الشعائر الحسينية... الجذور والمعطيات
محمد الصفار
لم يشهد التاريخ مثيلاً لما جرى في كربلاء ، فقد احتضنت هذه الأرض أروع ملحمة على وجه البسيطة ، ملحمة جسدت أعلى التضحيات ، وأرفع المبادئ وأسمى القيم ، حتى أصبحت علماً وشعاراً لكل إنسان يبغي الكرامة في الحياة ، كما أضحت رمزاً لرفض كل أنواع الطغيان والإستبداد ، وبقيت هذه الملحمة جذوة لا يخمد أوارها في الضمير الإنساني الحي.
كما بقيت المنبع الذي تستقي منه الثورات أهدافها ، وتستلهم مبادئها وتقتدي بأبطالها، فكانت بمثابة الروح التي تحرك الثورات التي تتفجر ضد الأنظمة الفاسدة ، فهي متجددة في كل زمان بسطوعها وتوهجها وروعتها ، وهي المثل الأعلى في التضحية والفداء في سبيل الحق والعدل .
فمنذ أن سقط دم الإمام الحسين (عليه السلام) وأهل بيته وأصحابه وهم يرفعون راية الرفض بوجه الظلم ، أصبحت كربلاء قبلة النفوس ومهوى للأفئدة .
ومنذ ذلك اليوم انطلقت الشعائر الولائية التي مثلت انعكاساً لهذا الرفض وامتداداً لتلك الثورة ، وبقيت الدفقات الولائية التي تطلقها هذه الشعائر هي التي تعطي للثورة روح التواصل بينها وبين الاجيال ، وتصور المفاهيم التي ثار من أجلها الإمام الحسين (عليه السلام) .
وصارت الجماهير على امتداد التاريخ تزحف في يوم عاشوراء الى كربلاء لتجدد البيعة للأمام الحسين (عليه السلام) ، لأنها وجدت فيه أباً للأحرار ورمزاً للثوار.
وقد اكتسبت الشعائر الحسينية ديمومتها من حديث النبي (صلى الله عليه وآله) : ((أن لقتل الحسين (عليه السلام) حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبداً)) ، وتشير المصادر التاريخية الى أن نشأة الشعائر الحسينية تعود الى الساعات الأولى بعد استشهاده (عليه السلام) وأهل بيته وأصحابه ، فقد نصّت المقاتل والتواريخ على إقامة النوائح من قبل نساء الحسين (عليه السلام) بعد استشهاده في ساحة المعركة ، وفي الكوفة ، وفي المدينة والشام ، كما كان بعض الشيعة من أهل الكوفة يجتمعون حول قبر الحسين (عليه السلام) بالبكاء والنحيب وإنشاد الأشعار الرثائيّة ، وكانت قلوبهم تحترق لما جرى عليه (عليه السلام) ويستشعرون الندم لذلك ، حتى انبعثت عندهم فكرة الثورة ضد السلطة الأموية الجائرة ، وهم الذين عرفوا بـ(التوابين)، وكان أبرزهم سليمان بن حرد الخزاعي ، والمسيب بن نجية ، وعبد الله بن سعد بن نفيل الازدي ، ورفاعة بن شداد.
وتعد هذه الاجتماعات والنوائح ، البواكير الأولى للشعائر الحسينية ، فقد ذكر ابن قتيبة الدينوري في الامامة والسياسة (ج 2 ص 130) : أن المختار بن أبي عبيدة الثقفي ، كان أول من أقام مأتماً للأمام الحسين (عليه السلام) في داره بالكوفة ، في يوم عاشوراء وأرسل النادبات في شوارع الكوفة ، للندب على الحسين (عليه السلام) ، وبعدها توالت المجالس والمآتم الحسينية .
فكان الشيعة في تلك السنوات يجتمعون في شهر محرم من كل عام في بيت من بيوت الأئمة من أهل البيت (عليه السلام) في المدينة ، أوفي بيت أحد أصحابهم (عليه السلام) للبكاء على الحسين (عليه السلام) واستذكار يومه الدامي ، واستيحاء الفجيعة.
حيث ينشد أحد الشعراء قصيدة في رثاء الحسين وتقديم العزاء لأهل البيت (عليه السلام) ، وكان أبرز الشعراء في ذلك الوقت ، الكميت بن زيد الأسدي ، وأبي سفيان العبدي ، والسيد الحميري ، وجعفر بن عفان ، ثم جاء بعدهم دعبل الخزاعي ، وديك الجن الحمصي .
