هو آخر أيام الدنيا وأول منازل الآخرة، وهو بمثابة القنطرة التي يعبر من خلالها الإنسان من عالم الدنيا إلى عالم الآخرة.
إلى عالم لا زيف فيه حيث تبدو كلُّ الحقائق ماثلةً أمام العين، وهو ارتقاء لمرحلة أقوى وأشد حياة من الحياة الدنيوية المادية.
الموت في الأحاديث الشريفة
وصفت الروايات الشريفة الموت بالعديد من الأوصاف، منها:
الجسر
فقد وصف النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم الموت بقوله: "الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر، والموت جسر هؤلاء إلى جنّاتهم وجسر هؤلاء إلى جحيمهم"1.
فحرية المؤمن في التخلص من قيود الدنيا وأسرها، لعالم القرب من الله تعالى، وكلُّ ما في الدنيا بالنسبة له بلاء وامتحان، ولذلك كانت سجناً كبيراً، أمَّا بالنسبة للكافر فالدنيا هي الجنّة لأنَّه لم يعش فيها بهمٍّ سواها، ولم يكن يعمل لذلك اليوم الذي هو أحوج ما يكون فيه لِمَا استغلَّه في دنياه التي ذهبت إلى غير رجعة، ولاتَ حين مندم.
أكّد بيان الله تعالى في القرآن الكريم، في أكثر من موضع، أنَّ الموت ليسَ عدماً، وإنَّما هو انتقال من الحياة الدنيوية هذه إلى الحياة البرزخية التي تفصل ما بين الحياة الدنيا والحياة الآخرة.
القنطرة
وتحدّث الإمام الحسين بن علي عليه السلام عن الموت فقال: "ما الموت إلاّ قنطرة تعبر بكم من البؤس والضّراء إلى الجنان الواسعة، والنعيم الدائم، فأيُّكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر"2. فهو ليس بالنهاية، بل هو البداية للعالم الآخر، العالم الذي تتجلى فيه كلُّ الحقائق التي لم نكن ندركها بالحواس المحدودة في إطار المادة، فهناك العالم الأرحب، ولذا شبَّهها عليه السلام بالقصر.
النوم الطويل
فقد سئل الإمام الباقر عليه السلام: ما الموت؟ قال: "هو النوم الذي يأتيكم كلَّ ليلة إلاّ أنّه طويل مدّته، لا يُنتبه منه إلى يوم القيامة..."3.
الموت سنَّةٌ عامةٌ في الخلق
قال تعالى: ?ومَا جَعَلْنَا لِبَشَر مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَئِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُون?(الأنبياء:34).
وقال تعالى: ?كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ?(آل عمران:185).
إنَّ الموت هو الحقيقة الحتمية التي لا مفر منها لأحد، مهما علا شأنه في الدنيا، فالبشر يموتون حتى الأنبياء منهم، ولو كان الخلد يحقُّ لأحد لفضل استحقه، لكان الأنبياء عليهم السلام أحقَّ الناس بالخلد، وإلى هذا المعنى أشار أمير المؤمنين عليه السلام في الشعر المنسوب اليه في رثاء حبيبه رسول الله الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم:
الموتُ لا والداً يُبْقِي وَلا وَلَداً
هذا السبيل إلى أن لا ترى أحَدَا
هـذا الـنبيُّ ولـم يخلـدْ لأمَّـتِهِ
لـو خَلَّـدَ الله خلقَـاً قـبْلَــهُ خـلـدا
للموت فينا سهامٌ غيرُ خاطئةٍ
من فاته اليوم سهمٌ لم يفُتهُ غَدَا
ويقول الإمام علي عليه السلام: "ولو أنّ أحداً يجد إلى البقاء سلّماً، أو لدفع الموت سبيلاً، لكان ذلك سليمان بن داود عليه السلام، الذي سخّر له ملك الجنّ والإنس"4.
ما هي حقيقة الموت؟
أكّد بيان الله تعالى في القرآن الكريم، في أكثر من موضع، أنَّ الموت ليسَ عدماً، وإنَّما هو انتقال من الحياة الدنيوية هذه إلى الحياة البرزخية التي تفصل ما بين الحياة الدنيا والحياة الآخرة.
.. ولمّا كان الموت فيما أخبر عنه القرآن الكريم انفصالَ الروح عن الجسد فإنَّ كلَّ ما نراه من أمور عند موت الإنسان، كسكون القلب، وغياب الإحساس،... هذه الأمور وأمثالها ليست هي جوهر الموت، وإنَّما هي من عوارضه وآثاره.
