... رأيت أنّ الحجاج تساقطوا أمامي و على بعد 15 متراً تقريباً رأيت جداراً بشرياً من الشرطة السعودية الذين سدّوا الشارع أمام الحجاج و كانوا يصرخون عليهم: (إرجعوا إلى الوراء… إرجعوا إلى الوراء) كانوا يخاطبون الذين مات وراءهم الآلاف من الحجاج و لم يكن ليتحركوا لإنقاذ أحدهم من هذا المكان....
وکالة أهل البیت(ع) للأنباء ـ ابنا/ قسم المواضیع الثقافیة:
عيدٌ بأيّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ / بمَا مَضَى أمْ بأمْرٍ فيكَ تجْديدُ؟
أمّا الأحِبّةُ فالبَيْداءُ دونَهُمُ / فَلَيتَ دونَكَ بِيداً دونَهَا بِيدُ
الیوم یوم "عید الأضحی المبارك" و لکنّنا کیف نستطیع أن نفرح ونحتفل بهذا العید العظیم، وقلوبنا معتصرة من الحزن بذکری کارثة منی في عید الأضحی بالسنة الماضیة؟! بل تختلط دموعنا الحارّة بهذه المناسبة الأليمة ببسمة رسمها على شفاهنا حلول عيد الأضحى المبارك.
كان موسم الحج الماضي ــ في ذوالحجة 1437 ؛ عام 2015 ــ شهد سقوط آلاف الضحايا نتيجة لسوء إدارة السلطات السعودية لحركة الحجيج الذين قضوا اختناقاً إثرة انسداد طریقهم في شارع 204 بمنی وتدافعهم فيه، إضافة لتأخر الجهات المعنية في الإسعاف والتعامل الصحیح مع هذه الكارثة الكبيرة.
«السيد إصفهاني» حاج إیراني كان شاهداً لفاجعة منى في الحج لمنصرم؛ الذي یقول: "عايدني كثير من الأحبة و الأصدقاء والأقرباء في هذا العيد، لكن كيف ننسى اولئك الذين قضوا نحبهم عطاشى مظلومين في أقدس بقاع الأرض ولا نذكرهم في مثل هكذا يوم؟".
ففي ذكرى استشهاد أكثر من 7000 حاج وحاجة وتحولهم قرابين لعيد الأضحى بفعل الإهمال للشجرة الملعونة (آل سعود)، تحدث السيد إصفهاني كأحد شهود عيان أنجاه الله من کارثة منى الأليمة عن تفاصيل المجزرة التي غيبتها وسائل الإعلام عن الرأي العام وأسباب وقوعها.
وتقوم وکالة ابنا بنشر هذه الذکریات المؤلمة لأن الواجب الإنساني والإسلامي في فضح الظالمين المجرمين ومتابعة قضايا المظلومين وحقوقهم المهضومة يحتّم علينا أن نسلّط الأضواء على تفاصيل وجزئيات هذه المجزرة الإنسانية التي لم يحدث مثلها في التاريخ".
وفیما یلي النص الکامل لهذه الذکریات المترجمة باللغة العربیة قامت بإعدادها رابطة الحوار الديني للوحدة:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـــــ لقد رأينا القيامة بأم أعيننا في ذلك اليوم! ــــــ
شاهد عیان یتکلم عن کارثة منی 2015
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* التوجه إلى المشاعر
حجاج بیت الله الحرام و بعد الإنتهاء من أداء مناسك عمرة التمتع يترقبون بلهفة حلول اليوم الثامن من ذي الحجة لأنهم يتوافدون محرمين نحو عرفات و مشعر و منى بكل الشوق و الإبتهال إلى الله. و بعد انتهائهم من الوقوف في يوم عرفة في التاسع من ذي الحجة يذكرون الله عند المشعر الحرام و بكل ما يمتلكون من الحالة المعنوية ينتظرون حلول عيد الأضحى ليرموا الجمرة العقبى و ليذبحوا و ليحلقوا رؤوسهم و يخرجون من الإحرام.
وقعت هذه الحادثة المفجعة في صبح عيد الأضحى المبارك في أصعب المكان و الزمان. لم نكن نتوقع أن تحدث مثل هذه الفاجعة في هذه الظروف. كنّا برفقة مجموعة من الأصدقاء مثل الأستاذ فولادكر و … . بتنا في المشعر الحرام. حافلتنا تقدمت كثيراً إلى أن وصلنا إلى الحدود بين المشعر و منى. نزلنا من الحافلة و بتنا هناك بكل التفاصيل المعنوية لهذه الليلة المباركة. أخذنا قسطاً من الراحة هناك.
و قبل ساعة من الفجر كان الجميع مستيقظون و انشغلنا بالذكر والعبادة وقيام الليل واستمرت عبادتهم إلى شروق الشمس وانطلقنا بعده جميعاً نحو منى.
أحد أصدقائنا كان يتحفظ و يحتاط كثيراً في الأحکام الشرعیة، كان يقول فلنقف و لاننطلق إلى أن نطمئن و نتيقن أنّ الشمس أشرقت!
على كل حال تحرّكنا. و في جماعتنا كانت المعنويات عالية لاسيما حالة «الأستاذ المرحوم فولادكر». كان يردد كثيراً هذه العبارة: هذه المشاهد لاتكرر في أي مكان آخر! و حقّاَ إنّ مشهد مسيرة الحجاج نحو منى محرمين و ملبين لبيك اللهم لبيك لم يكن يتكرر في أي مكان آخر.
عندما أشرقت الشمس و ضوءها بدأ يلامسنا شعرنا بحرارة الجو. فقد كان الطقس حاراً بدرجة أننا تعرّقنا في هذه الساعة المبكرة من الصباح و لم يكن الجو في الصباح بارداً. حينما وصلنا إلى خيمتنا شعرنا بالعطش دون الجوع.
