الأمر الخامس: الموت وأقسامه
ينقسم الموت إلى أقسام نأتي بها فيما يلي
أـ الموت السهل والموت العسير
لا شكّ أنّ الإنتقال من مرحلة إلى مرحلة أُخرى، لا يخلو من مشقة، حتى أنّ الطفل عندما ينتقل من عالم الأجنّة إلى عالم الشهود، يتحمل جهداً ومشقة بالغين. وللإ نسان في إطار حياته في النشأتين مراحل حسّاسة تعدّ كلٌّ منها منعطفاً في مسيرته الوجودية، وهي: مرحلة التّولّد، ومرحلة الموت، ومرحلة البعث، وإلى ذلك يشير قوله سبحانه: (وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا)(مريم:15)1.
فالموت أحد هذه الحلقات الرئيسية في وجود الإنسان، فهو لا يخلو بطبعه من مشقة وعسر، ولكن لو غضّ البصر عنه، فالموت حسب القرآن ينقسم إلى موت سهل وموت عسير:
الأوّل لصلحاء المؤمنين، والثاني للعصاة والكافرين.
يقول سبحانه: (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلاَمٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(النحل:32).
ويقول سبحانه: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً)(الفجر:27-28).
ويقول سبحانه في العصاة والظالمين: (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ)(ق :19).
ويقول سبحانه: (فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ)(محمد:27).
وفي الروايات الإسلامية أخبار كثيرة فيما قدمنا2.
ب ـ موت البدن وموت القلب
وهناك تقسيم آخر للموت حسب متعلقه، وهو أنّه تارة ينسب إلى الجسم والبدن، وأُخرى إلى القلب ومراكز الإدراك، والأول هو الموت الطبيعي، والثاني من شؤون بعض الأحياء، إذا حلّ الكفر محلّ الإيمان، والجهل مكان العلم في قلوبهم، فهؤلاء أموات بهذا النظر، وإن كانوا أحياء ماديين يأكلون ويشربون ويتحركون، يقول سبحانه: (إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ)(النمل:80) ويقول: (وَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِج مِنْهَا)(الأنعام:122)3.
ولا يختص الموت بهذه الطغمة الظالمة، بل يعمّ المتخاذلين المستبطئين في الدفاع عن عزّهم وكيانهم، ليعيشوا أياماً أو أعواماً صاغرين، فهؤلاء أموات في منطق الإمام علي عليه السلام، كما أنّ المتفانين في حفظ عزّتهم وكرامتهم أحياء، وإن تضرّجوا بدمائهم في سوح الجهاد، يقول عليه السلام: "فالموت، في حياتكم مقهورين والحياة، في موتكم قاهرين "4.
كما أنّ من لا يحسّ بالمسؤولية أمام المجتمع، ويترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعامة مراتبهما، ميّت الأحياء، يقول علي عليه السلام: "ومنهم تارك لإنكار المنكر بلسانه، وقلبه ويده، فذلك ميّت الأحياء"5.
ج ـ موت الفرد والمجتمع
إنّ للفرد شؤوناً من أوج وحضيض، ورقي وهبوط، وموت وحياة، كما أنّ للمجتمع نفس تلك الشؤون، حرفاً بحرف.
مثلا: إنّ الثورة نواة تنبت وتشتد وتستوي وتأخذ لنفسها حالة الهجوم والاندفاع، ولا تبرح على تلك السّمة حتى تنتقل إلى حالة أُخرى، تأخذ لنفسها حالة الدفاع، وردّ السّهام الموجهة إليها. ولن تبرح على تلك الحالة حتى ينجرّ أمرها إلى الانكسار والإنقراض.
نظير ذلك جميع الحضارات البشرية، والمناهج الاقتصادية والسياسية والإنسانية، فلكلٍّ منها حالات ثلاث: هجوم، دفاع، خمود.
فكما أنّ لكل فرد حياةً وموتاً وأجلاً حسب القرآن، كذلك إنّ للمجتمع حياةً وموتاً وأجلاً.
يقول سبحانه: (وَلِكُلِّ أُمَّة أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُون)(الأعراف:34)6.
ويعود القرآن ليبين، عامل تدمير الحضارات والمجتمعات والأنظمة البشرية، ويركز على الظلم بالأخص، وعلى الإتراف ثانياً، فالظلم خروج عن الحدّ الوسط، والإتراف هو الانهماك في المعاصي، وكلاهما يعجل في هلاك المجتمع واندثاره.
يقول سبحانه: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْم وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ)(هود:117). ويقول أيضاً: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا (بالطاعة) فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً)(الإسراء:16).
ويقول سبحانه: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوح وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً)(الإسراء:17). والإمعان في هذه الآيات يفيد أنّ الظلم والفسق والذنوب، مدمرات للمجتمع7.
د ـ موت العزّ وموت الهوان
ينقسم الموت إلى موت عزٍّ وموت هوان، فالفادون أنفسهم في طريق نشر القسط والعدل والعلم وسائر المبادئ الإلهية يموتون موت عزّ وشرف، والذين يقاتلون في سبيل الطاغوت ونشر الشّر والجهل والفساد، لغاية نيل أجور ضئيلة ومناصب مؤقتة، يموتون موت الهوان والذلّ والعار.
يقول سبحانه: (وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ)(البقرة:154)8.
ويقول سبحانه فيمن خرج طالباً للعلم والإيمان: (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ)(النساء:100)9.
*الإلهيات،آية الله جعفر السبحاني
--------------------------------------------------------
الهوامش:
1- مريم:33.
2- بحارالأنوار،ج6 ص 122-154.
3- الروم:51-52.
4- نهج البلاغة الخطبة 51.
5- نهج البلاغة، قسم الحكم، الرقم:374.
6- يونس:49.
7- وأما ما هي الصلة بين هذه العوامل وتدمير المجتمع وانحلاله، فهو يحتاج إلى بيان خارج عن موضوع الكتاب، غير أنّا نقول إجمالاً: إنّ بين هذه العوامل وإهلاك المجتمع، رابطة مادية وطبيعية، وفي الوقت نفسه رابطة إلهية، الوقوف على العلل المادية لا يغني عن الإذعان بأنّ هناك رابطة غيبية بين هذه العلل ومعلولها.
8- آل عمران :169.
9- الحج:58.