وقد يؤمن أناس بأنَّ الموت هو انتهاء من الحياة إلى العدم، فأصبحت كلمة "العدم" تعبيراً عن الموت عندهم، ولكنَّ الموت كما أخبرَنا عنه "خالق الموت والحياة عزّ وجلّ" ليس عدَماً، بل هو انتقال الكائن الحيّ من هذه الحياة الدنيا إلى حياة البرزخ.. ومن ثم لما أعدّه الله له من نعيم القبر أو عذابه.. يقول الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام:
"أيّها الناس، إنّا خلقنا وإيّاكم للبقاء، لا للفناء لكنَّكم من دار إلى دار تنقلون"5.
الموت مرحلة
الموت هو المرحلة الثالثة من أربع مراحلَ جعل الله سبحانه وتعالى الإنسان على ميعادٍ معها:
المرحلة الأولى: حياة الأجنَّة إذ يكون الجنين في عالم الأرحام.
المرحلة الثانية: هي مرحلة هذه الحياة الدنيا، التي نتقلَّب في غمارها ونبتلى فيها، وهي الفرصة السانحة لنا للتزود فيها لسفر الآخرة الطويل والشاق.
المرحلة الثالثة: هي الحياة البرزخيَّة، التي نحن على ميعادٍ معها عمَّا قريب.
المرحلة الرابعة والأخيرة: هي مرحلة الحياة الآخرة.
وكلُّ مرحلة من هذه المراحل الأربع أوسع من المرحلة التي قبلها، فمرحلة الحياة الدنيا أوسع بكثير من تلك المرحلة التي كنَّا نتقلَّب فيها حينما كنَّا في عالم الأرحام، ومرحلة الحياة البرزخيَّة هي أوسعُ بكثيرٍ وأقوى من هذه الحياة التي نتقلَّب فيها اليوم.
لماذا يستوحش الإنسان من الموت؟
إنَّ الإنسان محبٌ للبقاء، وهذا ميلٌ طبيعيٌّ فيه، ويعبِّر عن ذلك بغريزة حبِّ البقاء، والناس في الحياة الدنيا إزاء الموت على قسمين:
قسمٌ يستوحش منه لأنَّ كواهلهم مثقلة بعظائم الذنوب، فإذا فوجئوا بالموت، يلجأون إلى التوبة والإنابة، ويندمون، ولكن لاتَ ساعة مندم.
وقسمٌ آخر، يشتاقون إلى الموت ويتلقَّونه بصدورٍ رحبةٍ، ووجوهٍ مشرقةٍ، وهؤلاء هم الأنبياء والأولياء والعلماء والشهداء، ومن كان يعمل صالحاً في حياته الدنيا من سائر المؤمنين.
فهذا أمير المؤمنين عليه السلام يقول في أواخر لحظات حياته: "والله ما فاجأني من الموت واردٌ كرهته، ولا طالعٌ أنكرته، وما كانت إلا كقاربٍ وَرَدَ، وطالبٍ وَجَدَ، وما عند الله خير للأبرار"6.
ويقول عليه السلام:"والله، لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمّه"7.
جهل الناس بأوان موتهم
اقتضت الحكمة الإلهية أن يجهل الناس زمان ومكان موتهم.
يقول سبحانه ?وَمَا تَدْري نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْض تَمُوتُ?(لقمان:34).
ولعلَّ الحكمة في ذلك أن يكون الإنسان على استعداد لاستقبال الموت في أيِّ وقت جاء وهو على طاعة الله، ولو علم الإنسان بزمن موته فإنَّ ذلك يشجّعه على الفجور والعصيان متكلاً على التوبة والإنابة والتسويف قبل مدّة من حلول أجله.
يقول الشاعر
يَا مَن بِدُنيَاهُ انشَغَلْ
قَدْ غَرَّهُ طُولُ الأمَلْ
الموتُ يأتِي بَغْتَةً
والقَبْرُ صندُوقُ العَمَلْ
أشعار الحكمة
قال أبو العتاهية في ذكر الموت:
ستُباشِرُ التَربَاء خدَّك
وسَيَضحَكِ البَاكُونَ بَعْدَكْ
ولينزِلنَّ بِكَ البَلى
وليخلفَنَّ المَوتُ عَهدَكْ
وليفنِيَنَّكَ مِثلَ ما
أفنَى أبَاكَ بَلى وجدَّكْ
لو قَد رَحَلتَ عَنِ
القُصُور وطِيبِهَا وَسَكَنْتَ لَحدَكْ
لم تَنتَفِعْ إلا بِفِعلٍ
صَالِحٍ قَد كَانَ عِندَكْ
وترَى الذينَ قَسَمْتَ
مَالكَ بَيْنَهُم حِصَصَاً وكَدَّكْ
يَتَلذَّذُونَ بِمَا جَمَعْتَ
َهُمْ وَلا يَجِدُونَ فَقْدَكْ
الموت على المؤمن
روي عن أبي بصير قال: قُلتُ لأبي عبد الله عليه السلام: جُعلتُ فداك يُستكره المؤمنُ على خروجِ نفسه؟
قال: لا واللهِ.