وصلنا الى الخيمة في الساعة السابعة و النصف صباحاً و كان الطريق أكثر ازدحاماً من السنوات السابقة التي تشرّفت للحج. وعلى مقربة من المخيمات بدأ الإزدحام يقل نتيجة دخولهم في خيمهم.
والطريف أنّ المرحوم فولادكر كان يصرّ على أن نأخذ معنا الماء كثيراً و جلب معه أربع قنينات ماء. أنا أخذت معي قنينتين و قلت في نفسي إذا شعرت بالعطش سيكون هناك الماء متوفر في أثناء الطريق!
* توجيه الحجاج إلى شارع 204
خرجنا من الخیمة باتجاه الجمرات لرمي الجمرة العقبة لیوم عید الأضحی. عندما خرجنا من خيمتنا و ابتعدنا عن مخيمات الإيرانيين في أثناء طريقنا إلى جمرة العقبة و وصولنا إلى نقطة، رأينا فيها أحد عناصر الشرطة واقفاً و بيده مكبّرة صوت يوجه الناس إلى الجانب الأيمن و تحديداً إلى (شارع 204). تدفق الحجاج من جنسيات مختلفة إلى هذا الشارع من الطرفين.
أثناء دخولنا كان الشارع مزدحماً جدّاً. و ظاهرة الإزدحام في موسم الحج طبيعية. لم تكن لتلفت نظرنا في بادئ الأمر لذلك استمرينا في مسيرنا. كان الفاصل بيننا و بين المتقدمين أمامنا قدر خطوة. كلما تقدمنا خطوة يصبح الفاصل بيننا قليل و الإزدحام يشتد. شيئاً فشيئاً امتلاءت كل الفضاءات الفارغة بيننا.
و في تمام الساعة الثامنة صباحاً و الجو حار جدّاً و اكتظاظ الجموع الحاشدة كان يضاعف الحرارة و جبيني يتصبب عرقاً. انتهيت من شرب القنينة الأولى و أتبعتها بالقنينة الثانية بعد قليل لشدة الحرارة.
* غياب عناصر الشرطة من الشارع
تقدمنا داخل الشارع بصعوبة و بعدها لم نرى أحداً من عناصر الشرطة في الشارع! عدم تواجد الشرطة في مثل هذا اليوم و في شارع مزدحم في وسط منى كان يثير الشك كثيراً! فكأنّه مخطط له حدوث واقعة ما مسبقاً. أنا تشرّفت سابقاً للحج و لكن لأول مرة أرى الشوارع المنتهية الى الجمرات خالية من الشرطة و العناصر السعودية.
المثير للدهشة أنّه لماذا بين كلّ هؤلاء القتلى أي أكثر من 7000 حاج شهيد لانرى فيهم سعودياً واحداً؟ و لاحتى من بين الدول الصديقة المتحالفة مع السعودية. أغلب الشهداء كانوا من إيران و الدول الإفريقية و باكستان و الهند اما المصريين و الجزائريين فكانوا قليلين ممن اراد منهم أن يلتحق بخيمهم المحيطة بالشارع.
عندما أردت أن اشرب من القنينة الثانية صبرت دقيقتين أو ثلاث لكن لاجدوى شعرت بعدها بأنّ الماء في جسدي نفذ ففتحت فوهة القنينة و شربت قليلاً ثم أحسست بأنّ يداً تضرب على كتفي. رجعت إلى الوراء فإذا برجلٍ باكستاني يشير إلى نفسه و زوجته و إراد إفهامي بأنّهما في أمس الحاجة لشرب الماء. فأشفقت عليهما و قدمت لهما القنينة. لم يكن لأحد منّا أن يتوقع الفاجعة التي ترتقبنا .
* أبواب الخيم مغلقة مسبقاً
تقدمنا قليلاً ففوجئنا بأنّ حركة الحجاج توقفت نهائياً و هذه كانت علامة سيئة أدّت إلى قلقنا و نحن في حالة نرى أنّ مئات من الحجاج يدخلون الشارع في كلّ لحظة فلماذا توقفنا هنا؟
والذي أثار استغرابنا أكثر أنّ أبواب كل الخيم المحيطة بالشارع كانت مغلقة و هذه الحالة ليست طبيعية حيث أنّ في ايام المبيت بمنى عادتاً أبواب الخيم مفتوحة و هناك حارس بالباب يراقب الدخول و الخروج. و لايمكن تبرير ذلك بأنّهم خافوا من المشهد لأنّ الحجاج كانوا في بداية سيرهم ولم يكن يحدث بعد فاجعة ومع ذلك أنهم كانوا مغلقين كل الأبواب.
* نفاذ مياه شرب الحجاج
شيئاً فشيئاً نفذت المياه التي كانت مع الحجاج فتوجهوا نحو الخيم طالبين الماء من أهلها غير أنّ من كانوا في الخيم امتنعوا عن ذلك!
كنا 4 او 5 أشخاص فقال أحدنا نتنحى جانباً لعلنا نجد شربة من الماء لكنني أنا و الأستاذ فولادكر قلنا بعد قليل يتحرك الحجاج فلنصبر هنا. لكنه لم يسمع كلامنا و انفصل عنا مع أحد الرفاق. لكنني أنا و الأستاذ فولادكر و أحد الأصدقاء الآخرين بقينا في مكاننا.
بدأت ملامح الفاجعة و ذلك بارتفاع أصوات الحجاج الضعفاء لاسيما كبار السن و العجزة بسبب شدة الحرّ و العطش فكان من أغمي عليه ينتهي مصيره بسحبه الى جانب الشارع بمشقة بالغة. و حينما كان المسعفين من الحجاج أنفسهم يطلبون المساعدة ممن كانوا في الخيام كان الرد منهم الإمتناع و الرفض و هذا الموقف أدى الى ارتفاع الأصوات أمام أبواب الخيم.
