قد تعرفت على أنّ أصل الشفاعة أمر مفروغ منه، وأنّ المخلصين من عباده يشفعون يوم القيامة بعد اذنه وارتضائه، لكن يقع الكلام في جواز طلب الشفاعة من الأولياء في هذه النشأة.
فذهب ابن تيمية وتبعه محمد بن عبدالوهاب - مخالفين الأمة الاسلامية جمعاء - الى انّه لا يجوز طلب الشفاعة من الأولياء في هذه النشأة ولا يجوز للمؤمن إلاّ أن يقول: اللّهم شفّع نبيّنا محمداً فينا يوم القيامة، ولا يجوز ان يقول: يا رسول اللّه، اشفع لي يوم القيامة.
واستدلا على ذلك بوجوه لابأس بذكرها والاجابة عنها على وجه الاجمال.
الوجه الأوّل: انّه من أقسام الشرك، أي الشرك بالعبادة، والقائل بهذا الكلام، يعبد الولي8.
والجواب، إما نقضاً:
فبأنّه لو كان طلب الشفاعة في هذه النشأة من الأنبياء والأولياء شركاً، لوجب أن لا يكون هناك فرق بين حياتهم ومماتهم، مع أنّ القرآن يدعو المؤمنين إلى أن يلجأوا الى حضرة الرسول في حال حياته ويطلبوا منه أن يستغفر لهم، يقول سبحانه: "وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً"(النساء:64). وليس طلب الاستغفار من النبي إلاّ طلباً للشفاعة، إذ ليس معنى قولنا: يا رسول اللّه إشفع لنا عند اللّه، إلاّ أدع لنا عند ربك بالخير والمغفرة.
وإمّا حلاًّ
فقد عرفت أنّ طلب شيء من أي شخص كان، إنما يعد عبادة، إذا اعتقد أنّه إله أو ربّ، إو أنّه مَفوّض إليه فعل الخالق وتدبيره وشؤونه وأما الطلب من الشخص بما أنّه عبد صالح محبوب عند اللّه، فلا يعدّ عبادة للمدعوسواء أكان نافعاً أولا.
الوجه الثاني
إنّ طلب الشفاعة من النبي يشبه عمل عبدة الأصنام في طلبهم الشفاعة من آلهتهم الكاذبة، وقد حكى القرآن ذاك العمل منهم، وقال:
"وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ"(يونس:18).
وعلى ذلك فالاستشفاع من غيره سبحانه، عبادة لهذا الغير9.
والجواب
إنّ المعيار في القضاء ليس هو التشابه الصوري، بل المعيار هو البواطن والعزائم ولو صحّ ما ذكره لوجب أنْ يكون السعي بين الصفا والمروة، والطواف حول البيت، شركاً، لقيام المشركين به في الجاهلية، وقد عرفت أنّهم كانوا يطلبون الشفاعة من الأوثان باعتقاد أنّها آلهة أو أشياء فوّض إليها أفعال اللّه سبحانه من المغفرة والشفاعة.
وأين هذا من طلب الشفاعة من الأنبياء والأولياء بما أنّهم عباد اللّه الصالحون. فعَطْفُ هذا على ذلك، جَوْر في القضاء، وعناد في الاستدلال.
وأما الاستدلال بالآية الثانية، فهو ضعيف من وجهين
الأوّل: إنّ الآية على خلاف ما يدّعيه أدلّ، لأنّ عطف?وَيَقولونَ?، على قوله: ?وَيَعبدون?، دليل على أنّ العمل الثاني ليس عبادة، أخذاً بحكم العطف الدال على المغايرة. وبعبارة أخرى: إنّ المشركين كانوا يقومون بعملين، العبادة أوّلا، وقولهم هم شفعاؤنا، وطلب الشفاعة منهم ثانياً، وعلة اتّصافهم بالشرك هو الأوّل لا الثاني.
الثاني: لو فرضنا أنّ الجملة الثانية، جملة تفسيرية للأُولى، فنقول: إنّ توصيف طلب الشفاعة من الأوثان بالعبادة لا يستلزم توصيف طلب الشفاعة من الأولياء بها أيضاً، لما عرفت من الاختلاف في العقيدة، وأنّ الشافعين كانوا عند عَبَدَةِ الأصنام آلهة، وعند المؤمنين عباداً صالحين، وأين هذا من ذلك؟!
الوجه الثالث
إن طلب الحاجة من غيره سبحانه حرام، فإن ذلك دعاء لغير اللّه، وهو حرام.
قال سبحانه: "فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا"(الجن:18).
ويدل على أنّ الدعاء في الآية عبادة، قوله سبحانه: "ادْعُوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ"(غافر:60). فقد عبّر عن العبادة في الآية بلفظ"الدعوة" في صدرها، وبلفظ العبادة في ذيلها، وهذا يكشف عن وحدة التعبيرين في المعنى. وقد ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم : "الدعاء مخ العبادة".
والجواب
إنّ القول بأنّ دعاء الغير في جميع الظروف مساوق للعبادة، شيء لا أساس له، وإلا يلزم أنْ لا يُسَجّل اسم أحد في سجل الموحدين، فإنّ الناس لا ينفكّون عن التعاون، واستعانة بعضهم ببعض، ودعوة الواحد منهم الآخر. وعلى ذلك فيجب أن يقال إنّ قسماً- فحسب - من الدعاء مساوق للعبادة، وهو دعاء الشخص بما أنّه إله، وبما أنّه رب، أو بما أنّه مفوّض إليه أفعاله سبحانه. فدعاؤه بهذه الخصوصيات، مساوق لعبادته.
