فشرع الله تعالى أحكاماً تحول دون تكوُّن الثروات بطريق غير عادل وغير مشروع وتحول بين أصحاب الثروات بعد أن تتكون لديهم الثروة بطريق مشروع وبين أن يستخدموها في استغلال الآخرين.
وشرع نظاماً للضرائب (الزكاة، الخمس) والمواريث يفتت هذه الثروات تدريجياً، ويحول بينها وبين التراكم والتعاظم، وأعطى للحاكم حق وضع اليد على ما تقضي به المصلحة العامة من أموال الأغنياء إذا قضت بذلك حاجة طارئة تعجز عن الوفاء بها المصادر التقليدية لتمويل النفقات العامة.
وشرع نظاماً للأموال العامة يغذّى من الضرائب ومصادر الثروة العامة، يضمن مستوى الكفاية في العيش لجميع الناس. وبذلك يحول بين المجتمع الإسلامي وبين أن توجد فيه ظاهرة الفقر بالمعنى الاقتصادي الاجتماعي المعروف، وإن كان هذا لا يعني أن يتساوى الناس في دخلهم وفيما يملكون، لأن هذا أمر مستحيل في أي مجتمع يتخيله الإنسان على الإطلاق. ويدخل في باب الأحلام والتصورات الطوباوية التي تاباها واقعية الإسلام.
وبذلك يشعر الفقراء أنهم ليسوا مهملين: لا عين ترعاهم، ولا يد تمسح جراحهم، وتقيلهم عثرات الزمان.. بل يشعرون أنهم ملء سمع المجتمع وبصره، فتختفي دوافع الإجرام من أنفسهم، وحينذاك يقول لهم الإسلام: إن المثل الأعلى هو الفضيلة، ويطلب إليهم أن يكونوا فضلاء... وأن يجعلوا الأرض أختاً للسماء.
فقد وعى الإمام أن الإنسان الجائع، المستغل، المحروم، المصفد بالأغلال لا يستطيع أن يكون فاضلاً، وأن من اللغو أن يوعظ بالوعد والوعيد، والترغيب والترهيب، وإن إنساناً كهذا ينقلب كافراً: كافراً بالقيم، والفضائل والإنسان.
إن معدته الخاوية، وجسده المعذّب، ومجتمعه الكافر بإنسانيته، المتنكر له، وشعوره بالاستغلال، وميسم الضعة الذي يلاحقه أنى كان - هذه كلها تجعله لصاً، وسفاحاً، وعدواً للإنسانية التي لم تعترف له بحقه في الحياة الكريمة.
ووعى أن المجتمع القائم على سيادة فريق وعبودية فريق، وعلى استغلال الأسياد للعبيد، والأحرار للمصفدين بالأغلال، مجتمع لا يمكن أن توجد فيه فضيلة ولا يمكن أن يوجد فيه فضلاء. إنه ليس إلا مجتمع لصوص ومجرمين وعبيد، تسيّر أفراده الأحقاد والمكر والاستغلال، وما كانت اللصوصية والعبودية وما إليها يوماً فضائل تشرف الإنسان.
على أساس من هذا الوعي جعل الإسلام الإصلاح الاقتصادي أساساً للإصلاح الاجتماعي.
ولقد كان من الطبيعي جداً - حتى عند المفكرين والمصلحين - في عصر الإمام وقبله أن يوجد أناس جائعون فقراء، وأن يوجد أغنياء يحارون كيف ينفقون أموالهم، فلم يكن الفقر بذاته والغنى بذاته مشكلة اجتماعية تطلب حلاً، لأنها في نظرهم أمر طبيعي لا محيد عنه. إنما المشكلة هي: كيف السبيل إلى إسكات الفقراء وحماية الأغنياء؟ فكان الإمام - بعد النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) هو أول من كشف أن الفقر والغنى مشكلة اجتماعية خطيرة، ونظر إليها على أساس أفاعيلها الاجتماعية.