احد أصدقائي «السيد فاطمي» و مع أنّه كان شاباً إلا أنّه فجأة التفت نحوي وبدأ يناديني: يا سيد! أنا اختنقت! فسقط بين يديّ مغشياً عليه فاخذناه الى جانب الشارع سريعاً و قمت بترويحه و ترويح نفسي بملابس الإحرام لأنني بدأت أشعر بارتفاع حرارة جسدى و أنّه في أي لحظة قد ينقطع نفسي فالظرف كان صعبة للغاية مما جعل التنفس صعباً.
اقترب إلينا السيد فولادكر و قدّم من قينيته قدراً يسيراً من الماء. صببته على وجه السيد فاطمي فأفاق و قلت له تنفّس الصعداء فليس ثمة شئ مهم. عندما تحسن حاله قام و قال لنا أنا أذهب و تفرقنا عن بعضنا. تقدمنا مع جموع الحجيج ثم توقف السير من شدة الإكتظاظ و الإزدحام. لم يكن هناك من أحد يحذر الحجاج أو يوجههم لعدم دخولهم إلى هذا الشارع.
* الحجاج يتسلقون الأسوار
رأينا أمامنا كيف أنّ بعض الحجيج بدأوا يتسلقون الأسوار الحديدية التي تفصلهم عن الخيم و كيف أنّهم يلقون بأنفسهم على سطح الخيم بقلق و خوف. و مثل هذه الحالة كانت تثير استغرابنا.
كلّ الأيادي كانت ممتدة نحو الخيم و مطالبة بالماء. و امام الخيم كانت هناك حالة من المناوشات بين الحجاج محاولة منهم للهجوم عليها و اقتحامها ليفتحوا أبوابها غير أنّها قوبلت بمحاولات من الداخل لصدهم و ضربهم بالخشب ليتمكنوا من إبعادهم عن الأبواب و هذه الحالة زادت في تعقيد الأمر و أبطاء سير الحجاج أكثر. وصلت الحالة إلى درجة أصبح العطش و الإغماء حالة عادية! مما نجم عن ذلك تساقط الحجاج مغشياً عليهم حوالينا لكن لم يكن هناك مجال لأخذهم من وسط الزحام الى جانب الشارع.
بعض من كانوا من قافلة واحدة يتسنى لهم أحياناً عمل حلقة إنسانية و من خلالها يحاولون حمل هؤلاء الى جانب الشارع لكن الإزدحام الشديد لم يسمح لهم بذلك.
الموج البشري ينقلنا من مكان الى الآخر. كنت أبحث في كل الشارع عن خزانات للمياه فلم أجدها. وجدت فقط مكاناً فيه بعضاً من أنابيب الماء كان الحجاج قد هجموا عليها لكن نتيجة الإكتظاظ الشديد لم يكن في مقدورهم أن يشربوا منها بل كان يحتمل خطر الموت لمن يقترب إليه.
كان لدينا الأمل باقياً بأن يكون ذلك التدفق مرحلي و ينتهي و نواصل السير و نتتهي من هذه الحادثة. كنا قد وصلنا الى وسط شارع 204 و بدأت البنايات الحمراء المقابلة للجمرات تبدو ظاهرة لنا. قلت لصديقي الذي لم يسبق له الحج من قبل: عند وصولنا الى هذه النقطة سوف ينتهي كل هذا الإشكال.
الجو كان خانقاً و لم يكن من نسيم أو رائحة. حتى أنّ المروحيات المخصصة لرش الماء على الحجاج كانت مطفئة.
* تدفق أمواج البحر الإنساني
کانت الجموع مثل البحر المتلاطم و السفينة في حالة الغرق. اكتظاظ الناس كأنّه أمواج بشرية تأخذنا يمنة و يسرة حتى أنّ عديد من الحجيج نزعت عنهم ملابس الإحرام و كنت أحاول أن أحتفظ بملابسي غير أنّ أجساد الحجاج كانت متعرقة لدرجة أنّه عند ملامستنا لأبدانهم كنّا نشعر بحالة سيئة و بشدة حرارتها بيد أنّ الأفارقة أصحاب القامات الطويلة غالباً ما كانوا سبباً في سد التنفس عنّا.
صارت الدنيا مسودة أمام عيني فكلما انخفض الضغط كان حتماً عليّ رفع رأسي لأتنفس الصعداء و أتمكن من إيصال القدر الأكبر من الأكسيجن لجسمي.
الضغط كان يشتد كل لحظة إلى درجة أنّه كان من الواجب لأي حاج لإنقاذ نفسه أن يقوم بدفع الآخرين أو توجيه الضرب لهم. فويل للحاج إن وقع له حادث يسبب سقوطه أو صار لباس إحرامه تحت رجله فما كان في مقدور أحد على مساعدته إلا بمشاركة 4 أو 5 آخرين.
* العطش و صرخات الحجيج
إرتفعت الأصوات بالبكاء و الضجيج، والعطش كان يزيد في الطين بلة.
و ما كان عليك إلا أن تجتهد في إنقاذ روحك غير أنّ شدة العطش لم تسمح بذلك إذ كان العطش شديداً لدرجة أنّه لم تعد قادراً على التحكم بتصرفاتك، عندها فقد التركيز الذهني نهائياً و لم يبقى سوى القلق و الإضطراب سيدا الموقف.
و في حال أنّك في تلك الأثناء قد تواجه عربة للمعاقين فإنّه ليس بمقدورك تجاوزها و سيؤدي ذلك إلى سقوطك أرضاً.
كان أحد الحجاج وهو بجانبي يحمل معه مظلة فكنت أرقبها لئلا تدخل في عيني غير أنّ يد المظلة تنهال ضرباً على رأسي و لم يكن بالإمكان تنبيه أو نهي صاحبها. و في الوقت ذاته كنت أحاول الحفاظ على على ملابس إحرامي أن لاتبقى تحت رجلي و كذلك كنت حذراً أن لاتقع قدمي على من سقط على الأرض.