والآية ناظرة إلى هذ القسم من الدعاء بقرينة قوله ?مَعَ اللهِ?، معرباً عن أنّ الداعي يرى المدعو مشاركاً للّه سبحانه في مقام أو مقامات، ومن المعلوم أنّ الدعاء بهذه الخصوصية شرك بلا إشكال، والمشركون في الجاهلية، كانوا يسوون بين الأوثان ورب العالمين، ويدل عليه قوله سبحانه حاكياً قولهم يوم القيامة:"تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلاَل مُبِين * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ"(الشعراء:97- 98).
فأي كلمة أظهر من التعبير عن عقيدة المشركين في حق الأوثان بأنها كانت عندهم ورب العالمين، سواسية .
فقياس دعوة الصالحين من الأنبياء والأولياء، بدعوة الأصنام والأوثان، قياس مع الفارق البالغ، لا يعتمد عليه إلا من سبق له الرأي في هذا المجال، ويريد التمسك بالطحلب والحشيش .
الوجه الرابع
إنّ الشفاعة حق مختص باللّه لا يملكه غيره، وعلى ذلك فطلبها من غير مالكها أمر غير صحيح، قال سبحانه:"أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلاَ يَعْقِلُونَ * قُلْ للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا..."(الزمر:43 - 44).
والجواب: إنّ المراد من قوله سبحانه: ?قُلْ للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا?، ليس أنّه هو الشفيع دون غيره، إذ من الواضح أنّه سبحانه لا يشفع لأحد عند الغير، بل المراد أنّه المالك لمقام الشفاعة دون غيره، فليس في الوجود من يملك المغفرة والشفاعة وغيرهما مما هو من شؤونه سبحانه، غيره.
ولكن هذا لا ينافي أنْ يملكها الغير بتمليك منه سبحانه، وفي طول ملكه، كما هو صريح قوله سبحانه: "وَلاَ يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ "(الزخرف:86)، فإن الاستثناء في قوله ?إلاّ? يرجع إلى قوله: ?لا يَمْلكُ?. فتكون النتيجة أنّه يملك من شهد بالحق، الشفاعة، لكن بتمليك منه سبحانه: فهو المالك بالأصالة، وغيره مالك بالتمليك والعَرَض.
وليس هذا مختصاً بالشفاعة المصطلحة بل الشفاعة التكوينية أيضاً كذلك، لأن الأثر الطبيعي لجميع الأسباب التكوينية، يرجع إليها لكن بتسبيب منه سبحانه، فلولا أنّه جعل النار حارة، والشمس مضيئة، والقمر نوراً، لا تجد فيها تلك الآثار.
الوجه الخامس
أنّ طلب الشفاعة من الميت أمر باطلٌ .
والجواب: أنّ هذا آخر سهم في كنانة القائلين بحرمة طلب الشفاعة من أولياء اللّه الصالحين، والإشكال ناجم من عدم التعرف على مقام الأولياء في كتاب اللّه الحكيم. وقد عرفت أنّ القرآن يصرّح بحياة جموع كثيرة من الشهداء وغيرهم، كما عرفت أنّه يصرح بكون النبي شهيداً على الأمة في قوله سبحانه: "فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّة بِشَهِيد وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيداً"(النساء:41). فهل تعقل الشهادة بدون الحياة، والاطّلاع على ما يجري بينهم من الأُمور، من كفر وإيمان وطاعة وعصيان؟. فلو كان النبي ميّتاً كسائر الأموات، فما معنى التسليم عليه في كل صباح ومساء، وفي تشهد كل صلاة: "السلام عليكَ أيها النبي ورحمة اللّه وبركاته"؟ وما معنى خطابه بـ"عليك"؟. وحمل ذلك على الشعار الخالي والتحية الجوفاء، تأويل بلا دليل.
وأما قوله سبحانه في حقّ الموتى "إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ"(النمل:80) فهو لا يدلّ إلا على أنّ الأموات المدفونين في القبور، لا يسمعوه ولا يفهموه، وأنّهم كالجماد، ولذلك شبّه المشركين بهم في عدم التعقل، وهو أمر غير منازع فيه، فأنّ الأبدان بعد الموت، جمادات محضة، من غير فرق بين جسد النبي وغيره.
غير أنّ المؤمنين لا يطلبون الشفاعة من أجساد الصالحين وأبدانهم، بل يطلبونها من أرواحهم المقدسة الحية عند اللّه سبحانه، بأبدان برزخية.
فالزائر القائل: "يا محمّد إشفع لي عند اللّه"، لا يشير إلى جسده، بل إلى روحه الزكية، غير أنّ الوقوف عند قبره الشريف يدفع له استعداداً لأن يتصل بروحه ويخاطبها.
إلى هناتم عرض الإشكالات الضئيلة التي استدل بها على تحريم طلب الشفاعة من الأولياء، والإجابة عليها بما لا يدع مجالاً بعدها للشك في الجواز.
*الإلهيات، آية الله جعفر السبحاني،
--------------------------------------------------------------------------------
الهوامش:
1- الهدية السنية، ص 42.
2- كشف الشبهات لمحمد بن عبد الوهاب، ص 6.