وكانت هذه المآتم تقام سراً، فقد كانت الدولة الأموية تمارس أبشع الوسائل الإرهابية بحق مقيميها ، ومن يحضرها من الشيعة في جميع الأقطار الإسلامية ، كما أقاموا حراسة مشدّدة حول القبر الشريف ، منعاً من وفود الزوار.
واشتد هذا المنع ، واتخذت إجراءات صارمة بحق الزوار بعد ثورة زيد بن علي (عليه السلام) في الكوفة ومقتله فيها سنة (121) أيام هشام بن عبد الملك ، فكان عقاب من يفد على قبر الحسين التعذيب حتى الموت.
لقد مرت الشعائر الحسينية بأدوار شتى على امتداد تاريخها الطويل ، وتعرضت لظروف قاسية نتيجة السياسات المتعاقبة ، فبعد اندثار الأمويين وزوال ملكهم ، وجد الشيعة متنفساً في بداية الدولة العباسية لإقامة الشعائر ، فعقدوا المجالس وأقاموا المناحات وأظهروا الحزن ، فالعباسيون روجوا لدعوتهم على أساس الأخذ بالثأر للأمام الحسين (عليه السلام) من بني أمية ، وكانت دعوتهم للرضا من آل محمد (صلى الله عليه وآله)، فاستغلوا نقمة المسلمين وسخطهم على الأمويين نتيجة التنكيل والقمع والإضطهاد الذي لاقوه منهم ، وما أن اعتلوا العروش وتسلموا زمام الخلافة حتى نكصوا على أعقابهم ، لأنهم وجدوا أن ثورة الحسين (عليه السلام) لم تكن ضد الأمويين وحكومة يزيد الجائرة فحسب ، وإنما كانت ضد كل الظالمين والمستبدين في كل العصور ، فأصبح اسم الحسين (عليه السلام) يقض مضاجعهم ، ويهدد مصالحهم بصورة مباشرة ، وبنفس الأسلوب الذي هدد به مصالح بني أمية ، فعمدوا الى محاربة هذا الإسم بأي شكل من الأشكال.
فقاموا بمداهمة أي بيت أو مجلس يذكر فيه اسم الحسين (عليه السلام) والتنكيل بمن فيه ، فمرت هذه الشعائر بأقسى من الظروف السابقة ، وكانت حقبة حكم المتوكل أقسى فترة مرت بها الشعائر الحسينية ، حيث أمر بهدم قبر الحسين (عليه السلام) ، وقطع أيدي زواره ، وأرجلهم ورؤوسهم ، ورغم كل هذه الهمجية والقسوة والقمع ، لم تستطع الدولة العباسية التي أوغلت في الدماء وملأت السجون ، أن تقمع هذه الشعائر التي هتفت بإسم أبي الأحرار، واذا كان الشيعة في تلك العصور القاسية التي مرت عليهم لم يستطيعوا أن يعبروا عن حزنهم العميق بمأساة كربلاء تعبيراً كاملاً ، فإن الظروف اختلفت عليهم ومال الميزان القوى لصالحهم فيما بعد.
فقد أهلك الله تلك الحكومة ، واستطاع الشيعة لأول مرة إقامة العزاء بشكل كامل في بغداد ، حيث خرج الناس الى الشوارع ، وأغلقت الأسواق ونصبت المآتم ، ولبس السواد ووضعت جرار الماء لسقي الناس ، ثم سار الناس حفاة الاقدام حاسري الرؤوس الى كربلاء لزيارة قبر الإمام الحسين (عليه السلام) ، وكان ذلك في بغداد في يوم عاشوراء عام 353 هـ - 963م ، في أيام معز الدولة البويهي .
وكذلك فعل أهالي كربلاء حتى التقوا عند قبر سيد الشهداء ، فأقاموا مواكب العزاء بشكل كامل وعلني ، وصارت مراسيم العزاء الحسيني عادةً تتبع سنوياً ، وبقي البويهيون في السلطة مدة (133) سنة أي من سنة (334) هـ الى سنة (467) هـ .