كنت أشعر بثقل شديد على صدري و كان في مثل هذا الحال الحديث صعباً حتى صارت عملية التنفس مشكلة بالنسبة لي و بدأت الكلمات تتقطع شيئاً فشيئاً .
الأرض كانت مليئةً بأمتعة الحجيج مثل المنشفة والحذاء و… وهذه الأمتعة كانت سبباً في إعاقة السير.
* صدود عن سبيل الله!
الفاصل الذي بيننا و بين من سدّوا الشارع أمام الحجاج كان أقل من 100 متر و كنت أشاهد الحجيج و قد التف بعضهم حول بعض و كأنّ دوامة تعصر بهم و هذا الإلتفاف و الضغط كان بدرجة أنّ لاأحد يقدر إدارة تصرفاته. فليس بالإمكان تسلق الأسوار ولاسبيل لذلك وبعدها لم يعد في مقدور أحد أن يقترب إلى الأسوار و من أراد الإقتراب نحو الاسوار كان عليه ضرب الآخرين و قتلهم ليتسنى له الوصول!
في مثل هذه الحالات كانت هناك مشاهد أليمة: أصيب بعض الحجاج بالجنون فكان يضرب أحدهم الآخرين لانه لم يعد في مقدوره التنفس.
أتذكر أنّه أصيب ظهري بضربات موجعة متعددة فمثلاً بعض الافارقة ضربوني بمرفق أيديهم و كذلك يضربون من حولهم من الناس بدافع فتح الطريق أمامهم!
* سقوط الحجاج مغشياً عليهم
هنا بدأت تنهار جموع الحجاج و يتساقط بعضهم على بعض، ففي كل دقيقة يسقط ما بين ثلاثة و أربعة حجاج فوق بعضهم. و في هذه اللحظات تتعالى أصواتهم مطالبين الحجاج أن لايسقطوا عليهم. و في جانبي سقط ما بين 7 او 8 أشخاص و تدافعُهم أدّى إلى سقوطي عليهم. و في الوقت نفسه كنت أضع يدي على أكتافهم لئلا أسقط عليهم و لكنهم كانوا يضربونني و يتحججون أنّ يدك تسبب ضغطاً لنا! و لم يكن لي مجالاً لأوضح لهم سبب تصرّفي ذلك. بدأ أحدهم بالتعارك معي لكنني بصعوبة قلت له إصبر سوف أخرجك من هنا. و عندما تمكنّت من الوقوف على رجلي أخذت بيده وأخرجته من بين الناس.
وفي مشهد آخر كان هناك حاجاً شديد السمنة ملقياً على الأرض يطلب النجدة منّي كان يصرخ و يبكي لكني عندما يئست من مساعدته أخرجت يدي من بين أكفه بصعوبة و كنت حزيناً جداً لعدم تمكني مساعدته. كان البعض يشدون ملابس إحرامي من الوراء لانقذهم و كنت مجبراً أن أنقذ نفسي من بين أيديهم! فأصيب جرّاء ذلك جسدي بعدة جراحات.
* مشاهد استشهاد الحجاج المفجعة
وما آلم قلبي أنني كنت أشاهد الحجاج بجانبي يموتون بجانبي و ليس بمقدوري فعل أي شئ أقدر لهم! تحول الشارع إلى ساحة مقتل للحجاج!
إحدى النساء الإفريقيات حاولت التسلق من على السور و نتيجة لشدة الإزدحام التصق وجهها بالسور و بقيت تصرخ لشدة الألم إلى أن جاء رجل و وضع قدمه على كتفها لتتمكن الوصول الى سطح الخيمة و المرأة مستمرة في صراخها ليأتي بعد ذلك شخص آخر لكن أنين تلك المرأة بدأ يضعف شيئاً فشيئاً إلى أن اختفى صوتها و صار جسدها تحت ركام الأجساد الأخرى!
وصلنا إلى مقربة من شاحنة كانت واقفة و وقوفها في ذلك الشارع كان عجيباً جداً إذ كان عمل هذه الشاحنة هو نقل ما يحتاجه الحجاج إلى خيامهم لكنّ السؤال الذي يطرح نفسه لماذا هذا الوقوف في طريق الحجاج؟ إذ أنّ وقوفها هذا أخذ ثلاثاً من مساحة الشارع. جمع كبير من الحجيج التجأ إلى الشاحنة ظنّاً منهم أنّها قد تكون بمثابة المنقذ لهم من التدفق المهول و التفّوا حولها و كان ذلك الإلتفاف سبباً في سد نصف الشارع بالكامل.
* الدوامة البشرية
بعد الوصول إلى هذه النقطة لم نستطع أن نتقدم و لو خطوة واحدة. 45 دقيقة كنّا ندور و نلتف حول أنفسنا، فالزحام بدرجة لو تسقط مجموعة من الحجاج على الفور يمتلأ الفراغ بالآخرين. كنت أشعر بأجساد الحجاج و لحومهم تحت أقدامي! كنا نحافظ على اعتدالنا بالإمساك بمن حولنا. وصف هذه اللحظات صعب جداً.
انقطعت عن الدنيا كمال الإنقطاع و لم يكن يخطر ببالي أنني أخرج من هذه الفاجعة سالماً. كنت أفكر في نفسي كيف و متى أموت! لذلك كنت أناجي ربي إذا قدّرت يارب وفاتي هنا، فلاتمتني عرياناً بل خذني إليك و جسدي مستوراً مغطّاًة.
و قبل هذه الحالة كنت غيرقادر على تحريك يدي إذ كانت يدي محبوسة بين شخصين و كادت أن تتكسر. بعض الحجاج الذي وصلوا إلى سطح الخيام كانوا يأخذون الماء من المكيف و يصبونه على جموع الحجاج في الشارع.
