تمهيد
كلنَّا يبحث عن السعادة، ولكن لا توجد سعادة كاملة في الدنيا، فالدنيا زائلة، والسعادة الحقيقية في الجنَّة ونعيمها...
والجنَّة دار جعلها اللّه تعالى مستقرّاً لمن أطاعه، "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ"(البروج:11).
وهي المرحلة النهائيَّة لرحلة الإنسان المؤمن، حيث هي دار القرار، ومبدأ الحياة الأبدية، التي لا زوال عنها، وهي غاية المؤمنين، ولها يعملون إذ لا نعيم يدانيها، بل كلُّ نعيمٍ دونها محقُور، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: "وكلُّ نعيمٍ دون الجنَّة محقُور"1.
وهناك آياتٌ كثيرةٌ تتحدث عن خواص الجنة وأصحابها، والنِّعم الموجودة فيها من الحدائق، والأنهار، والعيون، والأطعمة، والأشـربـة الـطـهـورة، والألبسة، والحور العين، والولدان المخلَّدين، والخدم، والإحـتـرام، والإكرام المنقطع النظير من الملائكة، وكذلك المواهب المعنويَّة واللذائذ الروحية. فما هي الجنة، وماذا أعدَّ الله لأهلها، وما سبب ورودها والفوز بها؟
معنى الجنَّة
أما المعنى اللغوي: فهي بمعنى البستان، والمكان الَّذي فيه زرع وثمار وأشجار، تواري من سار فيها وتستره، أمَّا في المصطلح الشرعي، فإنَّها الدار التي أعدَّها الله تعالى لثواب المؤمنين في الآخرة.
إنَّ الجنَّة نعيم محض، فلا يعتريها ما في الدنيا من الكدورة والشقاء، فالمياه في الدنيا عندما تجري تكون حلوة ورائقة وصافية وإن ركدت فهي تأسن وتكون عطنة. ولذلك يوضح لنا الحقُّ سبحانه أنَّ المياه في الجنة غير آسنة وأنَّها تكون أنهاراً منزوعاً من مياهها ما يكدِّرها
الوصف العام للجنَّة
لأنَّ الجنَّة فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ولأنَّها كما قال تعالى:"فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ"(السجدة:17).
فلذلك فإنَّ الله تعالى لا يصف الجنة بما هو واقعها، وإنَّما يصفها على نحو التقريب فيقول عزَّ وجلَّ: "مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ"(الرعد:35).
ويقول في آية أخرى: "مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاء حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ"(محمد:15).
فالله تعالى يضرب لنا المثل فقط لأنَّ الألفاظ التي نتخاطب بها نحن قد وضعت لمعانٍ نعرفه وإذا كانت في الجنة أشياء لم ترها عين ولم تسمعها أذن، ولم تخطر على بال بشر فمن الممكن أن نقول إنَّه لا توجد ألفاظ عندنا تؤدي معنى ما هناك، وبهذا نعرف أنَّ هناك فارقاً بين "مثل الجنَّة" وبين "الجنَّة.
وهنا يتجلَّى عجز اللغة عن أن توجَد بها ألفاظٌ تعبّر عن معنى ما هو موجود في الجنة، فلا أحد فينا يعلم ما هي الأشياء الموجودة بالجنة ما دام أحد منَّا لم يرَ الجنَّة.
خصائص نعيم الجنة
إنَّ الجنَّة لا تفنى ولا تبيد، والدليل على هذا ظاهر في كتاب الله عزَّ وجلَّ، قال تعالى عن الجنة: "عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ"(هود:108)، وقال سبحانه: "إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ"(ص:54)، وقال عزَّ وجلَّ: "أُكُلُهَا دَائِمٌ وِظِلُّهَا"(الرعد:35)، وقال تعالى عن فاكهة الجنَّة: "لاَ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَة"(الواقعة:33).
والإقامة في الجنَّّة إقامةٌ دائمة لا تنتهي ولا تزول، وليست كذلك جنات الدنيا، فهب أن واحداً يتمتع في الدنيا بالدور والقصور في الحدائق والبساتين التي هي جنَّة الدنيا، فهل تدوم له؟ إنَّ جنات الدنيا مهما عظم نعيمها، إما أن تفوتك، وإما أن تفوتها.
نعيم محض
إنَّ الجنَّة نعيم محض، فلا يعتريها ما في الدنيا من الكدورة والشقاء، فالمياه في الدنيا عندما تجري تكون حلوة ورائقة وصافية وإن ركدت فهي تأسن وتكون عطنة. ولذلك يوضح لنا الحقُّ سبحانه أنَّ المياه في الجنة غير آسنة وأنَّها تكون أنهاراً منزوعاً من مياهها ما يكدِّرها. وكذلك فإنَّ اللبن إذا بقي لمدة طويلة يتغيَّر طعمه ولذلك يضرب لهم المثل بوجود أنهار من لبن لم يتغيَّر طعمه.
وأيضاً يضرب المثل بوجود أنهار من عسلٍ مصفَّى، وبذلك يقدم لنا خير ما كنا نحبه من عسل الدنيا، ولكن بدون ما يكدِّره.
ويوضح سبحانه أيضاً أنَّ في الجنة أنهاراً من خمر، ولكنَّها خمرٌ تختلف عن خمرِ الدني فهي لا تؤثر على التكوين العضوي للعقل، كما أنَّ خمر الدنيا ليس فيها لذة للشاربين لأنَّها من كحول يكوي الفم ويلسعه.
ويقول الحقُّ سبحانه عن خمر أنهار الجنة: "فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ * يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْسٍ مِن مَّعِينٍ * بَيْضَاء لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ * لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ"(الصافات:43-47). أي: أنَّه سبحانه ينفي عن خمر أنهار الجنَّة كل المكدرات التي تشوب خمر الدنيا.
أبواب الجنة
تحدثت الروايات الشريفة عن أهل البيت عليهم السلام عن أبواب الجنة، ومن ذلك ما رُوِيَ عن الإمام الصادق عليه السلام، عن أبيه، عن جده، عن أمير المؤمنين علي عليه السلام:
"إنَّ للجنة ثمانية أبواب: بابٌ يدخل منه النبيّون والصدِّيقون، وبابٌ يدخل منه الشهداء والصالحون، وخمسة أبواب يدخل منها شيعتنا ومحبّونا، فلا أزال واقفاً على الصِّراط أدعو، وأقول: ربّ سلّم شيعتي ومحبيَّ، ومن تولاني في دار الدنيا، فإذا النداء من بطنان العرش: قد أجيبت دعوتك وشفعت في شيعتك. ويشفع كل رجل من شيعتي ومن تولاني، ونصرني، وحارب مَن حاربني بفعل أو قول، في سبعين ألفاً من جيرانه وأقربائه.وباب يدخل سائر المسلمين ممّن يشهد أن لا إله إلاّ الله ولم يكن في قلبه مقدار ذرّة من بغضنا أهل البيت"2.
ورُوِىَ عن الإمام الباقر عليه السلام أنَّه قال: "أحسنوا الظنّ بالله، واعلموا أنَّ للجنّة ثمانية أبواب، عرض كل باب منها مسيرة أربعين سنة"3.
رحلة الآخرة, جمعية المعارف الثقافية
----------------------------------------------------------------
الهوامش:
1- نهج البلاغة خطب الإمام علي عليه السلام ج4، ص93.
2- المجلسي محمد باقر بحار الأنوار مؤسسة الوفاء، الطبعة الثانية المصححة ج8، ص39.
3- المجلسي محمد باقر بحار الأنوار مؤسسة الوفاء، الطبعة الثانية المصححة ج8، ص131.