قال: قلتُ: وكيفَ ذاك؟
قال: إنَّ المؤمنَ إذا حضرتْه الوفاةُ حضرَ رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهلُ بيته: أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالب، وفاطمة، و الحسنُ والحسينُ، وجميعُ الأئمّةِ عليهم السلام، ولكنْ أَكِنُّوا عن اسمِ فاطمة ويحضره جبرئيل وميكائيلُ وإسرافيلُ وعزرائيلُ".
قالَ: فيقولُ أميرُ المؤمنين عليُّ بن أبي طالب عليه السلام: يا رسولَ الله إنّه كانَ ممّنْ يحبّنا ويتولاّنا فأحِبَّهْ. قال: فيقولُ رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا جبرئيل إنّه ممّنْ كانَ يحبُّ علياً وذرّيَّتَهُ فأحبّهُ، وقالَ جبرئيلُ لميكائيل وإسرافيل مثلَ ذلك. ثمَّ يقولون جميعاً لملكِ الموتِ: إنـَّه ممّن كانَ يحبّ محمّداً وآله ويتولَّى عليّاً وذرّيّتَهُ فارفقْ به.
قال: فيقولُ مَلَكُ الموتِ: والّذِي اختاركم وكَرّمكم واصطفى محمّداً صلّى الله عليه وآله بالنبوّةِ، وخَصّهُ بالرِّسالةِ، َلأنَا أَرفقُ بِهِ من والدٍ رفيقٍ، وأشفقُ عليه من أخٍ شفيقٍ.
ثمّ قامَ إليه ملكُ الموتِ فيقول: يا عبدَ الله أخذتَ فكاك رقبتكَ؟ أَخَذْتَ رَهْنَ أَمانِكَ؟
فيقولُ: نَعَم. فيقولُ ملكُ الموتِ: فبماذا؟ فيقول: بحبّي محمّداً وآله، وبولايتي علي ابن أبي طالب وذرّيَّته.
فيقول: أمّا ما كنتَ تحذرُ فقد آمنك اللهُ منه، وأمّا ما كنتَ تَرجو فقد أتاكَ اللهُ به. إفتحْ عينيكَ فانظرْ إلي ما عندك.
قال: فيفتح عينيه فينظرُ إليهم واحداً واحداً، و يُفتحُ له بابٌ إلي الجنّةِ فينظر إليها. فيقولُ له: هذا ما أعَدَّ اللهُ لكَ، وهؤلاءِ رفقاؤك، أفَتحبّ اللحاقَ بهم أو الرجوعَ إلى الدنيا؟ قال: فقال أبو عبد الله عليه السلام: أمَا رَأيتَ شُخوصَهُ وَرَفْعَ حاجبيْه إلي فوق مِن قوله: "لاَ حاجةَ لي إلي الدُّنيا ولا الرجوع إليها. ويناديه منادٍ من بطنانِ العرش يسمعه ويسمع من بحضرته:?يَـا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ?(سورة الفجر:27) إلى مُحَمَّدٍ وَوَصِيِّهِ والأئمة مِنْ بَعْدِهِ ?ارْجِعِي إلَى رَبِّكِ رَاضِيَّةً?(سورة الفجر:28) بالْوِلاَيَةِ، ?مَّرْضِيَّةً? بِالثَّوَابِ، ?فَادْخُلِي فِي عِبَـادِي?(سورة الفجر:29) مَعَ مُحَمَّدٍ وَأَهْلِ بَيْتِهِ ?وَادْخُلِي جَنَّتِي?(سورة الفجر:30) غَيْرَ مَشُوبَةٍ.
* رحلة الآخرة, نشر جمعية المعارف الثقافية
-------------------------------------------------------
الهوامش:
1 - المجلسي محمد باقر بحار الأنوار مؤسسة الوفاء، الطبعة الثانية المصححة ج6، ص154.
2- المجلسي محمد باقر بحار الأنوار مؤسسة الوفاء، الطبعة الثانية المصححة ج6، ص154.
3- م.ن ج 6 ص 155.
4- نهج البلاغة، الخطبة 182.
5- المفيد محمد بن محمد بن النعمان الإرشاد دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع بيروت لبنان ص 127.
6- مروج الذهب: ج2، ص436.
7- نهج البلاغة، الخطبة 5