كنت عطشاناً و متأذى من حر الشمس كثيراً لكن عندما رُشَّت قطرات من الماء على وجهي، كأنما قدّموا لي الدنيا و ما فيها!
* لم يعد بمقدورهم التنفس
ملابس إحرامي كانت مبللة من شدة العرق و تلتف باستمرار حول رجلي. كنت أتمنى أن أتمكن من شدّها حول ظهري غير أنّ الموج البشري أوصلني قريب الشاحنة و لاأدري ما كنت أفعل هناك؟ الإزدحام كان هو من يسيّرني تارة يأخذني إلى الأمام و تارة أخرى يرجعني إلى الخلف و بين هذا التقدم و التأخر كنت كثيراً ما أسقط مع حرصي أن يكون سقوطي على ظهري لأتمكن من مشاهدة أمامي، فقد رأيت كثيراً من الحجاج كُبّوا على وجوههم و لم يعد بمقدورهم التنفس بعد ذلك.
لأنّ التنفس في حالة الوقوف يكون صعباً فما بالك بالذي يسقط بصدره و وجهه على الأرض.
بضعة آلاف من الحجاج بجانبي كانوا يسلمون أرواحهم للباري. أكثر المشاهد إيلاماً تلك التي ترى فيها الزوجة تموت بجانب زوجها و ليس بمقدور الزوج إنقاذها!
الآباء و الأمهات الأفارقة الذين كانوا يحملون معهم أولادهم الصغار كانوا يحاولون أن يوقفوا الموج البشري و يبحثون تحت أقدام الحجاج بضجة و حنين عن أولادهم لكن لاأحد كان بمقدوره فعل شئ و هذا ما كان يزيد الماً في روحنا. النساء كنّ جاهدات للحفاظ على حجابهنّ لكن غطاء الرأس كان ينكشف من شدة الإزدحام!
* لقد رأينا القيامة بأمّ أعيننا!
لقد رأينا القيامة بأمّ أعيننا! لقد رأيت الآیة الشریقة (يوم يفر المرء من أخيه) نصب عیني! لاأحد في هذه الحادثة يقدر أن يفكّر بغيره. فالظروف لاتسمح أن تفكّر بغيرك. قال لي أحد الأصدقاء الذي بجانبي: تعال لنذهب جنب الأسوار. أجبت عليه بكلمات متقطعة: سوف تموت لو تذهب إلى هناك. كانت القضية محسومة لي. فيما بعد رأينا أنّ الحجاج ماتوا بجانب الأسوار بعضهم على بعض في خمسة أدوار!!
كان بعض الحجاج من سطح الخيام قدعلّقوا ملابس الإحرام لينقذوا بها من كان في استطاعته الإمساك بها. كانت إمرإة جزائرية فوق سطح الخيمة تبكي و تشير بيدها أن لاتقتربوا هنا. هنا توفي الحجاج!
رأيت أحد عناصر الشرطة السعودية تسلّق إحدى أعمدة اتصالات الهواتف النقالة و كأنّه يشاهد فلماً جذاباً و بدون أي قلق كان ينظر المشهد!
* طائرات الهليكوبتر
شاهدت طائرات الهليكوبتر تحلّق فوق المشهد لكنها لم تغيّر أبداً من إتجاه تحليقها فلم تتجه مثلاً فوق رؤوس الحجاج و لم تبلّغ العناصر الأخرى بسرعة إسعافهم و كأنّ مشكلة لم تقع و كل شئ على مايرام. على حد تعبير أحد الإخوة لو كانت هذه الطائرات تنزل قليلاً فإنّ مروحياتها بما فيها من الهواء كان يمكن أن تنقذ الأغلب منهم هؤلاء الحجاج و تساعدهم في التنفس في ظلّ هذا الجوّ الخانق.
كنت أسعى أن أتنفس الصعداء رفعت رأسي لأتنفس لكن الجو لايساعد على ذلك. شفتاي جفّتا من شدة العطش. كنت أفتح شفتاي بصعوبة علّني أقدر على التنفس بفمي.
* الرصاصة الأخيرة!
في إحدى هذه التدفقات البشرية رأيت أنّ الحجاج تساقطوا أمامي و على بعد 15 متراً تقريباً رأيت جداراً بشرياً من الشرطة السعودية الذين سدّوا الشارع أمام الحجاج و كانوا يصرخون عليهم: (إرجعوا إلى الوراء… إرجعوا إلى الوراء) كانوا يخاطبون الذين مات وراءهم الآلاف من الحجاج و لم يكن ليتحركوا لإنقاذ أحدهم من هذا المكان. في مثل هذه الأزمات على القوى الاسعافية أن تتخذ أحسن القرار فإذا سقطت مجموعة فلابد عليهم من مساعدة الآخرين و ليس تركهم ليسقطوا أو يموت البقية منهم! كان عليهم فتح الطريق ليسير الحجاج و من ثم يأتوا لإسعاف من سقط على الأرض.
عندما رأيت هؤلاء الشرطة فكأنني أصبت بالرصاصة الأخيرة و انقطع رجائي فقلت في نفسي: أنّني سأموت قطعاً.
* «ركن آبادي» يطلب النجدة
رجعت إلى الوراء فرأيت مجموعة من الحجاج ملقين بعضهم فوق بعض خلف الشاحنة و على يميني السيد آقائي بور و بجانبه الدكتور شجاعي فرد قد ألقي مغشياً عليه و شفتاه كانت تتحرك قليلاً و كذلك الدكتور ركن آبادي رأيته سقط على الأرض ملقياّ على ظهره و معظم جسده ملقياً على الدكتور شجاعي فرد، لكنه كان واعياً. ناديته و هو يعرفني، فمدّ يده و أشار إلىّ لأساعده في النهوض من على الأرض لكن لم أكن قادراً مساعدته! فقط لمست يده و أمسكت بنفسي لئلا أسقط عليهم. فقلت له: إصبر سوف يفتح الطريق بعد 5 دقائق و من ثم أغمض عيناه و أشار بهما إلىّ أنّه فهم كلامي.