فكانت إقامة هذه الشعائر تقام بحرية تامة ، وما إن جاء السلاجقة حتى أعلنوا الحرب على هذه الشعائر، وصار الشيعة يتخذون احتياطاتهم لإقامة العزاء الحسيني ، وقد حكم السلاجقة مدة (108) سنة أي من عام (467هـ) الى (575هـ) ، وفي عهد الناصر لدين الله الذي ولي الخلافة سنة (575) ، فقد تنفس الشيعة الصعداء بعض الشيء ، فقد أطلق لهم الحرية في إقامة الشعائر من مآتم ومناحات ، وكانت هذه الشعائر تأخذ بالإتساع ، ففي القرن السابع للهجرة دخلت قراءة مقتل الحسين (عليه السلام) لابن نما الحلي ، ثم للسيد أبن طاووس ضمن منهاج المجالس ، وهذان المقتلان هما أول المقاتل التي تتحدث تفصيلياً عن المآسي الدامية لواقعة كربلاء ، وكان القرّاء يقرؤون المقتل بصوت شجي ، يستدر دموع المستمعين .
وفي عهد السلاجقة عادت على الشيعة أيام الأمويين والعباسيين في حربهم على إقامة هذه الشعائر ، غير أن الوضع تغير عند مجيء الصفويين الى السلطة ، إذ أعطوا للشيعة مطلق الحرية في ممارسة شعائرهم ، ولكن ما إن استلم العثمانيون مقاليد الحكم حتى أصدروا أوامرهم بمنع إقامة العزاء الحسيني ، فاضطر الشيعة الى إقامة مجالس العزاء في البيوت بصورة سرية ، بالرغم من المنع الشديد الذي فرضته على مقيمي مجالس التعزية ، وحينما غزا الوهابيون مدينة كربلاء ، ذلك الغزو الوحشي البربري عام 1802 ، استباحوها قتلاً ونهباً وتهديماً وتحريقاً ، وقاموا بحرق المرقد الشريف بعد أن سرقوا كل ما فيه من كنوز ونفائس ، وقتلوا كل من وجدوه فيه ، كانت صدور الشيعة موغلة جرّاء المظالم التي يتعرضون إليها ، والتكتم الشديد على إقامة شعائرهم ، فزاد هذا الحادث الأليم الذي أعاد مأساة كربلاء عليهم مرة ثانية من حزنهم وغضبهم وتمسكهم بشعائرهم ، فأفرغوا فيها ما أمتلئ في صدورهم من غضب في خطبهم وقصائدهم ومراثيهم ، التي امتزجت بشعائر العزاء الحسيني والتي هي مصدر إصرار وتحدي للظلم والظالمين.
فما أن أعاد الوهابيون الكرة عام 1807 ، حتى تصدى لهم أهالي كربلاء وطردوهم بعد أن تحصنوا للدفاع عن مدينتهم ، وبعد الإطاحة بالمماليك وسقوط داود باشا ، تم تعيين علي رضا والياً على بغداد ، وكان هذا الوالي يميل الى التشيّع ، ويحب الإمام علي (عليه السلام) والأئمة من ولده (عليهم السلام) ، فسمح بإقامة العزاء الحسيني ، الذي أخذ بالنمو والتطور تدريجياً في ذلك العصر.
حيث كان الوالي يحضر بنفسه مجالس التعزية التي تقام في البيوت ، ثم امتدت إقامة المجالس الحسينية إلى المساجد والمدارس الدينية وأضرحة الأئمة (عليه السلام) ، بعد أن كانت مقتصرة على البيوت ، وفي ذلك الوقت نشأت مواكب المسيرات الشعبية (اللطم) ، وكان أول موكب هو للشيخ محمد باقر أسد الله ، المتوفي سنة (1840) في الكاظمية .
أما في كربلاء فإن أول موكب من (اللاطمين) كان بإشراف آية الله الشيخ محمد جواد البلاغي ، وعنه أخذت وتوسعت ووصلت الى ما هي عليه الآن .
واستمرت مجالس التعزية وبقية الشعائر الحسينية تمارس بعد حكم الوالي علي رضا ، إذ كان الولاة بعده على خطة ، حتى جاء مدحت باشا فحاول منع هذه الشعائر، لكن محاولته باءت بالفشل ، وفي بداية القرن الماضي كانت هذه الشعائر قد ترسخت وأخذت طابعاً جماهيرياً ، وخاصة في المدن المقدسة مثل النجف الأشرف ، والكاظمية ، وكربلاء المقدستين .
فإلى جانب مجالس التعزية أقيمت مواكب (اللطم) ، وضرب السلاسل (الزنجيل) ، والتطبير والتشابيه ، أي تمثيل واقعة الطف ، ومقتل الإمام الحسين (عليه السلام) .
