّيّات عوالم ملكوت هذه القوى، و ما تحتها من جنودها، و سياسة تدابيرها في بروز تأثيراتها في أفعالها، و نتائجها المقدّرة بكمّ خاصّ، و كيف مخصوص، ناسب مواردها باختلاف الأزمنة و الأمكنة، و الواردات الداخليّة المنبعثة من الحركات المزاجيّة، و الأخلاقية الطبيعيّة، و المكتسبة و الخارجيّة الّتي لا يعلم عدد أجناسها و أنواعها و أصنافها إلا ربّ العالمين، أو من علّمه، فضلا عن إحصاء أفرادها، و لو عرف الإنسان كيفيّة ارتباط العوالم بعضها ببعض، ظهر له أنّ لجميع هذه العوالم دخلا في كمال صحّة كلّ عضو من أعضاء البدن، بل كلّ جزء من أجزاء ذلك العضو، فيصحّ عنده أنّ المنعم تعالى إنّما أنعم عليه في نعمة جزئيّة واحدة بهذه التفاصيل الغير المحصورة كلّها.
ثمّ إذا أراد أن يتفكّر في النعم الخارجيّة من مآكله و مشاربه و ملابسه، و ما يتصرّف فيه أعضاء بدنه، و حواسّه الظاهرة و الباطنة من العوالم آمن بقوله تعالى:
المراقبات ص : 309
و إن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحصُوها 16: 18«»و قوله تعالى:و مَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُو 74: 31«»إيمانا حقيقيّا فإنّ من جزئيّات ما يتصرّف فيه الإنسان من العوالم بخياله عالم المثال، سعته خارجة عن حدّ إحصاء كلّ البشر، فضلا عمّا يتصرّف فيه بعالم عقله المحيط بهذه العوالم كلّها، أين أنت يا مسكين يا غافل عن الإحاطة بتفاصيل أمر واحد من أمور عالم واحد من العوالم الّتي يتصرّف فيها عقلك، فانظر في أمرك و اقض بعقلك، ما يجب عليك في شكر هذه النعم؟ ثمّ هذا كلّه في تصوير انتشار ظواهر النعم الّتي وهبها خالق الأرض بدحو الأرض، إذا تأمّلت فيما وهبها مالك الدنيا و الآخرة بخلق الأرض، و عرفت ما في حقيقة ذلك لزاد حيرتك.
و إجمال هذا التفصيل أنّ الّذي يفهمه أهل الحقّ و الكشف، و يشير إليه أخبار أهل بيت الوحي عليهم السّلام أنّ اللّه تبارك و تعالى إنّما خلق آدم و جعله في عالم المثال الّذي يعبّر عنه في لسان الأخبار بالجنّة، و في بعضها بمدينة جابلقا، و هي جنّة آدم الّتي نزل منها إلى الأرض ثمّ أهبطه إلى الأرض ليستفيد من هذا السفر كلّ ما أعدّ له في عالم البرزخ من النعم المثاليّة، و هذا العالم بحذاء جنّة آدم و يسمّى بجابلسا، و في عالم الآخرة في جنّات الخلد.
و لو لم ينزل آدم إلى هذا العالم لم ينل بنعم دار الآخرة، و كلّ ما وعد اللّه النبيين و الأوصياء و الأولياء و المؤمنين من نعم الآخرة، فهو من فوائد سفر هذا العالم، هذا العالم منزل من منازل سفر الآخرة، بل من جهة منشإ نعيمها، و أصل
المراقبات ص : 310
نعيمها، لذلك سمّي في الأخبار بمزرعة الآخرة و لعلّ إلى ذلك أشير أيضا في قوله تعالى:هذا الّذِي رُزِقْنا مِن قَبْلُ و اتُوا بِهِ مُتَشَابِها 2: 25«».
فجميع ما في عوالم البرزخ و القيامة، و دار ثواب اللّه من النعم الباقية، الّتي لا زوال لها و لا اضمحلال، الّتي لا نسبة بينها و بين نعم هذه الدنيا الدنيّة، الّتي ما نظر إليها خالقها مذ خلقها، و لم يرضها لعباده في هذه الدنيا، الّتي ليست بدار ثواب منشإها و أصلها من هذا العالم، فالعارف المراقب يرى ليوم دحو الأرض على نفسه شكرا بإزاء هذه النعم كلّها.
و حينئذ يعتقد عن حقيقة قلبه بأنّه لا يقدر على أداء حقّ شيء حقير من أجزاء جزء يسير منها، و لو استعان في ذلك بجميع العابدين الشاكرين، و اشتغلوا بالشكر أبد الآبدين لا من جهة أنّ شكرهم أيضا من نعم اللّه فهو أيضا يقتضي شكرا آخر بل من كثرتها و عظمتها و لطفها، و إذا اهتدى العبد إلى هذه المعارف من مراتب نعم المنعم تعالى، يكون عليه سمة العارفين بحقيقة عجزه و قصوره و تقصيره عن شكره تعالى، و استحيا عن عدّ جهده - بلغ ما بلغ - شكرا و عرف قدر منّة اللّه تعالى عليه في قبول هذا الحقير اليسير لشكر هذه النعم، و شكره تعالى لهذا الشكر، و عرف معنى اسمه الشكور ببعض المعرفة و إن كان معرفة كنه أسمائه تعالى محالا، هذا.
و من عظائم تلك النعم جعل الكعبة بيتا لنفسه، و إذنه للناس أن يقصدوا زيارته، قبوله منهم ذلك لزيادته في الأجر و القبول و الرضا، و لعمري إنّ هذا غاية اللطف و الرفق و الكرم، فإنّ البصير إذا تأمّل في معاني نسك الحجّ، يهتدي بذلك
المراقبات ص : 311
إلى عظيم لطفه تعالى، بل و محبّته إلى عناية المؤمنين، و غاية عنايته في جذبهم إلى بابه، و دعوتهم، إلى قربه و جواره، و عرف قدر نعمة وجود هذا النبيّ الكريم الّذي هدانا به إلى هذه العوالم العزيزة، و عرّفنا أسرار هذه المقامات الشريفة الكريمة، و أحيا هذه القلوب الميّتة بروح الإيمان، و هدى عماها بنور الإيقان.
و إجمال هذا التفصيل أنّه سبحانه و تعالى خلق بني آدم من التراب، و دعاهم إلى لقائه و جواره، و قربه و جواره إنّما هو أعلى علّيّين، و مقام الرّوحانيّين، و من أجل أنّه لا يصل إلى هذه العوالم العالية في أوائل أمره من جهة توغّله في ظلمات عوالم الطبيعة و إسارته في مهوى كرة الأرض بين الماء و الطين، جعل لهم بلطفه من عالمهم [محلا و] عمرانا، و سمّاه بيتا له، و جعله مطافا لزوّاره، و مريدي حضرته ليطوفوا حوله و يزوروه، و يستأنسوا بربّهم على حسب حالهم، و يستعدّوا بذلك لما فوقه من عوالم القدس، و ربوة التقريب، و جعل لهذه الزيارة نسكا كلّها مثار للترقّي من عالم الملك إلى عوالم الملكوت و الجبروت و اللاهوت.
و بعبارة أخرى هذه النسك معدّة لعامل بها إلى زيارة الكعبة الحقيقيّة الّتي ورد فيها أنّه لا يسعني أرضي و سمائي بل يسعني قلب عبدي المؤمن«»
source : دار العرفان /