هنا كان80% من الحجاج ملقون على الأرض! و أسوأ المشاهد التي رأيتها واقعة في ذلك الوقت. من كان يقدر أن يمشي كان عليه الصعود على الأجساد الملقاة على الأرض و يهرب لإنقاذ نفسه نحو الجمرات. في هذه الأثناء رأيت حاجاً أسوداً كبيرالجثة وضع رجله على صدر إحدى النساء و مازال صوت تكسّر عظم صدرها يتردد في أذني!! هذه المرأة صرخت صراخاً عالية و توفيت بعدها في بضع ثواني! كثير من الحجاج كانوا ملقون على وجوههم في الأرض و لم يكن واضحاً أنهم أحياء أو ميّتون!
اسودت الدنيا أمام عيني. كنت أحب أن أجلس هناك و أسلّم روحي للبارئ! لكن الموج البشري لم يكن يسمح لي حتى بالجلوس!
عندما رجعت الى الوراء رأيت مشهداً مؤلماً كأنّما كنّا في مساحة من بعضة مأة أمتار، قتل بها الحجاج بسلاح الدمار الشامل. هم كانوا ملقون بعضهم فوق البعض و منهم من كان يحرّك يده و آخر رجله و البعض الآخر ميّت و الآخرون لم يبق فيهم إلا الرمق الأخير.
رأيت بعض الحجاج من سطح الخيام يرشّون الماء على من هو ملقي على أرض الشارع. أخذوا أنبوب المكيّف و رشّوا ماءه على الحجاج. تمنّيت لو يصب الماء عليّ لكنه لم يفعلوا! و وصول قطرات من الماء كان يعني لي بمثابة استضافتي في أحسن مضيف في العالم!
* تيقّنت بالموت ولاأبالي
لاأدري كيف خطر ببالي أن أرجع إلى الوراء. رجعت متراً أو مترين. يشهد الله أنني كنت أسعى لئلا أضع قدمي على صدور الحجاج لكن قطعاً رجلي لم تكن على الأرض! كنت أضع يدي على الناس و أتحرك الى الوراء. كان رأسي يدوخ. بعد ذلك رأيت كيف سقط أكثر من عشرين حاجاً في نفس المكان الذي كنت فيه و لو كنت باقياً هناك لسقط كل هؤلاء عليّ! تراجعت أكثر إلى الوراء و لم يعد بإمكاني الوقوف فسقطت إلى الأرض إستعداداً للموت!
لم أكن خائف من الموت لأني متيقن به. جسدي لم يعد يتعرق لأنّه لم يبقى فيه شئ من الماء. كاد رأسي أن ينفجر من شدة الألم و ظهري يحترق. ارتفعت حرارة جسدي بدرجة كنت أودّ أن أنزع كبدي و أتخلص منه!
* أين نحن من "یوم عاشوراء"؟
ساعتين أمضيتهما عطشاناً فقلت في نفسي فمابالك بأنصار الحسين الذين كانوا يقاتلون عطشاناً ؟! ماذا جرى عليهم؟ كما كنت أمنّي نفسي أنّنا نحن أيضاً نقدر أن نستمر في حياتنا لأنّ أنصار الحسين في شدة الحرارة تحمّلوا الأمر إذن نحن نقدر على التحمل أيضاً.
* المعجزة التي أنقذتني
کنت ملقیاٌ علی الأجساد بين جموع الضحايا. كنت أحاول الجلوس في مكان فارغ إلا أنّه لم يكن هناك مكاناً فارغاً . شعرت بوجود قنينية سليمة تحت يدي فقربتها أمام وجهي و وجدت أنّ ثلثيها مليئة بالماء. هنا أدركت أنّ الماء بمثابة الحياة!
فرحت كثيراً و فتحت فوهة القنينةً. اعتبرت المشهد معجزة. شربت نصف الماء و استعطت أن أرى من كان حولي. شاهدت بعض الحجاج و لم يبقى لهم إلا القليل من رمقهم الأخير و يشيرون إليَ بأيديهم متوسلين يطلبون منّي الماء فبدأت أسقيهم و أصب في فم كل واحد منهم جرعة من الماء. سقيت ما يقارب خمسة أشخاص. كان واحد منهم عجوزاً إيرانياً. سقیته فخرج من حنجرته صوتاً أدركت من خلاله أنّ لاقدرة له على بلع الماء وتوفّي بعد دقائق.
شربت جرعات أخرى من الماء لكن بدون جدوى. ارتفعت حرارة جسدي بدرجة كنت اتمنى معها الموت. رأيت أحدهم يشير إليّ من السطح و يريد أن يلقي لي قنينة من الماء. ألقى القنينة فسقطت بعيداً عنّي بفاصل مترين و لم تكن لدي القدرة على الحركة لأخذها. فإذا به يرمى لي قنينة أخرى. استعطت أخذها هذه المرة و شربت منها قدراً من الماء. و إذ بإمرأة على بعد مترين منّي نصف جسدها كان محبوساً بين اجساد الحجاج. متضرعة لي بأن أسقيها الماء. و عندما كنت أحاول الوقوف أفقد توازني فلم أكن لأدرك كيف وصلت إليها و قدمت لها القنينة.
قلت للشاب الذي كان على السطح أن يرمي لي الماء فرمى الى قنينة أخرى، سقيت بها مجموعة من الحجاج. و طلب مني أن أرجع إليه القنينة ليعبئها مرة أخرى. كان يعبئ القنينات من الأنبوب الذي يوصل الماء للمكيّف! كانت حرارة الجسد مرتفعة جداً لكن كنا مجبورين أن نشرب من ذلك الماء الساخن. فمن ناحية كنّا مجبورين على شربه رغم سخونته! رمى لي قنينة أخرى عبرت من فوق رأسي و سقطت بعيداً عنّي و لم يبق لدي طاقة للذهاب لأخذها. أصبت بدوّار في رأسي و سقطت على إحدى الأجساد. قلت لنفسي حينها حان وقت رحيلي! فرددت الشهادتين عدة مرات.