وتم بناء أول حسينية في كربلاء عام 1906 ، ثم تعددت الحسينيات بعدها ، واستمرت المواكب الحسينية خلال الإحتلال الانكليزي للعراق ، وبعد تأسيس المملكة العراقية عام 1921 ، أعلنت الحكومة العراقية يوم عاشوراء عطلة رسمية في عموم العراق.
لأول مرة وفي عام 1928 حاولت السلطات منع إقامة المواكب ، لكن الجماهير التي تعودت حناجرها على الهتاف (يا حسين) ، كسرت طوق المنع وخرجت المواكب لتؤكد أن ثورة الحسين (عليه السلام) لم تكن مجرد معركة بين فئتين في حقبة ماضية من الزمن ، بل أنها كانت تمثل رفضاً قاطعاً ، وتحدياً لكل أنواع الظلم والإستبداد ، وموقفاً ثورياً أعاد الى الإنسان كرامته المهدورة .
فكانت هذه الشعائر تزيد مبادئ الثورة رسوخاً في الواقع الاجتماعي والسياسي ، وتؤكد أن كل زمان ومكان يحملان حسيناً ويزيداً وهما في صراع أزلي بين الحق والباطل ، بعد سلسلة من المحاولات اليائسة في العهد الملكي للتضييق على الشعائر الحسينية ، عادت مواكب العزاء عام 1958 إلى ممارسة هذه الشعائر وإقامة المآتم ، وحينما جاء البعثيون الى السلطة عام 1968 أظهروا في البداية تسامحاً تجاه العزاء الحسيني في محاولة لاستحالة الجمهور واحتواء مشاعر الناس ، لكنهم بدأوا بعدها يضيّقون الخناق تدريجياً ، في محاولة دنيئة لطمس الشعائر الحسينية ، وتقييد حركتها ومراقبتها ، وتحديد مدة المواكب في القيام باللطم ، وكذلك تحديد مكبرات الصوت التي تنصب في الحسينيات والمواكب للعزاء.
كما كانت هناك محاولات لتمرير شعاراتهم البغيضة من خلال الشعائر الحسينية ، وفي عام 1975 منعت السلطة البعثية جميع المواكب الحسينية من القيام بشعائرها ليلة العاشر من محرم ، غير ان المواكب في النجف الأشرف ضربت القرار البعثي عرض الحائط ، وخرجت بعد منتصف الليل إلى الصحن الحيدري الشريف لأداء مراسيم العزاء ، فحصلت مواجهات مع السلطة ، تم خلالها اعتقال عدد من المشاركين في المواكب ، وفي العشرين من صفر من العام التالي قامت السلطة بمنع مسيرة السير على الأقدام من النجف الاشرف الى كربلاء لزيارة الأربعين ، غير ان المواكب تحدت السلطة ، فخرج الآلاف وواصلوا مسيرتهم الى كربلاء ، وفي العام التالي شددت الحكومة على منع هذه الشعيرة ، غير ان الناس خرجوا على شكل مجموعة كبيرة وهي تهتف (يا حسين - يا حسين) ، وتوسعت هذه المجموعة بانضمام بقية الناس اليها ، فتحولت الى تظاهرة جماهيرية عارمة وهي تهتف (لو قطعوا أرجلنا واليدين *** نأتيك زحفاً سيدي يا حسين).
وفي بداية الثمانينات شنت السلطة البعثية حملة شرسة ودنيئة ضد كافة الشعائر الحسينية ، وقامت باعتقال الكثير من الخطباء الحسينيين وإعدامهم ، ويمكننا القول أن فترة البعثيين كانت أقسى على هذه الشعائر من فترة الأمويين والعباسيين .
وبانتهاء هذه الفترة المظلمة وزوال هذا الكابوس بسقوط الظلم عام (2003) ، عادت الحناجر العاشقة والقلوب الواله التي عشقت الحسين (عليه السلام) ، تهتف باسمة ، لتؤكد للتاريخ أن هذه الشعائر التي استمدت من ثورة سيد الشهداء ديمومتها ، لن تموت أبداً ما دام فيها ذكره ، وسيتوارثها الموالون جيلاً بعد جيل .
السلام على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين (عليهم السلام) ، والسلام على من سار على نهجهم ودربهم في إحياء شعائره ، رحم الله الماضين منهم وحفظ الياقين ، وسدد القادمين .