وفجأة سمعت صوت ضجة من ورائي. فإذا بالسور الحديدي لإحدى الخيم قد قلع من مكانه و سقط على الحجاج. هناك مجموعة منهم هرعوا ليدخلوا الخيمة من على السور الحديدي و الله وحده يعلم ماذا جرى لمن كان تحت هذا الحديد!
إصعد على الخيام عندنا!
كنت الوحيد الذي يستطيع أن يتحرك بين مئات الضحايا ممن حولي و لذا أشفق عليّ شاب و أشار إلي أن أصعد على الخيام عنده. قال لي: تعال نساعدك لتصعد لدينا في الأعلى. إذ كنت متكئاً لجنازتين فرددت عليه: أن لاقدرة لي على الحراك لكنّه كان يرفع معنوياتي. كان أمامي تلال من الضحايا و ما كنت أسمح لنفسي أن أعبر من فوق الجنائز. إلتفت فإذا بشخص جالس على كرسي المعاقين تحت ذلك الركام الإنساني!
* تحطّم رأسه تحت الأقدام
و عندما أردت أن أخرج من بين تلك الجنائز شاهدت أكثر المناظر بشاعة و فجاعة: حاجاً إيرانياً متوفياً ملقياً على ظهره و رأس حاج إفريقي على صدره لكن الرأس كان محطماً من كثرة الأقدام التي داست عليه ممن أرادوا إنقاذ أنفسهم و التسلق إلى سطح الخيمة. ارتعبت كثيراً فجلست في مكاني. كلما كان يصرخ الواقفون فوق السطح لمساعدتي لم أكن لأسمع صرخاتهم. كنت مثل الغريق الذي أرادوا إنقاذه من الطوفان.
* معلقاً بين الأرض و السماء
أوصلت نفسي نحو الأسوار و استطعت القيام و وضعت رجلي على الحديد الذي كان موضوعاً بشكل أفقي و بقيت متشبساً بذلك الحديد لئلا أسقط. ظلّوا ينادونني لكن لم أكن قادراً على رفع رأسي و النظر إليهم. فجأة وجدت أنّ منشفة الإحرام عُلِّقت أمام وجهي فأمسكت بها بيدي اليسرى و هم يجرونها من الأعلى. كنت ضعيفاً لاأقوى على الإمساك بها ففقدتها من قبضتي فألقوها إليّ مرة أخرى و هذه المرة استطعت لفّها حول يدي ثلاث لفّات و أمسكت بوسطها بكل ما كنت أمتلك من قوة. أخذوا يجرّوني إلى السطح فصرت معلّقاً بين الأرض و السماء. كادت يدي تنقطع لكن أحدهم أمسك بيدي اليمنى. ثلاثة منهم شاركوا بصعوبة بالغة في رفعي إلى السطح. و عند وصولي إلى السطح سقطت مغشياً علي.
بعد دقائق أفقت و رأيت ما بين إثنان إلى ثلاثة أشخاص واقفين على رأسي و يروّحوا لي بملابس الإحرام. أحدهم كان يصب على الماء و الآخر يروّح لي. أرادوا أن يشربوني ماءاً ساخناً فرفضت و لم أكن لأقدر على شربه إلا أنهم أرغموني على شربه مكرهاً.
كان من بينهم شابّاً إيرانياً قال لي: "قم من مكانك و استرح تحت ظل المكيّف". انطلقت إلى هناك وكان المسير 8 أمتار لكنني سقطت ثلاث مرات في هذه المسافة القصيرة!
تركوني وذهبوا لإسعاف الآخرين. كان المشهد مروّعاً بدرجة لم يكن يتجرأ أحد أن ينزل إلى الأسفل. الشارع كان مليئاً بالأجساد في مساحة بضعة مئات أمتار. كنت أقدّر أنّ عدد الجنائز يصل إلى 6 آلاف حاج و حاجة.
وصلت إلى المكيّف و هناك وجدت شاباً إفريقياً على مقربة منه. كان قد فتح باب المكيّف و يصب الماء على جسده. أدخلت يدي في الماء شعرت أنّه حارّ، فغسل منه وجهي و كان في الجوار قنينة ماء فارغة، عبئتها لأشرب منها لكن الافريقي أخذها مني ورماها، ثم عبئ القنينة من الأنبوب وقدمها لي، ففهمت أنّه فعل ذلك لأنّ الماء الذي بداخل المكيف متغيّر اللون.
* فلما نجّاهم إلى البرّ…
عندما كنت ملقياً بين الضحايا، كنت أذكر الله مخلصاً و أستغفره مبتهلاً. فقد كنت أفكّر مع نفسي عندما وصلت إلى السطح: كيف أنّ الله أنجاني من الموت، فهل هذه الآية المباركة تنطبق عليّ؟ ( فَلَمّا نَجّاهُم إِلَى البَرِّ إِذا هُم يُشرِكونَ ). حينما كنت بين الضحايا و يئست من الحياة نذرت لله أن أذبح قرباناً وأقوم بتوزيع لحمه بين السادة الأيتام وبقيت أناجي الله: يارب لو أنقذتني من الموت أعاهدك أن لاأضيّع عمري بالباطل.
شريط ذكريات الحياة بدأ يمرّ أمام عيني: مرحلة طفولتي، أيام المدرسة ودخولي الحوزة العلمية ومن ثم زواجي وكيف أنّ الله رزقني الأولاد ووفقني لزيارة الإمام الحسين(ع) بكربلاء وكأنّ تلك اللحظات كانت تودعني. وآخر من ترائت صورته أمام عيني، إبنتي الصغيرة «فاطمة». تمنّيت لو أقبّلها مرّة أخرى لشدة تعلّقي بها.
عندما وجدت القنينة الأولى سمعت أنّ هاتفي يدقّ. أجبت عليه بصعوبة و قلت لهم: أنا على وشك الموت أبرؤوا ذمّتي في أمان الله! كنت متيقناً أنني أموت و أردت إخبارهم بالوصية لكن هاتفي انطفأ. بعد عودتي من الحج سالتهم، فقالوا لي: أنّ الصوت كان غيرواضح فظننا أنّك تقول: أنّك أنطلقت ولذلك فسرنا أنّ تقطع أنفاسك سببه هو مشيك نحو الجمرات!
الشاب الإيراني الذي كان على السطح قال لي تعال يا أخي ساعدنا لإيصال الماء إلى هؤلاء الحجاج فسيموتون كلهم من العطش. لكنني كنت واضعاً رأسي على المكيّف ولم أكن قادراً على الوقوف. كنت آخذاً القنينات وأعبئها بالماء من الأنبوب.
الخيمة مليئة بالحجاج و قد مات العديد منهم. وظلّ الشباب يصبون الماء من فتحة الخيام إلى داخله بالانبوب.
* الشارع كان مليئاً بأجساد الحجاج
في ساعة 10:30 صباحاً انتهت تلك الأحداث المأساوية و المروّعة باستشهاد العديد من الحجاج. وعلى بعد 500 متر بقي الناس على مقربة من محلّ الفاجعة الناس يشاهدون تلك الأجساد المتراكمة فوق بعضها. وقد صارت بعضها أشلاء إختفت ملامحها و تغيّرت لكنّهم لايقتربون إليها. على طول ذلك الشارع كانت الأجساد مليئة به.
كنت أبقى تحت أشعة الشمس المحرقة قرآبة ساعتين مع محاولة إبلال مناديل و وضعها على رأسي و أصبّ الماء على صدري رغم الحرارة الشديدة فكنت أعبئ القنينات بشكل مستمر.
مضي نصف ساعة تقريباً، فجأة تذكرت أصدقائي متسائلاً مع نفسي: ماذا جرى للسيد فولادكر؟ ماذا عن ركن آبادي؟ فأجهشتُ بالبكاء بصوت عالٍ و لمدةٍ طويلةٍ، فتأثّر من كان حولي من حرقة بكائي. فالعين تدمع و اللسان يذكر الله.
كنت خائف أن ينتهي ماء الأنبوب و بما أنّ الفاجعة كانت أليمة وكبيرة جدّاً، تحدّثت إلى نفسي و قلت: يجب أن أستفيد بشكل أكبر من الماء قبل أن ينفد. سألت الشاب الإيراني ما الخبر؟ فردّ علي: الجميع يموتون.
وبجنبي جلس عجوزان من شيراز فعبئت لهما قنينتا الماء. أحدهم نهض لتصوير الفلم وتلك الأحداث التي كانت تقع في الشارع بهاتفه النقال و بعد أن وصلنا إلى خيمتنا قلت لأصدقائي إذهبوا و ابحثوا عن ذلك العجوز فمثل هذه الأفلام و الصور ثمينة جداً إذ تمكّن من تصوير الحادثة من على سطح الخيمة و لأنّ أفلامه من عمق الفاجعة وكان مانشر فيما بعد من مشاهد للواقعة كان بعد مرور ثلاث أو أربع ساعات من انتهاء الفاجعة و إلى الان لم أجده لأتمكن من الحصول على تلك الأفلام!
* وصول سيارات الإسعاف في وقت حرج
شيئاً فشيئاً بدأت أسمع أصوات السيارات السعودية و كان ذلك حوالي الساعة 13:30 و بصعوبة بالغة قمت و تمكنّت من رؤية الشارع رغم أنّ منشفة الإحرام الخاصة بي كانت مبللة بشكل كامل وصارت ثقيلة فلم أكن قادراً على الجلوس و بقيت أشاهد ما يجري في الشارع وأنا ملقي وجسدي فيه ضعف شديد.
أتت قوات الإسعاف المدنية وكانوا عاجزين عن فعل أيّ شئ فهم لايعرفون ما يجب أن يفعلوا! كلّ ما قاموا به هو ترتيب كلّ هذا الجثث مرصوصة جنباً إلى جنب.
ومن كان بقي له شئ من الحياة يموت لشدة الحرّ. الذين حضروا الشارع من قوى الإسعاف عددهم كان ما يقارب 200 من قوى الدفاع المدني يلبسون معاطف برتقالية اللون واقفون ينظرون المشهد دون أن يحرّكوا ساكناً. و وددت أن أنزل من سطح الخيمة و أصفعهم و أصرخ في وجههم: أما تروون أنّ هذا الحاج مازال يتحرّك ؟ لكنّهم لم يكونوا ليتحركوا إلا أن يقال لهم أحد إفعل كذا! و حتّى عند تذكيرهم بواجبهم أحياناً لايستجيبون إذا قال لهم أحد الحجيج: هناك شخص مازال حيّاً وأعطاهم العنوان فلم يكترثوا له وسحبوا من يده السرير.
من الأمور التي تؤلمني أنّ في منى خراطيم مياه إطفاء الحريق كثيرة مربوطة بخزانات كبيرة، إذا كان بإمكان قوى الدفاع المدني فتح تلك الأنابيب على الحجاج مما لايدع شكّاً أنّ عدد الضحايا كاد أن يكون أقل من نصف العدد الذي وصلوا إليه. وربما كان ذلك ساعدهم في تخفيف حرارة أجسادهم ومساعدتهم على تحسين قدرتهم في التنفس.
ألا لعنة الله على القوم الظالمين و سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون...
source : abna24